الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجدد الذات، و تجدد العالم في قصص مصطفى الأسمر

محمد سمير عبد السلام

2012 / 10 / 18
الادب والفن


يتميز النتاج القصصي للمبدع الراحل مصطفى الأسمر بإعادة إنتاج علاقة الوعي بالعالم انطلاقا من التجليات البكر للظواهر ، و العلامات الفريدة، و إمكانية تحولها في الوعي، و اللاوعي بفعل الكتابة القصصية التي تكشف عن الدهشة الأولى في تلقي الصيرورة الإبداعية للوجود، و لكن من خلال حدث استثنائي تلتقطه عين الراوي المفكر؛ لتذكر المتلقي بذلك اللقاء غير الواعي العميق في نفسه بين الذات، و التحولات الوجودية، و الحلمية التي تقع بين نشاط الوعي، و الظواهر الواقعية نفسها بوصفها جزءا من حركية إبداعية كونية تستعصي على الأطر المعرفية، و تتحد بأصالة فعل الكتابة؛ فالسرد عند مصطفى الأسمر يتميز بالنزوع إلى توليد العلامات، و الأماكن، و الصور الحلمية، و مساءلة الوعي، و إعادة تشكيله في السياقات الاستعارية المتجددة في حلقات النص العديدة؛ إنه يرتكز على بساطة الوجود الفطري في العالم؛ ليكشف عن إمكانية توليد صوت آخر في سياق آخر، و فضاء مجازي مختلف يضع المتلقي في مسافة ملتبسة بين الحياة، و ما وراء الحياة؛ فليس للموت، أو العدم سطوة في مشروعه القصصي؛ إذ نجد أحداث دفن الجثث تختلط ببهجة سريالية للصراع في صورة احتفالية، أو يقترن العقاب، و ابتلاع الأرض للبيوت بتضخم صورة الأنا، و إيماءات التعالي الروحي.
و تمتزج الرؤى عنده باستدعاء التراث الديني، و البحث عن الروح، و تغيرات العالم الداخلي للإنسان، و الكشف عن تأثير البنى الثقافية، و الاجتماعية على الوعي، و استجاباته الخيالية الحادة التي تجسد مقاومة التهميش، و الأغلال المقيدة لانطلاق الروح، و البحث عن هوية جمالية أصيلة يختلط فيها الجمال، و تحولاته بالأحداث اليومية.
يتحول صخب اليومي، و الحتمي – إذا – في الأبنية الاجتماعية المهيمنة على الشخصية إلى صخب حلمي مرح، و مواز يكتشف فيه الصوت تجدده، و قدرته على تجديد العالم من خلال فعل الكتابة.
و يمكننا ملاحظة ثلاث تيمات فنية في نتاج مصطفى الأسمر القصصي هي؛ تجدد الذات، و تجدد العالم، و الانتشار الإبداعي للصورة، و الفضاءات المجازية.

أولا: تجدد الذات، و تجدد العالم:
لا يكتفى الوعي بمراقبة الظواهر الإبداعية المدهشة في أصل العالم، أو أحداثه الاستثنائية، أو الحلمية، و إنما يسائل هويته التي تكتسب فاعلية تعديلية في المشهد الجمالي، أو تقبل التحول في صيرورة الكتابة، و سياقاتها الجمالية التي تلتحم التحاما وثيقا بأحداث الواقع، و مؤثراته الثقافية، و الاجتماعية.
في نص (ذئب) يعاين السارد – من خلال عين الكاميرا- بكارة الصباح التي تحوي مشهدا دمويا يوشك أن يحدث؛ فثمة جندي يأمر أعوانه بالقبض على شخصين، و سحلهما، ثم نراه في حالة من التحفز البدائي للقتل، أو الالتهام الأسطوري القديم .. هل صار الرجل ذئبا؟
إن الراوي ليتخلى عن منظور الكاميرا، و يحور مركزية تكوين الرجل؛ فيمنحه صفات الذئب الجسدية، و المعنوية، بينما يسائل ذاته المدركة التي تجاوزت منظور العاكس إلى المؤول الذي يلج العوالم الداخلية للشخص، و نموذجه الملتبس بين الوحش، و الإنسان.
و في نص (غوص مدينة) يبحث البطل عن هويته، و صوته الخاص في سياق يومي يختلط فيه الموت، بالعلاقات العبثية، و البهجة، و العقاب، و الشعور بالتعالي الروحي للذات التي تقاوم قهر الحتميات، و الحدود؛ فالموت يلج سياق التحول و البهجة حين يرتبط – في تداعيات الكتابة- بصراع مرح لكبشين يتحول قرن أحدهما إلى مشط في يد امرأة، و مواء القط يتحول إلى عواء، بينما يبشره الشرطي بأن الأرض ستبتلع المدينة، و قد لا يجد بيته، ثم نجد جزءا من النبوءة يتحقق بينما يلامس البطل حضورا روحيا جديدا في المشهد.
إن السارد يفكك سطوة المشهد، و حتميات الحياة اليومية؛ مثل اختزال الشخص في وضعه الاجتماعي، و رتابة العادات اليومية، و تكرار مشهد دفن الموتى من خلال الإعلاء من الأحداث الاستثنائية غير المعقولة التي ترد الوعي إلى جذوره الإبداعية، و تعيد قراءة الأشياء من خلال بهجة الاختلاف، و المرح المضاد للموت، أو العدم.
و تعلو نغمة مساءلة الذات في نص (الصعود إلى القصر)؛ فبعد أن يشير السارد إلى صلابة رأسه / البديل التمثيلي للوعي، و الإرادة، نجده يسعى إلى لقاء زعيم، و تقديم شكوى، أو طلب إليه، ثم يعاين مجموعة من المشاهد العبثية التي تنتهي بعريه، و استعداده للقاء ينتهى بالفراغ؛ إنه يعاين بكارة المواجهة، و الصدمة المعرفية للوعي حين يكتشف وجوده قبل أن يتشكل بصورة خاصة، أو يصبح ذا سيرة فردية؛ فالفراغ يوحي بامتلاء جديد محتمل، أو بمخاوف للسقوط؛ فقد يكون الزعيم هو الهوية الجديدة للذات، أو أنه مصدر جديد لنغمات القهر.
ثانيا: الانتشار الإبداعي للصورة:
تنتشر الصور، و العلامات، و تتضاعف في السرد القصصي عند مصطفى الأسمر؛ فالسارد يعاين مرح التكوينات في مسافة بين الحلم، و الواقع، أو بين الحياة، و الحياة الفائقة القائمة على توليد عنصري البهجة، و استشراف الخلود في الوعي، و العالم معا.
تتكاثر العوالم الصغيرة، و الكبيرة، و تتحول إلى بحر استعاري في نص (جزر)؛ فحلقات النص الحكائية العديدة تصب في معاينة السارد لهذا التضاعف المادي / الروحي للأشياء، و الجسد، و الصوت دون نهاية واضحة، و كأنه ينتج حياة فائقة من العلاقات غير المعقولة في المشهد اليومي؛ فمسارات المخ تتقافز دون مركزية، أو ائتلاف، و كلمات الزوجة تتحول إلى ثلج، ثم بحر، و الكرة تتكاثر، و تتجاوز مدلول اللاعب، بينما يتكاثر الرمل الأبيض، و يهدد زجاج المكاتب، و يتضاعف الختم، و يثقل الرأس في البحر المحتمل.
إن انتشار الصور هنا يوحي بأن الحياة الفائقة تتصاعد كسيمفونية من الداخل إلى الخارج لتحطم الرتابة اليومية، و الأغلال، و القهر.
و يتعالى الصوت الطيفي، أو المجازي داخل الذات، و خارجها في نص (النداء) فالسارد يعاين مكبرا للصوت يحاول تعريته، و إغواءه بالعودة لمكان مجهول، ثم يتضاعف في الحجرة و يشير إلى حتمية عودة البطل، أو خروجه.
هل يدعو المكبر البطل إلى العودة إلى عوالم الحلم الفسيحة، و أن يرد الوعي إلى اللاوعي؟
إن النص ليوحي بغربة عن الصوت، و بعمق دفين في الوقت نفسه، و لكنه يشير أيضا إلى تجدد محتمل في الصوت الذي يهدم التاريخ القديم؛ ليبدأ تاريخا آخر قيد التشكل.
ثالثا: فضاءات مجازية:
يعيد السارد اكتشاف فانتازيا المكان في إبداع مصطفى الأسمر القصصي؛ فالمكان الحلمي الأسطوري يكمن فيما وراء المكان الحقيقي، و بداخله أيضا بحيث يوحي منطق الاستبدال بتبادل مواقعهما، أو تجاورهما في الوعي؛ و كأنه يتصل – عن طريق الحدس- بالعوالم العديدة الممكنة، أو الطيفية، أو الخيالية التي تكمن في بنية المكان الأولى نفسها.
يعلو السياق الحلمي في نص (انفلات)؛ إذ يستلب البطل من قبل مجموعة رجال يبحثون عن شيء ما في حديقة من الأشجار التي تتبدل ثمارها إلى أحجار كريمة؛ مثل العقيق، و الزبرجد، و المرجان، و يستخدمون آلات خيالية للحفر بالقرب من شجرة جرداء كبيرة.
و يؤول البطل الحدث بأنه بحث عن كنز ما، ثم ينخرط معهم في السياق المجازي.
و أرى أن الحدث يصب في فكرة التبديل، و التجدد نفسها؛ فالواقع الحلمي يقوم بإغواء البطل؛ للخروج من أسر الانغلاق؛ فثمة عوالم أكثر رحابة فيما وراء الواقع، أو في عناصره نفسها التي تحمل حياة خيالية جديدة ضمن بنيتها الأولى.
إن انفلات العناصر في النص يوحي ببحث معرفي عن كنز آخر هو تجدد العالم الداخلي للإنسان، و تجاوزه للقهر، و الموت، و الاختزال في الأطر باتجاه الانفتاح المرح للصوت حين يتحد بالأخيلة الممكنة، و المولدة من داخل الواقع اليومي، و أحداثه البسيطة التي يكشف السرد عن عمقها، و جمالها الخاص.
د. محمد سمير عبد السلام - مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .