الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لو سألنا القرود عن السبب ...

محمد اللوزي

2012 / 10 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حدَّثني "شيخي" أن مجموعة من علماء دراسة السلوك الحيواني، وضعوا خمسة قرود في قفص واحد. و في وسط القفص نصبوا سُلَّما. و في أعلى السّلّم، وضعوا عنقود موز أصفر فاقع لونه، يسرّ النّاظرين من القرود طبعا ... فكان كلما استطاع قرد تسلّق السّلّم لأخذ الموز، قام العلماء برشّ القرود الأربعة الأخرى القابعة أسفل السّلّم بالماء المغلّى.

و بعد تكرار تلك العملية لمرَّات عديدة، أصبحت القرود تهاجم تلقائيا كل قرد سوّلت له نفسه تسلّق السّلّم طمعا في الموز، و أشبعته ضربا مبرحا، حتى ليكاد يغمى عليه، حماية لنفسها من حموم الماء المغلّى ... لاحظ العلماء بعد مدّة، أن كل القرود الخمسة كفّت مجبرة عن محاولة تسلّق السّلم ... حماية لجلدها من ألم محقق ... و ليذهب الموز إلى الجحيم ... و لسان حالها يردّد : "ربّ نافعة ضارّة" !

قام العلماء بإبدال قرد من القرود الخمسة بقرد ما يزال على فطرته ... ووضعوا عنقود موز جديد على أعلى السّلّم. و ما إن حاول القرد الجديد تسلّق السّلّم، حتى انهالت عليه الضّربات الموجعة من كل حدب و صوب. لم يفهم القرد المسكين سبب معاناته، و حاول التسلق مرّة ثانية وثالثة و رابعة، لكنه كلما حاول إلا و انهالت عليه الأخماس و الأسداس القردية، بضربات الرحمة ... و لعن الموز و ما قرب إليه من قول أو عمل ... و أدرك العقاب و لم يعرف البتّة سبب التّحريم !

بعدها قرّر العلماء القيام بإبدال قرد قديم آخر، من القرود الأربعة غير المستبدلة بعد، بقرد جديد. لكن المسكين لم يسلم بدوره من بطش عشيرته التي حرّمت عليه تسلّق السّلّم و التنعُّم بالموز اللذيذ كسابقه ... و كأني به يقلب كفّيه يمنة و يسرة ... و عينه في الثرى و الأخرى في الثريا ... متحسسا مواضع الألم و الاكتواء ... و لسان حاله يردد بامتعاض و قرف : "حسبته موزا فكان لكزا" ... و الغريب في المشهد، أن القرد البديل الأول، شارك قومه في الضرب و الطرح و القسمة، مع جهله تمام الجهل سبب تعنيف صاحبه ... إذ لم يتلظى يوما بحرارة الماء المغلّى ... و مع ذلك فإنه ساهم بجهد المقلّ مع جمهور القردة الناقمين !

استمرّ العلماء في استبدال القرود، قردا قردا ... حتى تمّ استبدال القرود الخمسة كاملة، بقرود جديدة لم يرشّ عليها الماء السّاخن و لو مرّة واحدة في حياتها. و مع كانت النتيجة استمرار القرود البديلة في تكرار تقليد إلحاق الأضرار الجسيمة، بكل قرد تسوّل له نفسه الاقتراب من السّلّم المحرّم موزه !

"لو" سألنا تلك القرود عن السبب لكانت إحدى أجوبتها بلا تردد : "إنّا وجدنا آباءنا على أمّة و إنّا على آثارهم مقتفون" ... إنها لن تستطيع أن تعطي أي تفسير لسلوكها ... فهي لم تحترق بالماء المغلّى ... و القرد منهم ضرب أقرانه فقط لأنه ضُرِب بدوره، و رأى الآخرين يضربون ... و هو يمنع صاحبه من تسلق السلم فقط لأنه منع من ذلك ... و هو يحرّم على نفسه لذّة "التًّموُّز" - أي أكل الموز - فقط لأنها حرّمت عليه ... و لسان حاله يقول : "ضربوا فضربنا، و نضرب فيضربون ... حرّموا فحرّمنا، و نحرّم فيحرّمون" ... دون معرفة ماذا ؟ و لماذا ؟ و من ؟ و كيف ؟ و متى ؟ و أين ؟

لكن ... ماذا "لو" ثارت القرود السابقة و صرخت في وجه العلماء - سبب البلوى المباشر - عوض تعزير الضعفاء من قومها ؟

ماذا "لو" تحمّلت حروق الماء المغلّى في سبيل الدفاع المستميت عن "حريّة" تنقلها فوق السّلّم ... و حوله ... و من تحته ... و عن يمينه ... و عن شماله ؟ و ليعذرني أعداء "لو" - من حزب صاحب الهريرة المقدّس - على الإفراط في استعمالها ... لأنه لو فتح الشّيطان بابه لفرّت القرود منه طالبة النجاة !

ماذا "لو" ناهضت القرود قهر العلماء بإقدامها الجريء على صعود السلم جماعة و فرادى ... و اقتسام الموز تحت مرآى العلماء ... و رمي الجلود بعد ذلك على وجوههم ... نكاية فيهم و طلبا للمتعة ؟

ماذا "لو" رفضت القرود المستبدلة المشاركة في تعنيف القرود الوافدة الجديدة، و فكّت ارتهانها منذ الوهلة الأولى بتقليد عنفي لا مبرّر له ؟

ربما كانت النتيجة موت ذلك التقليد البئيس ... و انسحاب العلماء حسيري الرؤوس دون نتائج تذكر ... عدا الاستغراب - غير المفسر - من سلوك المقاومة القردية الجماعية الابيقورية، المتحملة للألم في سبيل اللذة ... ربما قاد ذلك الاستغراب العلماء إلى عكس جزء من نظرية النشوء و الارتقاء الداروينية ... و صياغة نظرية أخرى معاكسة ... يكون مفادها أن أصل القرد نوع ثالث ... منحدر من جنس عربي فاشل ... حي الجثة ميت الوعي ... ناخر في ظلمات التقليد و الآبائية حتى النخاع ... إذ أفلحت قرود التجربة حيث فشلت التجارب العربية كلها ... ملتحية كانت أو حليقة الوجه ... متحجبة كانت أو عارية الرأس ... لكن القرود أبت إلا أن تكون قرودا ... و كفى !

إنها اختارت بذاتها الحد من حرياتها ... و تكبيل حركتها ... و القبول بالعيش النكد داخل دائرة حمراء، رسمت حدودها بأياد متعالية من خارج الإطار/القفص ... إنها استسلمت لشريعة العلماء و لنزواتهم التحريمية ... إنها أذعنت طائعة خوفا من قانون الطوارئ ... "قانون الماء المغلى" ... حتى بعد انتهاء صلاحية ذلك القانون المجحف، مع الرعيل الأول من قردة القفص ... إنها رفضت أن تربي أجيالها اللاحقة على سلوك المقاومة ... و مسؤولية القرار الشجاع ... و حرية الاختيار المسؤول ... إنها آثرت التكرار عوض الخلق و الإبداع ... آثرت التقليد عوض التفكير ... آثرت منطق التوريث المتخلف عوض منطق التثوير المتجدد ... إنها فضلت سلطة العلماء و آثرتها على إعمال العقل ... إن القرود أبت - باختصار شديد - إلا أن تكون قرودا.

و لعلي أفهم الآن بالذات، جزءا من سبب استهجان "فقهائنا" لأمّة القرود جميعا ... إذ ذهب "الشيخ" الحطّاب في كتاب "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" أن : "القرد مما لا منفعة فيه فلا يصح بيعه ولا ملكه" ... ونقل "الشيخ" الجزولي في "الوسط" عن "الشيخ" ابن يونس أن: "ثمن القرد حرام كاقتنائه" ... و ذهب "الشيخ" ابن تيمية الحرّاني - درءا للزنا - أن : "خلوة المرأة بالقرد حرام ... لأنه قد يشتهيها و قد تشتهيه " - من دون أن يتطرق الشيخ لخلوة الرجل بالقردة وحكم ذلك - فيختلط الأمر بعد ذلك على حراس شريعة الفقهاء في اختيار الحد و العقوبة ... و هل ينبغي العمل بشريعة القرود أم بشريعة السلف ... رغم أن "الشيخ" البخاري في صحيحه أورد حديثا، قد يهديهم إلى حل وسط ... حيث يقول الحديث الصحيح : "حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قَدْ زَنَتْ، فَرَجَمُوهَا، فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ" !

أكاد أجزم - عابثا كعادتي - أني فهمت سبب تخصيص فقهائنا و سلفنا الصالح لفصول كثيرة، و عنعنات طويلة ضاربة في تاريخ الفقه و الحديث، عن القرد و حكم امتلاكه و بيعه و أكل لحمه و عقوبة معاشرته و ما شابه ... فالفقهاء و مواليهم و أتباعهم قد صاغوا موقفا جريئا لا غبار عليه من القرود ... موقف قد فاقوا به كل ما أنتجت البشرية في الموضوع من حيث التنويع و التخصيص و التدقيق ... لكنهم في الوقت نفسه يأبون إلا أن يقلدوا سلوك القردة بدون ملل أو كلل ... إذ يوثرون التقليد على التجديد ... و يقبعون في مربع الماضي غارقين في سبات أطول من سبات أهل الكهف ... و مستغرقين في اجترار أحلام العودة إلى الوراء ... أحلام الرجوع إلى ما يعتبرونه نموذج الخلاص ... تقاليد قبيلة دوس و قبيلة حمير اليمنية ... عادات بدو صحراء جزيرة العرب قبل مئات السنين ... دون وعي بالحاضر أو اشتشراف للمستقبل ... و هم لا يسأمون من التكرار إلى الأبد ... تكرار الحلو على نذرته ... و تكرار المر على كثرته ... راسمين حولهم و حول أتباعهم خطوطا حمراء يحرم تجاوزها ... حتى إذا سأل السائل ماذا؟ و لماذا؟ و من؟ و كيف؟ و متى؟ و أين؟ ... قيل له لا تسأل، لا تسأل، لا تسأل ثلاثا ... فالسؤال حرام ... و العقل ملعون و منكر ... و مع سلوكهم هذا فإنهم يطمعون أن يتغير حالهم نحو الأحسن و الأفضل ... لكنه طمع كطمع إبليس في الجنة ... و لله في خلقه شؤون !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
حائر ( 2012 / 10 / 13 - 16:05 )
شكرا لانك اضحكتني كثيرا
واعتقد ان القرود يجب ان تشكرك ايضا لان عددها اكبر بكثير مما هو معروف لعلماء الحيوان!! كما يثبت مقالك
شكرا مرة اخرى


2 - مقال مسروق
عربي ( 2012 / 10 / 14 - 16:25 )
مقال القرود للكاتب الرطيان, يجب ان تنسب المقال للكاتب ولاتنسبه لنفسك فهذا يسمى سرقة


3 - للتوضيح فقط ... و للقراء الكرام واسع النظر
محمد اللوزي ( 2012 / 10 / 14 - 18:39 )
تحية -للعربي- الذي يتهمني بالسرقة ... سامحه الله ... تجربة الفرود الخمسة مشهورة جدا و كتب حولها الكثير ... التعليقات حولها بجميع اللغات أكثر من أن تحصى على النت ... يكفيك يا عزيزي ان تبحث عن كل ذلك الانتاج في ثوان فيتضح لك ما أقول ... أما عن الكاتب الرطيان، فإنني لم أسمع به من قبل و لم أقرأ له و لو مقالا واحدا في حياتي ... الآن فقط لما اتهمتني بالسرقة مجانا، حاولت البحث عن مقال للرطيان في الموضوع فوجدت المقال التالي
(http://www.al-madina.com/node/407388)
فهو إذ يذكر بتجربة القرود الخمسة لا يخلق جديدا من عنده ... تماما كما فعلت، و كما كتب الكثيرون، مع بعض الفوارق في التحليل و إن تشابهت الألفاظ أحيانا ... أما التشابه في الوصول إلى بعض الخلاصات فليس لي أن أعتذر عن ذلك إن تشابهت نتائجنا ... ولك أن تقارن المقالين بموضوعية لتقف على بعض الاختلافات في التحليل و التعبير ... وبه وجب التوضيح ... ولك و للقراء الكرام واسع النظر ... أما أنا فإني سأنام قرير العين لأني فكري لا يعرف السرقة تماما كيدي ... أما نتاج الفكر عموما فهو كعسل النحلة تجمع عناصره من هنا و من هناك دون ان تتهم النحلة بالسرقة


4 - غريب ... غريب ... و محير
محمد اللوزي ( 2012 / 10 / 14 - 19:01 )
اود إضافة أمر يحيرني بالفعل ... كون مقال -الرطيان- نشر أيضا على موقع صحيفة المدينة يوم السبت 13 أكتوبر ... و هو اليوم نفسه الذي نشر فيه مقالي على صفحات الحوار المتمدن - و أعتقد أن الحوار المتمدن نشر مقالي حوالي الساعة الرابعة بعد الزوال بتوقيت غرينيتش ... و للقارئ الموضوعي أن يقارن بين حجم مقالي و مقاله ... مقالي يقع في حوالي 1291 كلمة و مقال الرطيان يقع في 459 كلمة ... و طبيعة تحليلي و تحليله ... و الأدلة من الفقه و الحديث التي استنجدت بها ... و الوقت الذي يتطلبه ذلك ... و باختصار أود أن أضع الاحتمال التالي : ألا يمكن للرطيان أن يكون قيد اطلع على مقالي ساعة نشره الحصرية على الحوار المتمدن ... و بعدها مباشرة صاغ تعليقا مختصرا على مقالي و نشره في اليوم نفسه على صفحات صحيفة المدينة ... فالاحتمال الثاني وارد أيضا ... خصوصا و أن المقالين نشرا في نفس اليوم ... ومن حق الرطيان كما سبق أن ينسب تعليقه لنفسه ... لكن ليس من حقك يا عربي أن تتهم الناس بالسرقة ظلما و بهتانا ... و لك مني كل الود ... تحياتي


5 - و للرطيان بعض السوابق
محمد اللوزي ( 2012 / 10 / 14 - 20:22 )
أخيرا و في مقام ردي على من اتهمني بالسرقة ... أقول أن الرطيان اتهم من قبل بسرقة بعض الأعمال الأدبية ... و للقارئ أن يطلع على ما يلي
http://www.alapn.com/ar/news.php?cat=3&id=20664
لست بصدد اتهام الرطيان بالسرقة الأدبية - أو السرقة غير الأدبية - فقط أستغرب من أوجه التشابه فقط ... و كما يقول المثل : ضربني و بكى، سبقني و اشتكى ... لا أريد الدخول في خصومة فكرية مع الرطيان ... فله مني كل الاحترام ... الذي لا يعرفه العربي كاتب التعليق أنني لست صحفيا محترف الكتابة كالرطيان ... أنا مكلف بالدراسات التقنية المتعلقة بالمحولات الكهربائية عالية التوتر بفرنسا ... فليس لي وقت كاف اخصصه للكتابة إلا ما تمكنت من اختزانه بين الفينة و الأخرى ... ولست متقيدا بوقت إصدار معين ... و أغلب ما أكتبه، أكتبه بالفرنسية و أنشره على صفحات موقعي
http://mlouizi.unblog.fr/
وذلك منذ سنة 2007 ... فمقالي عن القرود يندرج في سياق خط فكري واضح بدأته بإصدار كتاب -شيوخ الاستهلاك- باللغتين العربية و الفرنسية ... وأنا في صدد تحرير مقال عن الختان، و للرطيان أن يبشر به في السعودية و ان ينسبه لنفسه إن أراد ... و له مني كل الشكر

اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah