الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ترجمة [2] كيف تصبح أبا

يونس بنمورو

2012 / 11 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الطفولة المبكرة :

تهانينا سيد جونسن ، إنها فتاة !
هذه هي الكلمات التي تعلن بداية الأبوة ، و تسمح بالحصول على لقب الأب ، لكن رغم هذا الإمتياز ، فإن لأغلب الرجال شعورا مختلفا و متناقضا عن بعضهم البعض ، فبعضهم يعبر عن فرحه الشديد طيلة إنتظاره لمولوده الجديد ، و البعض الأخر منهم يَظهر القلق و الخوف عن محياه ، و يتساءل عن إمكانية تصرفه كأب جيد و صالح ، أما البعض الأخر من الرجال ، فلا يتوانى لحظة لإبراز حبه و إستعداده الجاد و الدائم لفعل كل ما يتطلبه طفله الرضيع ، لكن بعضا من الآباء الآخرين فلا يظهرون أدنى إهتمام و يتجنبون أي إحتكاك مع هذا المولود ، لكن إنتظاره بالنسبة للبعض الأخر من الزيجات يعد متوقعا منذ سنوات ، في حين أن طرفا أخرا لا يعتبر الحمل سوى حدث فجائي أو خطأ ليبيدي يتحتم عليهم تقبله و بصعوبة ، فبهكذا طريقة تتحدد إرتكاسة أغلب الرجال الأباء ، و أن ردود فعلهم لا تنتج بشكل عفوي إعتباطي أبدا ، فهي نتيجة منطقية ، تتحدد إنطلاقا من الطريقة التي عاش الأب من خلالها طفولته ، سواء بعلاقته مع الأم أو الأب ، و أن ردود أفعاله بإعتباره أبا ، تستمد جذورها و مشروعيتها بطريقة شعورية أو لا من خلال تجاربه الطفولية .

بالعودة لأجواء الولادة و لحظاتها المختلفة ، و بعد عودة الأم و رضيعها من المستشفى ، فإن الوضعية الأسرية ستتغير بشكل حتمي ، إذ في البدء كان حب المرأة يعرف طريقه لزوجها بشكل مباشر بدون مطبات أو إكراهات ، لكن بحضور هذا الضيف الجديد أو الكائن الدخيل ، ستتحول جرعات الحب و الغرام بشكل مفاجأ من الرجل الزوج إلى هذا المولود ، حتى أن الرجل الأب سيذهب به الأمر إلى التشكيك هل هو فعلا زوج هذه الزوجة ؟ و هل هو فعلا أب هذا الطفل الرضيع ؟ نظرا للإهمال المطلق الذي يتعرض له ، و نتيجة الإهتمام المفرط و الزائد للمرأة إتجاه مولودها ، ففي هذه المرحلة ، يغوص الرجل بشكل لا واعي في طفولته ، فيتذكرها و يستحضرها ، فتبدوا له الزوجة على أنها الأم ، و المولود يأخذ مكانة الأخ أو الأخت ، مما يجعل من سلوك الرجل سلوكا غريبا مختلفا كليا عن ذاك الذي كان عليه قبل إزدياد الرضيع ، فيبدوا أخرقا أحيانا ، بفعل بعض الأمور الغير مقبولة بتاتا منه و المفتقرة للمعنى و الشرح ، مما يؤثر في الزوجة و يجعلها في حيرة و ذهول تام ، و قد تدفعها تصرفاته إلى التساءل أحيانا ، هل هذا فعلا هو زوجها ، خاصة عندما يصل الحد بالزوج الأب إلى رفض الإقتراب لا من الزوجة و لا من الطفل الرضيع ، لكن كل هذا مقبول مستساغ ، خصوصا عندما يلاحظ أن الأم الزوجة بدأت تخصص كل وقتها لهذا الكائن ، الذي بدأ يزاحمه عليها ، وأخذ في مضايقته لها ، ومشاطرته حبها أو أكثر ، مما يجعل من سلوكه الغريب مقبولا ، نظرا للتطورات التي طرأت بشكل مفاجأ على علاقاته الزوجية و لم يكن متوقع إياها .

فهذا أحد المحامين الشباب رزق بطفلة بعد سنوات من زواج عنوانه الحب و السعادة ، فبقدر ما أدخلت مولودته الصغيرة الفرحة عليهم من جهة ، بقدر ما جعلت من إلتحامهم بالعاصف عوض الحميمي ، و من حياتهم الهادئة الناعمة إلى أخرى هائجة متقلبة ، مما دفعه وضعه هذا ، إلى زيارتني و الإستشارة معي عسى أن أتمكن أنا بدوري من تشفير سر تضايقه و إمتعاضه ، فمن خلال جلساتنا و حصصنا ، إكتشف بأن ولادة إبنته أيقظت من لا شعوره أحاسيس عدوانية و ضغينة مكبوتة بعمق منذ طفولته ، أصلها و سببها هو ولادة أخته الصغيرة التي نافسته على حب أبويه ، إذ إحتفظ في لا شعوره بنوع من الكراهية لها ، لأن كل من أبيه و أمه معا خصصا وقتا لها أكثر منه ، ليرافقه هذا الشعور بشكل لا واعي إلى حدود زواجه و حصوله على إبنة ، فهذا الإكتشاف مكنه من معايشة طفولته من جديد ، إذ تجسدت صفة الأخت المغضوب عليها من طرفه على الأبنة المولودة ، و بدت له الزوجة على أنها الأم ، مما دفعه إلى معايشة نفس سيناريو الطفولة ، فبسب إستحضاره إذن لنفس التصرف الذي مارساه أبواه إتجاهه ، ألا و هو الحب المفرط إتجاه الأخت ، و الإهمال الزائد و عدم الإكتراث نحوه ، أحس بالضيق لأنه يعيش نفس الحالة من جديد ، لكن هذه المرة شعوره بالإهمال و عدم الإكتراث ، كان نابعا من زوجته و ليس من أمه و أبيه ، فبالإرتهان إذن على ما سبق سنستشف أن في حالة إحساسكم بالتضايق الشديد نتيجة إهتمام زوجتكم بالمولود الجديد ، أو إذا أزعجكم عنايتها البالغة به ، و بدأتم تحسون بالألم و عدم الراحة ، يتوجب عليكم البحث في أعماق لا شعوركم ، كما كان الحال مع الشاب المحامي ، فقد يكون سبب الإزعاج و المضايقة نتيجة أحاسيس عدوانية طفولية ، إما بسب أخ لكم أو أخت ، مع العلم أن هذه المشاعر مخبأة بشكل محتم ، و غالبا ما تكون مرفوضة كتحليل سيكولوجي من طرف البالغين .

من جهة أخرى ، هناك العديد من الأباء يتهربون من أطفالهم بشكل إرادي قصدي ، ظنا منهم أن أي إهتمام أو عناية بطفلهم هو نقص لرجولتهم ، أو يضعفها في حالة إذا ما أخذوا أطفالهم بين أذرعهم و قبلوهم بحب و حنان ، فهذه أفكار خاطئة بطبيعة الحال ، ففي الواقع كلما كان الرجل أكثر ثقة في نفسه و إعتزازا بها ، كلما أحس بالراحة و الإرتياح مع رضيع صغير ، و أكثر من هذا ، بإمكانه إذا توفرت الشروط السابقة أن يحمله بين ذراعيه و أن يلعب معه ، دون أدنى قلق أو إزعاج ، فمن الطبيعي أحيانا أن يحس الأب بشيء من الضيق عندما يكتشف شيئا جديدا دخيلا عليه ألا و هو طفله الرضيع ، و قد يمتعض لا محالة من هذه الوضعية ، لأن جل الرجال بطبيعة الحال لا يعرفون الكثير عن الطفل و عن أمور تربيته بحكم العمل في غالب الأحوال ، فإذا كنا نفتقر للمهارة عند محاولتنا الأولى لركوب الدراجة مثلا ، أو عند عزفنا الأول على البيانو ، فكذلك نفس الحال مع الطفل الرضيع ، في بشكل منطقي و طبيعي يعجز الإنسان على التصرف في البداية مع أي شيء جديد و غريب عليه ، لكن مع التجربة و التكرار سيتعلم بشكل سريع كيفية حمل طفله ، و طرق التعامل معه بإرتياح كبير دونما ضيق أو تعب ، بالموازاة مع ذلك و أملا في تحقيق غاية الإنسجام مع الطفل ، وجب على الأب تحاشي كل الأخطاء المرتكبة من طرف أغلب الآباء ، لا تنتظروا حتى يكبر أطفالكم لتلعبوا معهم ، و لتعتنوا بهم و تهتموا بحالهم ، فالعناية و الإهتمام تبدأ منذ اللحظات الأولى من الولادة ، فليس مقبولا بالمرة ، و من غير المنطقي بتاتا أن يتعلق الطفل بحميمية عميقة مع أي كان ، إذ لم يتوفر شرط الإحتكاك الجسدي ، و إذ لم يَقدم الأب على حمل الطفل بين ذراعيه ، و تقديم الحليب له ، ناهيك عن تغيير حفاظاته و غسل أطرافه ، فأن تهتم بحياة الطفل يعني بكل بساطة أن تقوم بواجبات يومية مداومة ، كالرضاعة مثلا و تغيير الحفاظات و غيرها من الواجبات ، فهذه الأمور تستدعي الصبر و تهدئة الأعصاب حتى لا يثور الأب ، و حتى يستدخل بسلاسة أن ما قيل ليس إعلانا عن تحمل مسؤولية المرأة بشكل مطلق بعد دخوله للبيت ، و ليس بدعوة لتغيير الأدوار الأسرية ، فبكل بساطة هي دعوة للأب بين الفينة و الأخرى للإهتمام بطفله ، و هذا ليس بالأمر الغريب بتاتا ، بل هو طبيعي إلى أبعد الحدود ، إذ لن يتطلب من جدوله اليومي وقتا مهما ، خصوصا في الأيام الأولى من حياة الرضيع ، لكون كل أوقاته يمضيها في النوم ، لكن رغم هذا من الأفضل أن يبدي الأب إهتمامه بالطفل ضمانا لحد أقصى من الإحتكاك الجسدي و من التوهج العاطفي بينه و بين طفله ، فمخطأ من يعتقد أن هذه الأمور لا تأتي أكلها ، و يضطر للإنتظار إلى أن يتمكن الطفل من المشي وأن يقوى على الكلام ، و هذا التصرف خاطئ لأنه لمن الأجدر أن تبدأ عملية الإهتمام و العناية منذ نعومة أظافر الطفل أي منذ ولادته ، و ذلك إما بحمله و تقديم غذائه اليومي ، و لما لا الكلام معه أو حتى اللعب معه ، لأن هذا لن يسبب أدنى شر أو ضيق ، و لن ينقص من رجولة الرجل في شيء ، لذا فمن المهم أن تبدأ هذه العملية بشكل جد مبكر ، خصوصا من السنة الأولى من حياة الطفل إلى الخامسة ، لأن ملامح الشخصية و معالمها الأولى تتحدد بشكل شبه يقيني و محسوم خلال هذه المدة ، مما يعنى أن هذه السنوات هي سنوات حاسمة ، أي هي التي ستحدد إنسان المستقبل ، بمعنى ستحدد أي نوع من المراهقين سيكون ، و كيف سينجح في حياته ، و من أي النساء سيتزوج ، و هل سيكون زواجه سعيد فعلا و دائما أم العكس ، فهذه السنوات جد مهمة لنموه العاطفي بمقدار أهم و أكبر من نموه الذهني ، إذ في السنة الرابعة من عمره يكتسب الطفل ما يقارب الخمسين في المائة من ذكائه ، و في سن الثامنة يضيف الثلاثين بالمائة على الخمسين ، بينما الباقي و المتمثل في العشرين بالمائة ، فيكتمل في حدود السنة السابعة عشر من نموه ، بل إن الأمر قد يتعدى ما قيل ، بمعنى انه أمكننا القول بأن السنة الأولى من حياة الطفل هي الأكثر أهمية و قيمة من بين الخمس سنوات الحاسمة ، لماذا ؟ لأن العامل المحوري و الأساسي في عملية تكون الشخصية العميقة للفرد ألا و هو مفهوم الذات ، قد تشكل بشكل شمولي تقريبا في مدة الإثنا عشر شهرا الأولى ، فهذا المفهوم بالنسبة للطفل يعتبر كالخريطة الذهنية أو البطاقة الذهنية ، التي تحدد بنيته الشخصية الأساسية ، هل هو بالواثق من نفسه ، أو بالمرتاب و المتشكك ، أم هل هو ذاك الكائن المنفتح أو المنغلق المتحصن ، فمفهوم الذات لديه إذن ، يشبه إلى حد ما عدسات النظارات التي يرى من خلالها العالم و يستطيع بواسطتها أن يبنى تصورا عنه ، بتعبير أدق و مختصر ، إن مفهوم الذات عند الطفل يعد شيئا مركزيا جد مهم و أكثر فائدة .

لا يولد أي طفل و هو محمل بمفاهيم و تصورات عن ذاته ، فهذه الأخيرة هي نتيجة إكتساب و تعلم من الأسرة ، سواء من طرف الأب أو الأب بشكل أساسي ، أو بنسبة قليلة من عند الأخ و الأخت ، هذا الإكتساب كتأثير ، يبتدئ منذ الولادة إلى حدود الطفولة المبكرة ، إذ يمتد إلى أن يصل الطفل لمستوى المشي ، فتعلم هذا الأخير مؤشر واضح على بداية المرحلة الثانية ، لكن قبل أن يدخل الطفل إذن في المرحلة الثانية وجب التذكير على أن المرحلة الأولى ، و بتدقيق أكبر السنة الأولى هي اللبنة الأولى التي تأسس من خلالها مواقفه و سلوكاته حول الحياة ، و فيها تتشكل نظرته عن نفسه ، و حتى عن فلسفته في الحياة ، كما تتشكل مشاعره و أحاسيسه أمامها ، بتعبير أخر ، هذه المرحلة تمكن الطفل من تشكيل نظرة حول نفسه و تمكنه من إكتساب أحاسيس أساسية ، كالثقة في الذات و السعادة ، أو حول الريبة و التعاسة .
مما سبق يتوجب على الأب مساعدة طفله حتى يتمكن من إكتساب هذه المشاعر سواء المتعلقة بنفسه أو المتعلقة بنظرته للعالم المحيط به ، كما تجدر الإشارة أن الجو العام الناتج عن علاقات الآباء ببعضهم البعض جد محدد و حاسم ، فهو عامل فاعل و محوري في تشكيل نظرات الطفل الأولى ، و التي ستشكل فيما بعد عدسات نظاراته التي سيرى من خلالها نفسه أولا ، ثم العالم في مرتبة ثانية ، بمعنى من المعاني ، إذا أشبعت الرغبات الأولى و الحاجيات الأساسية للطفل ، سيكتسب لا محالة مشاعر الثقة و التفاؤل ، كما يُمكنه هذا الإشباع من تطوير مواهبه و إمكانياته إلى أقصى حد .


في المقال القادم ، سيتم التطرق للحاجات العاطفية الأساسية ، و للذهنية كذلك ، كما سيتم معالجة إمكانية تعلم الطفل عن طريق اللعب .

يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاستثمار الخليجي في الكرة الأوروبية.. نجاح متفاوت رغم البذ


.. رعب في مدينة الفاشر السودانية مع اشتداد الاشتباكات




.. بعد تصريح روبرت كينيدي عن دودة -أكلت جزءًا- من دماغه وماتت..


.. طائرات تهبط فوق رؤوس المصطافين على شاطئ -ماهو- الكاريبي




.. لساعات العمل تأثير كبير على صحتك | #الصباح_مع_مها