الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في فلسفة اللغة (3): قراءة في محاورة كراتيليوس

مجدي عزالدين حسن

2012 / 10 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


سبق أن قلنا في التقديم لفلسفة اللغة، أن هناك اختلاف وتباين في وجهات النظر فيما يختص بحدود مبحث فلسفة اللغة. هنا سنكون معنيون بمناقشة الرأي الذي ذهب إلى أن فلسفة اللغة قديمة قدم الفلسفة، وأرجعها إلى مختلف الاراء الفلسفية التي قيلت حول طبيعة اللغة، والتي نقرؤها في نصوص أوائل فلاسفة الأغريق، وبخاصة أفلاطون في محاورته المعنونة ب(كراتيليوس)، والتي قام بترجمتها للعربية، الدكتور عزمي طه، باذلا فيها جهدا مقدرا، خاصة وأنه أول من قام بترجمتها للعربية من النسخة الإنجليزية، في العام 1995م. وملحقاً مع الترجمة دراسة تحليلية للمحاورة، أهتم فيها ببيان أهميتها وبتوضيح الموضوعات التي تناولتها المحاورة، وبيان تأثير المحاورة على الفكر اللغوي عند العرب.
ومحاورة كراتيليوس يعدّها الدكتور عزمي طه من " أقدم الأعمال المتخصصة في مجال فلسفة اللغة، وبهذا يكتسب هذا العمل ميزة الريادة في ميدان فلسفة اللغة"
وأن كنا نتفق مع الدكتور عزمي طه في أقدمية المحاورة ورياديتها في مجال فلسفة اللغة، إلا أننا نختلف معه في التعريف الذي يسوقه لفلسفة اللغة بوصفها " بحث فيما قبل اللغة، أو هي بحث عن أولها ونشأتها، وعلاقتها الصحيحة بالإنسان، والوجود بجميع ما فيه من موجودات، ودورها الاجتماعي والعلمي والحضاري، ومحاولة توضيح كل ذلك وتفسيره"
وسبب الاختلاف، يعود إلى أن هذا التعريف ينظر لمبحث فلسفة اللغة من منظور جزئي، مختزلا إياها في مشكلة الأصل والنشأة، ومتعاطياً معها من منظور خارجي (براني) ينظر ويفسر ويوضح علاقتها بموضوعات أخرى، غافلاً عن البحث في (جوانية) اللغة نفسها، وجوهريتها، وما يترتب عليه من وصف ل(طبيعتها) وتحليل ل(بنيتها) وتفكيك ل(مكوناتها) و(عناصرها) الأولية. باختصار فلسفة اللغة ليست كلاماً (عن) اللغة، فقط، كما يشير إلى ذلك تعريف الدكتور عزمي طه، وإنما بحث (في) اللغة بالدرجة الأولى.
والفرق كبير بين بحث (عن) اللغة، وأخر (في) اللغة، فالأول بحث براني خارجي يتعاطى مع اللغة بوصفها موضوعاً معروفا بشكل مسبق، يتجه إلى النظر، إما للبحث عن (ما قبل اللغة) أي نشأتها وأصلها، أو يتجه إلى بحث العلاقة التي تربط اللغة بموضوعات أخرى، والتأكيد على دورها وأثرها إتجاه هذه الموضوعات. في المقابل، نجد الثاني بحث جواني داخلي يتعاطى مع اللغة في حد ذاتها، و(يغوص) فيها بوصفها موضوعاً رئيسياً للبحث وللدرس.
ركزت المحاورة بشكل أساسي على موضوع أصل اللغة، وأراد أفلاطون من خلالها تقرير نظريته في (محاكاة) الاسم ل(طبيعة) المسمى، متعرضاً ومفندا بشكل طفيف فرضيتي الوحي والاصطلاح.
تُستهل المحاورة بالنص التالي: " أود أن أعلمك يا سقراط، بأن صديقنا كراتيليوس كان يناقش موضوع الأسماء، وهو يقول إنها طبيعية وليست إصطلاحية، لا يشذ عن ذلك، أيّ قدر من النطق الإنساني الذي اتفق الناس على استخدامه، وأنه يوجد فيها حقيقة أو صواب، هما كذلك بالنسبة لليونانيين ولغيرهم من البرابرة"
هذا النص الاستهلالي للمحاورة، يمثل الفرضية الأساسية لنظرية المحاكاة الطبيعية والتي أراد أفلاطون من خلال سياق باقي المحاورة، أن يدلل على مطلقية صحتها. وحتى ينجز أفلاطون هدفه، كان لابد من أن يفند ويبطل المزاعم والتدليلات التي تسوقها فرضية الاصطلاح والإتفاق. لكن دعونا أولاً ننظر لمفهوم مبدأ الاصطلاح والإتفاق كما يورده أفلاطون في محاورته، على لسان هرموجينس، الذي يقول: " كثيراً ما ناقشت هذه المسألة مع كراتيليوس وأخرين، ولم أستطع أن أقنع نفسي بأنه يوجد هناك أي مبدأ أخر للصواب في الأسماء، غير الاصطلاح والإتفاق. إن كل اسم تطلقه ـ في رأيي ـ هو الأسم الصحيح، وإذا غيرت هذا الأسم، وأطلقت أخر، فإن الاسم الجديد صائب صواب الاسم القديم. نحن كثيرا ما نغيّر أسماء عبيدنا، والاسم الجديد الذي نطلقه صالح صلاحية القديم، لأنه لا يوجد إسم أطلقته الطبيعة على أي شيء، فكلها اصطلاح وعادة عند مستعمليها"
سأورد هنا ملاحظاتي واستنتاجاتي على النص السابق في شكل نقاط:
أولاً: النص يؤرخ للبدايات الأولى لمفهوم فرضية الاتفاق والاصطلاح، ويقدم تعريفا للمفهوم يتسق ويتلاءم مع فلسفة السوفسطائيين، التي كانت " تعبيراً قوياً عن النزعة الفردية ويتجلى هذا بخاصة في نظرياتهم السياسية والأخلاقية والتربوية" فعلى مستوى نظريتهم السياسية " نظروا إلى الدولة على أنها تقوم على تعاقد الأفراد واتفاقهم" وترتب على مستوى نظريتهم التربوية " تقديم أهمية (الاكتساب) على الفطرة الموروثة، فالفضيلة عندهم (مكتسبة) والمعرفة بدورها (مكتسبة) ومرجعها في النهاية إلى قدرة الفرد على التعلم" وهم بذلك يخالفون سقراط الذي يرى أن الفضيلة علم، ولكنها لا تُعلم ولا تكتسب، و" نقل أرخيلاوس هذه المشكلة إلى الأخلاق، حين قال: أن العدل والظلم ليست موجودة بالطبيعة بل بالمواضعات والاتفاق" والإنسان في رأي بروتاجوراس " لا يملك ب(الطبيعة) شيئاً من الفضائل، وإنما يحتاج لمن يُعلمه... وأن العدالة ليست ثمرة لل(طبيعة) ولا المصادفة، ولكنها تعلم، والناس يحوزونها بالممارسة...ويبدو مما سبق، أن بروتاجوراس قد كان أول من أثار مشكلة التعارض بين الاتفاق والطبيعة في مجال الأخلاق" . وهو الأمر الذي يجعلنا نستنتج أن السفسطائيون هم أول من قال بنظرية الاصطلاح والإتفاق في اللغة، وقال به أيضاً معاصرهم ديمقريطس متأثراً بهم.
تكتب الدكتورة أميرة حلمي مطر، في كتابها الفلسفة اليونانية، في سياق حديثها عن السفسطائيين، الذي تكشف فلسفتهم عن " روح النقد والجرأة في التغيير التي امتدت إلى تصورات الإنسان الاخلاقية والسياسية، وذلك بعد ما ظهر للناس طبيعتها الإنسانية المصطنعة التي ترجع إلى المواضعات والاتفاق. وقد امتدت هذه النظرة النقدية إلى نظام الرق نفسه، فوضع موضع مناقشة، وتساءلوا عما كانت الطبيعة قد فرضته، أم هو أمر اتفاقي مصطنع. فقال يوريبيدس: إن العبد، عبد بالاسم وليس بالطبيعة. واتفق معه في هذا الرأي السفسطائي الكيداماس الذي قال: أن الالهة قد خلقت الناس أحرارا ولم تخلقهم عبيدا. فكان برأيه هذا، على طرف نقيض من رأي أفلاطون وأرسطو، اللذين ما برحا يؤكدان أن الطبيعة قد فرضت الرق على الرقيق"
أردت من خلال العرض السابق أن أبين الخلفية والتلوينات الايديولوجية المخفية والتي امتدت لتؤطر للنقاش حول مسألة أصل الأسماء: هل هي طبيعية أم اصطلاحية؟ وهو ما يظهر المعركة التي خاضها السفسطائيون الذين حملوا لواء التقدم والنقد والديمقراطية والثورة على القديم الذي بنى شرعيته على ما ميزته به (الطبيعة) دون سواه، وهو أيضاً ما يفسر الموقف المحافظ الذي إتخذه سقراط وأفلاطون، وهجومهما الشرس على السفسطائيين.
ثانياً: نص المحاورة يقدم تعريفا مغايرا للمفهوم الحديث لمبدأ الاصطلاح، فهو في طور نشؤه الأول مع السفسطائية كان يرتكز على النزعة الفردية التي كانت الأساس الذي تقوم عليه صوابية الأسماء، ويؤكد على هذا المعنى أفلاطون في المحاورة، حيث يورد على لسان سقراط: " ما تعنيه هو أن اسم أي شيء هو الذي يوافق أي شخص على أن يطلقه عليه فحسب" ويقوم بعدها سقراط بتفنيد هذا المبدأ، ويوصل محاوره إلى الإقرار بالنتيجة التالية: " إذن سيؤدي بنا الحوار إلى استنتاج أن الأسماء ينبغي أن تطلق وفقا لعملية طبيعية، وبألة طبيعية وليس على هوانا، وبهذا الطريقة دون غيرها سنطلق على الأشياء أسماءها الصحيحة"
في المقابل، فإن اللغة مع التحولات المعرفية الحديثة، ما هي إلا نظام من العلامات يكتسب قوة العرف الاجتماعي عندما يتفق عليه مستخدمو اللغة، الأمر الذي يمكّن المرسل والمستقبل داخل هذا النظام اللغوي من التواصل والتفاهم بشكل ناجح. والجماعة المستخدمة للغة بمجرد أن تقيم رابطا بين دال معين ومدلول معين، ويكتسب قوة العرف الاجتماعي، لا يستطيع مرسل بمفرده أو مستقبل بمفرده تغيير تلك العلاقة إلا إذا تم الاتفاق من قبل الجماعة المستخدمة للغة على ذلك التغيير.
سنواصل في المقال القادم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فلسفة اللغة
سيف الدولة عطا ( 2012 / 10 / 20 - 18:58 )
أتمني أن يواصل د. مجدي, لأنه قد وصل في ختام هذا الجزء على الإصطلاح أو الإتفاق العرفي الذي يرتبط بالنظام الإجتماعي.... وتقريباً يشير هذا إلى ألعاب اللغة المحدودة بجماعة معينة, لذا يكون الأمر أقرب لعلم اللغة وليس إلى فلسفة اللغة. ..... لذلك نتمني التواصل....


2 - الأستاذ الفاضل سيف الدولة عطا المحترم
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 10 / 20 - 20:20 )
تحياتي لك، وأشكرك على التعليق.
هناك تداخل بين فلسفة اللغة وغيرها من الحقول المعرفية والعلمية الأخرى، وعلى رأسها علم اللغة. فالمعطى اللساني يصبح موضوعا للتفكر وللتأمل النقدي وللدرس الفلسفي في ميدان فلسفة اللغة، وهو ما يفضي بدوره إلى بلورة مفاهيم وفرضيات جديدة يمكن أن تشكل قاعدة إنطلاق جديدة للمشتغلين على مستوى الحقول المعرفية المختلفة.
خالص تحياتي لك


3 - شكر
عبد اللطيف فلسفة ( 2016 / 8 / 11 - 16:38 )
شكرا على هذا المقال الرائع ، وبارك الله فيك يا استاذ مجدي


4 - اللغة والفلسفة
علي ( 2017 / 3 / 26 - 12:19 )
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أعتقد أن هذا الموضوع تغافل عن النظريتين التي قيلت عن اللغة
النظرية التوقيفية والنظرية التوفيقية وخص حديثه على اتجاه واحد
المواضعة والاصطلاح. وضكرا.

اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو