الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة الجزائرية بين الرغبة في تمجيد الاستعمار والدعوة إلى تجريمة

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2012 / 11 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لما كان التاريخ ملكا للشعوب التي صنعته، فإن الفرق بين الغالب والمغلوب ينبغي أن يختفي في متن النصوص. صحيح، أن الشعوب الغالبة لا تفتأ تؤرخ لأمجادها، سيادتها وزعامتها، ولا تعنيها الشعوب المغلوبة على أمرها، لذلك تجد في رفوف الخزانات والمكتبات والمتاحف كتبا ومخطوطات تدور بعض فقراتها حول بطل قاد حربا أو تمردا، وحقق انتصارات أو قدر عليه فشل متكرر وانهزام يعجل بنهايته. فمن الكتب التي تؤرخ للغالب كتاب (الحوليات ) للمؤرخ اللاتيني تاكيتوس الذي يتضمن انتصارات الرومان حول القائد الأمازيغي تاكفاريناس. وهناك كتب المدح والتشهير بمحاسن الأبطال مثل ( المنتقى المقصور على محاسن الخليفة أبي العباس المنصور) لابن القاضي. وهناك كتب تؤرخ لطائفة من العلماء والشيوخ والشرفاء مثل (دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من شيوخ القرن العاشر) لابن عسكر. وإذا استثنينا كتب الرحلات وبعض الحوليات والكتب المجهولة مؤلفها ندر من يكتب عن التاريخ الشعبي للشعوب المغلوبة والغالبة أيضا. وفي القرن التاسع عشر ظهرت حركة استعمار واسعة تعمر الأراضي الفارغة وتستعمر الأراضي الآهلة بالسكان. فانتشر التعليم في الكثير من المستعمرات، باستثناء المستعمرات البلجيكية المحرومة من هذا الحق الإنساني بفعل الموقف الرسمي للدولة المستعمرة (الميتروبول). ورغم انتشار التعليم والثقافة العالمة في أوساط الشعوب المستضعفة لا تزال الكتابات التاريخية ناقصة، خصوصا المتعلقة بفترة الاحتلال، حيث عم الجوع والقمع والتعذيب في سجون المستعمر ومعسكرات الاعتقال. ولا تزال الشعوب المستعمرة لم تنهض لتطالب بحقوق أخرى بعد تحقيق مطلب الاستقلال. ولقد كان منتظرا أن تنطلق المبادرة من الجزائر لأن للشعب الجزائري الشقيق نصيبا وافرا من الجرائم ضد الإنسانية في فترة الاستعمار التي دامت 132 سنة. فإذا كان البعض من الذين شاهدوا مجزرة 8 مايو السيئة الذكر سنة 1945 لا يزالون أحياء فإن الذين عاينوا جرائم القائد الفرنسي سانت أرنو سنة1830 دفنوا ومعهم الكثير من أخبار المأساة. لقد قتل عدد لا يحصى من الأطفال والنساء والشيوخ وأحرقت المنازل وقطعت 180000 شجرة مثمرة بمنطقة القبائل. ولا أحد يناقش كون الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد، إلا أن الذاكرة لا تزال ناقصة للأسف. ونضيف أن قانون رقم (158/2005) بتاريخ 23 فبراير 2005 المعروف بقانون تمجيد الاستعمار شكل دافعا لنهضة نوعية في حقل التاريخ الجزائري إن لم نقل إنه يهم شعوب المنطقة المغاربية خاصة والشعوب المستعمرة عامة. تضمن القانون المذكور فقرة في المادة الرابعة تقضي أن (تتضمن البرامج المدرسية وبالأخص في جانبها التاريخي الإشادة بالدور الإيجابي الذي لعبه الحضور الفرنسي في ما وراء البحار وبخاصة في شمال أفريقيا). ولاجناح على فرنسا فهي مدعوة لتحيي ذاكرتها بتمجيد عملها في ما وراء البحار. ومن جانبها عملت الجزائر العكس حيث أقدمت على تحصين ذاكرتها وإحيائها بمناشدة فرنسا بالاعتراف بجرائمها. فبعد الاحتجاج الرسمي الذي قاده الرئيس الجزائري نفسه السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي قال في إحدى المناسبات ما مضمونه، إنه لا خيار لفرنسا أمام الفرنسيين إلا الاعتراف بأنهم عذبوا وقتلوا وأرادوا الإبادة بين عام 1830 وعام 1962، وفي مناسبة أخرى أكد أنه (لا مناص من الاحتكام بكل موضوعية ونزاهة إلى التاريخ ليكون الفيصل والمحك بيننا فنحن لسنا أمة ساذجة تتجاهل مآسيها وتغض الطرف عن المجازر التي ارتكبت في حقها من تزييف لهويتها وتدمير لتراثها فنكون كالمستجير من الرمضاء بالنار). نقول بعد الاحتجاج الرسمي جاء دور المجتمع المدني ليؤسس مقاومة أخرى ربما ستدوم طويلا. و بمبادرة من المجاهدين والقضاة وعلماء الدين ورجال الإعلام والمحامين حرر نداء (من أجل تحرير العلاقات الفرنسية الجزائرية من ثقافة الاستعمار). وحسب ما نشرته الصحف الجزائرية وقتها وبالضبط يوم الثلاثاء 16 مايو 2005 فإن النداء مذيل ب 170000 توقيعا عشرها تخص المحامين، مما يفيد أن النداء سيتخذ مسارا حقوقيا في المستقبل. ولقد ارتأى المنسقون تنظيم مناظرة إعلامية بالمركز الصحافي التابع لجريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية صادفت الإعلان عن تأسيس (الهيئة الوطنية لتحرير العلاقات الفرنسية الجزائرية من ثقافة الاستعمار) في منتصف شهر مايو2006. وحسب تصريح الأستاذة فاطمة بن براهام محامية ناطقة باسم الهيئة فإن هذه المؤسسة المدنية مفتوحة أمام كل من يبتغي الانخراط فيها.وتضيف أن فكرة تأسيس هذه الهيئة صادف صدور قانون 23 فبراير 2005 الذي يبرهن على جنون العدالة الفرنسية، وأنه لا يمكن للجزائر أن توقع على أي معاهدة صداقة بينها وبين فرنسا بدون تحرير التاريخ والعلاقات الثنائية الفرنسية الجزائرية من ثقافة الاستعمار. فالهيئة تمنح الشعب الجزائري كامل الحق من أجل حماية ذاكرته وتاريخه.والناظر في أهداف هذه المؤسسة يجد أنها تركز على التواصل الثقافي أولا أي مراجعة الخطاب الفرنسي في كل ما يتعلق بالاستعمار تجنبا لجرح عواطف الشعوب المستعمرة بشمال أفريقيا، وتنقطع للبحث التاريخي الذي يستدعي تشكيل فرق للبحث تضم المؤرخين والباحثين في العلوم المساعدة للتاريخ لدراسة ماضي الجزائر من ما قبل التاريخ إلى اليوم. وتشكل الهيئة الوطنية لتحرير العلاقات الجزائرية الفرنسية من ثقافة الاستعمار بعض خلايا العمل منها خلية الاستماع والتوثيق واستقبال الشكايات تختص بتتبع الخروقات والانتهاكات وتدوينها. وتقوم خلية أخرى بجمع الوثائق والعناية بها والاهتمام بالأرشيف. وهناك خلية إحصاء المصادر التاريخية والمراجع المتواجدة في رفوف الخزانات والمتاحف. وباختصار، تهدف المؤسسة المذكورة إلى الكشف عن حقيقة تاريخ الجزائر وتدوينه والدفاع عنه. ولا شك أن هذه المؤسسة تركز على الفترة الكولونيالية وما شاهدتها من جرائم ضد الشعب الجزائري الشقيق. ويغلب على الظن أن الهيئة ستقوم بالدعاية والتعبئة في الأوساط الفرنكفونية عامة في أفق إعداد مصالحة تاريخية ستظهر معالمها بعد مضي بعض الوقت. ولم يتضح مدى استعداد الهيئة للتنسيق مع الشعوب المتضررة من الاستعمار الفرنسي بالشمال الغربي الأفريقي وأفريقيا الغربية. ويظهر أن التنسيق مع الجيران مفيد لكنه مستبعد رغم كون القانون 158/2005 يخص كل شعوب شمال أفريقيا، لأن الذاكرة ذاتية. ومن جانب آخر، لم نتمكن من رصد ما أنجز في الفترة ما بين 2005 و2012، ولا قيمة تنقص في ذلك لأن العمل في الذاكرة، يقاس بالدرجة الأولى، بمدى حضور الوعي بإحياء الذاكرة. وأما المنجز في الذاكرة فمن الصعب أن يبلغ تمامه. وحسبنا أن مخطط الهيئة المذكورة هو كله إنجاز موفق في الذاكرة. وفي جميع الأحوال فكل الهيئات والمؤسسات المهتمة بالذاكرة لن تتردد في الضغط على الدولة لعتاب فرنسا ومناشدتها لتقدم الاعتذار في أحسن الأحوال أو دعوتها إلى التعويض في أحسنها. فالهيئة تعد، بلا شك، الأرضية لتأسيس مطالب أخرى وفق التوجه الرسمي، مستغلة ظرف التقارب الأمريكي الجزائري الذي نشأ بغية محاربة الإرهاب.
ومما يدل عن الحضور القوي للوعي بالذاكرة لدى الجزائريين أن الاحتجاج على قانون 23 فبراير 2005 الفرنسي لا يزال قائما، فهو أيضا عمل في الذاكرة. ففي يوم 20 فبراير 2012 نشرت جريدة المواطن الجزائرية ملخصا لمحاضرة ألقاها الأستاذ محمد قورصو بوركلة تحت عنوان (الجزائر المناهضة للاستعمار الفرنسي بين الجدل التاريخي والحراك السياسي بفرنسا) أشار فيها إلى أن «قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي.. كان يرمي إلى تقزيم تاريخ الجزائر وتحريفه»، فهو عملية السطو على التاريخ التي تروم «تجريد سكان البلد المستهدف من ذاكرتهم الجماعية عن طريق التحريف والتزييف كما أن السطو يتم أيضا عن طريق الاستحواذ على الممتلكات المادية واللامادية». فبين الحرص على تمجيد الاستعمار من لدن فرنسا وتجريمه من لدن الجزائر نشأ خطابان يفصحان بالقطع أن الذاكرة ذاتية وأنها قابلة للتملك. فتلك ذاكرة فرنسيا لا تستقيم حتى تمجد الاستعمار والثناء على أبطاله، وتلك ذاكرة جزائرية تحوي شكاوى ضد تمجيد الاستعمار الذي يمس الهوية الجزائرية، ولن تستقيم ما لم تقدم فرنسا اعتذارا عن فعلها بعد اعتراف به والكف عن نبش الغبار عن ماضي الاستعمار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟