الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإله والإنسان

محمود يوسف بكير

2012 / 10 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نحن جميعاً نتصور الأشياء غير المادية ونستوعب المفاهيم المختلفة ليست كما هي تماماً ولكن بحسب طبيعتنا ونشأتنا وثقافتنا ورغبتنا. وبمعنى آخر فإن عقلنا الباطن يعمل بسرعة لوضع تصور محدد لأي شيء لا يفهمه أو يراه لأول مرة.
وتمتد هذه الظاهرة لتشمل ايضاً الأشياء المادية وعلى سبيل المثال فعندما نطالع وجه امرآة جميلة دون سابق معرفة فإننا نقول انها تبدو كملائكة ولكنها في الحقيقة قد تكون شيطاناً ،وقد نرى امرأة أخرى فنقول عليها امرأة لعوب ولكنها قد تكون غير ذلك تماماً ،وفي الفن الحديث يوجد ما يسمى بالمدرسة الانطباعية والفنان من هؤلاء قد ينظر إلى رجل معين فيرسم ثعباناً أو ذئباً أو مجرد ظل رجل! فهكذا هو يراه.

ومعظمنا يميل إلى القفز إلى النتائج والاستنتاجات بسرعة دون تروي أو تمحيص ولو اننا فعلنا هذا لوفرنا على انفسنا الكثير من المعاناة والسؤال ورأينا الأشياء على حقيقتها. وبعبارة أخرى فإننا بحاجة لشيء من التأمل لمعرفة حقيقة الشيء ،وفي هذا قال الشاعر قديما:

لا تسل المرء عن خلائقه في عينيه شاهد من الخبر

والمعنى انك لست بحاجة للسؤال عن خلائق الكثير من البشر (وينطبق المعنى على الأشياء أيضا) ً فيمكنك ان تستعيض عن هذا بالنظر بعمق الى عينه ( أو فحوى الشيء ) عندئذ سوف ترى بصيصاً من حقيقة الشخص او الشيء وليس كل الحقيقة بالطبع ولذلك قال الشاعر "شاهد من الخبر" وليس كل الخبر. وصحيح فإن من لا يرزق متعة التأمل تتسطح أعماقه.

والحقيقة أن طبيعة تصورنا للأشياء غير المادية او المفاهيم قد تكون له اثار بليغة وأكثر خطورة على حياتنا من الأشياء المادية .
فمفهوم الإله مثلاً يختلف من ديانة لأخرى، بل وحتى داخل نفس الديانة ترى تبايناً واضحاً في تصور طبيعة الإله بين اتباعها ولذلك يمكن القول ان لكل منا إله خاص به .

فهناك من يرى الإله واقفاً بالمرصاد لنا في كل كبيرة وصغيرة وأنه يكره الموسيقى والنحت والتصوير والمسرح والسينما وحتى تعليم البنات وانه سينتقم انتقام عزيز مقتدر يوم الدين من كل من يرى بغير ذلك. والإخوة الأعزاء في حركة الطالبان يحملون لواء الريادة في هذا المضمار ويؤمنون بأن الله قد منحهم توكيلا مفتوحا للدفاع عن ملكوته في الأرض وإعلاء كلمته كما يفهمونها هم وليس كما يفهمها الآخرون ومن يختلف معهم يستحق القتل والحرق والتدمير.


وهناك من يرى أننا لا نعدو ان نكون مجرد صدفة في هذا الكون الفسيح وأننا جئنا وسنمضي وكأننا لم نكن وحتى لو كان هناك إله فلابد أنه مشغول عنا بأشياء أكبر بكثير من تفاهاتنا ،فكما اننا غير مشغولين بأمور النمل والهاموش فإننا لا نزيد عن هذا امام الإله ، وأصحاب هذا التصور العبثي لا يعبئون بأي شيء فلا كتاب ولا سماء ولا يعيشون إلا لإشباع غرائزهم ولا يبالون كثيرا بالآخرين .

وبين اولئك وهؤلاء فهناك من يرى ان الإله محبة ونور وهداية وانه متعال وغفور رحيم وانه سيرحم ضعفنا ونقصنا ويتجاوز عن اخطائنا الصغيرة طالما اننا لم نقصد بها ايذاء مخلوقاته دون مبرر او استغلال ضعفهم أو امتهانهم.

والحقيقة أنه ليس بمقدور احد ان يجزم بصحة اي من هذه التصورات عن الإله بنسبة 100% ولكن بما ان الفضيلة والاعتدال هي المنطقة الواقعة بين نقيضين متطرفين وغير مستحبين كما هو الحال بين البخل والإمساك بشدة وبين التبذير إلى حد السفه وكما هو الحال بين التشدد وضيق الافق الممقوت وبين التسيب والتهتك والابتذال بلا حدود ،فإن الأرجح والأقرب للحقيقة هو التصور الأخير. ويؤكد هذا أيضا ما نسميه في عالم الاقتصاد بمنحنى التوزيع الطبيعي الذي يعبر عن أي ظاهرة طبيعية في هذا الكون ، وهو منحنى يشبه التبة الرملية يتركز في وسطه أغلبية أفراد أي عينة إحصائية بشكل طبيعي وفي طرفي المنحنى يقع الطرفين المتناقضين بأعداد ضئيلة. وشأننا شأن كل المخلوقات والأشياء في هذا الكون فإن اغلب البشر يقعون في هذه المنطقة الوسطى (منطقة الاعتدال) بدرجات مختلفة ومن ثم فإن اغلبنا كبشر يتسم بالاعتدال والتفكير الوسطي.


والمفارقة العجيبة في هذا الكون أن اي شيء معتدل لا يلفت الأنظار ويكون غير محسوس عكس حال موجات التطرف والمغالاة التي تتسم بالجلبة والسلوكيات الشاذة التي تلفت الأنظار وتوحي بشكل مزيف بأنها ظاهرة هامة وقوية وتمثل الأغلبية وان قانونها هو القاعدة وليس الاستثناء .

ولو ان الأغلبية المعتدلة تجاهلت هذه الأقليات المتطرفة وواجهتها وتعاملت معها بحزم لتم ابرازها في حجمها الطبيعي والحد من سطوتها وخطرها على الاستقرار والسلام المجتمعي.

هذه الأغلبية الوسطية المحبة للحياة والمؤمنة بإله متسامح ورحيم هي التي صنعت الحضارة والتمدن وهي التي ستنتصر في نهاية المطاف في صراعها الطويل مع التطرف.

ترى من هو إلهك؟

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2012 / 10 / 11 - 18:23 )
الرب موجود , و العقل يؤكد :
(أنظروا للموت من زاويّه مهمه , الموت هو بذاته حياه لكائن آخر , مثلاً :
لو الكل مخل
ّد و لا يموت , و مع هذا التكاثر موجود بوضعه الحالي , ماذا
سيحصل؟ .
سيتحارب البشر على قطعة الأرض , و يصبح كل 10 أفراد يتنازعون على متراً واحد من الأرض , و ستتكاثر الطيور و الحشرات الطائره , حتى تحجب عنا ضوء الشمس , و ستتخطفنا الحيوانات , بل ستصبح العيش في الأرض مستحيله , و لكن الموت هو بذاته حياه لكائن آخر , فأنت بموتك تعطي حياه لآخر .
أليس هذا , يثبت أن هناك قوه عاقله مدبره واحده , لهذه الحياه و هذا الكون؟) .
أنظر , لهذا الرابط : http://www.youtube.com/watch?v=4-oX6a7hmZ0&feature=related

أما وصف الرب , فقد وصف نفسه , عندما قال : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50)) .


2 - شذوذ عالم الايمان
محمد البدري ( 2012 / 10 / 11 - 19:19 )
والمفارقة العجيبة في هذا الكون أن اي شيء معتدل لا يلفت الأنظار ويكون غير محسوس عكس حال موجات التطرف والمغالاة التي تتسم بالجلبة والسلوكيات الشاذة التي تلفت الأنظار وتوحي بشكل مزيف بأنها ظاهرة هامة وقوية وتمثل الأغلبية وان قانونها هو القاعدة وليس الاستثناء . ..... أولهذا السبب بالذات جري لفت النظر الي الجحيم والترهيب منها واصبح الايمان مرهونا بتحاشيها. فغير مفهوم كيف يصبح الرعب من ذلك الاله موصول بنصوص كثيرة ترهب الناس منه دعوة للايمان به. نفس الشئ ينطبق علي تلك الجنة التي تعج بما لا يمكن تصديقه.


3 - حرية اعتقاد
تيسير عثمان ( 2012 / 10 / 11 - 19:35 )
اعتقد ان قصة عدم انتباه البشر للنمل هو ما ينطبق على الحال ولكني اختلف مع الكاتب بأن المؤمنين بهذا لا يهتمون بالآخرين ويهتمون باشباع غرائزهم فقط هم واقعيين ولا يبنون حياتهم على الغيبيات والاحلام وثقافة القطيع ولم يضعوا لانفسهم حدودا عاليه صعبه وغير منغلقين على الذات وغير مهيمن عليهم من قبل رجال الدين التي تسيطر على عقولهم ذهنية التحريم


4 - ترى ماهو دورك ؟؟
سهام عبد اللطيف ( 2012 / 10 / 12 - 15:33 )
طرح مستنير ومبسط لكيفية تصورنا في ماهية صورة الإله في الأذهان المختلفة
وانا مع التعليق السابق في انه الذين يتصورون اننا جئنا وسنمضي وكأننا لم نكن اصحاب التصور العبثي ليسوا بالضرورة يعيشون لملذاتهم وشهواتهم ولا يهتمون بالآخرين فربما منهم من يفعل الخيرات اكثر من المتشددين انفسهم ولأنهم يفعلونها بالفطرة والرحمة وليس لنيل الثواب في الآخرة ودون الخوف من شيء..أليس هذا أرقى ؟
نقطة أخرى سيدي اشعر فيها ببعض التناقض او هكذا فهمت فأنت تريد من الأغلبية أن تهمل الأقلية المتطرفة وفي نفس الوقت تواجهها وتعاملها بحزم كيف؟
وماذا عن فتح قنوات الحوار معهاورويدا ومع طول الوقت سوف نصل لمرحلة وسط ونتجنب ردود افعالها العنيفة التي قد تحدث كنتيجة لتجاهلها والتعامل معها بعنف فهي تتخيل ان كل ما تفعله لإعلاء كلمة الله في الأرض
فعلى كاهل المثقفين يقع عبء التنوير ـ اين دور ورسالة المثقفين في التنوير
متى تنتقل الثقافة من قراءة وكتابة الكتب والمقالات لذوي العقول الرشيدة إلى العامة والبسطاء لصقل العقول وتوسيع المدارك


5 - امساك العصا من النصف
احمد خورشيد ( 2012 / 10 / 13 - 12:47 )
الكاتب طبعا يحاول امساك العصا من النصف في محاولة لخلق مفهوم رومانسي جديد لشخصية هذا الاله العدواني فتارة يصب جام غضبه على اتباع هذا الاله ويصفهم بالمتطرفين ونسي الكاتب ان الاله هو نفسه المتطرف والمنتقم والمعذب والماكر, وتارة اخرى يصف الذي لا يؤمن بوجود خرافات الاديان والالهة ومحاولة فرضها على الجميع وجعلها دين ودولة بالعبثي والغير مهتم الا باشباع غرائزه!!ثم يسهب الكاتب في طرح مسالة الاعتدال وتفظيله على الاثنين ونحن نقول له عن اي اعتدال تتكلم؟ انظر حولك ايها الكاتب وحدق ماذا حل بنا وبأوطاننا بسبب طرح الاديان وانقياد الناس وراء اوهامها وخرافاتها العدوانية.


6 - تبشير مسيحي
عبد الله اغونان ( 2012 / 10 / 13 - 20:41 )
اله متسامح رحيم
اي اله المسيحية المؤمنون به صنعوا الحضارة والتمدن
نعرف جيدا فظاعات الكنيسة والتبشير الذي خدمها في الاستعمار
يكفي ان أكبر حضارة مادية الويلات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واسبانيا قد اعتمدوا جميعا على الارهاب والقتل والغزو والتبشير

اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah