الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يحمي القانون من لا يؤمن به ؟

فتحي المسكيني

2012 / 11 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل يحمي القانون من لا يؤمن به ؟
أو
أيّها السفلي...لا تمت هدرا

بعد ثورات الربيع العربي لا يزال الجسد "العربي الإسلامي"(وهذه التسمية لا تخلو من عبء ما ورطانة ما) يرزح تحت نفس النير: أنّ حريته لا تزال تقع أعلى من قامته، وأنّ على شخصه الكريم أن يشرئبّ أكثر إلى أفق ذاته الجديدة، فهي لم تتحقق بعد. بيد أنّ ما صبغ جوّ النقاش ما بعد الربيعي عن أنفسنا الجديدة بهالة من التكدّر والتجهّم غير المنتظر على وجوه "الثوريين" هو أنّ عدد الشهداء لم يتوقّف عند الذين ماتوا، بل صار يطال الذين أفلحوا في النجاة من الآلة الدكتاتورية."الناجون" هم أيضا ليسوا بمنجاة من الموت، ودائما تحت آلة الدولة. وفجأة نتذكّر أنّ الثورات لا تغيّر من طبيعة منطق الدولة شيئا. الموت شبح حميم لوجه الحاكم مهما كان قناعه. ومن يلتقي بالحاكم عليه ألاّ ينسى أنّ الموت في الجوار، وإن كان يلبس أكثر البزّات سلمية وشرعية. لا يمكن لأيّ دولة أن تستغني عن سياسة في الموت، لأنّها جزء من ماهية السلطة باعتبارها استعمالا واحتكارا للاستعمال الشرعي للعنف.
وبالفعل فقد بلغت ثورات الربيع العربي مستوى المفارقة وربما الكلبيّة غير المرحة بأيّ وجه، عندما أخذت تأكل أبناءها، وبنهمٍ أقوى من نهم الحاكم الهووي الذي ظننّا أنّنا تخلّصنا من وجهه إلى الأبد. – لقد مات في تونس هذه الأيام شباب يُدعى "سلفيّا"، قابعًا في سجون حكومات الثورة، بعد إضراب جوع متوحّش قارب الستين يوما. اكتملت المفارقة: حكومات تنتصر انتصارات انتخابية واسعة النطاق (من دون أي انتصار سياسي يُذكر) لم تعد تحتمل السكوت على عمقها الاستراتيجي: الشباب السفلي المستعدّ للذهاب في الذود عن الهوية الإسلامية إلى أقصى المستطاع الحيوي لأجساد منهكة هي نفسها بتقنيات نسكيّة صارمة ولابدّ أنّها مرهقة لجيل "الياغورت" و"ألعاب الفيديو" و"الأفلام الكرتونية" و"الأكلة السريعة" و"الحفّاظات الطبية"،...الذي تحوّل فجأة إلى كتيبة أخلاقية شرسة في خدمة الإسلام المعولم.
وفجأة أصبح تظاهر الأتباع أو الحلفاء أو الأصدقاء ضربا من عدم اللياقة الثورية في غير محلّها. وفجأة نتبيّن أنّ الدولة لا تسمح لأحد بأن يموت كما يريد. إذا ذهبت إلى أبعد ممّا تحتمله الحكومة في الشعور أو العنف الثوري فإنّ عليك أن تسدّد فاتورة الغضب غير المرخّص له على حسابك. إنّ الدولة غير مسئولة عن حياة من يثور أكثر من اللازم، أو يتجاوز الخطّ الثوري للحكومة. إنّ غضبك مثل أيّ سلعة سياسية أخرى ليست ملكا لك وحدك. بل هي من ثروات الوطن، وعليك أن تحتاط في استخدامها، وأن تقبل سياسة الحكومات في ترشيد استهلاكها. وهذا يعني أنّ القانون لا يحمي الغاضبين في أيّ دولة؛ بل هو ربما ما خُلق إلاّ من أجل السيطرة عليهم وحماية الدولة من النتائج ما بعد الثورية لأفعالهم.
تعاني دول ما بعد الثورة من مفارقة خبيثة: أنّه سرعان ما تصبح فكرة الثورة عبء أخلاقيا ينبغي التعجيل في التخلّص منه. تبدأ الدولة حيثما تنتهي الثورة. ويستفحل الأمر بقدر ما يحرص "الثوريون" على اعتلاء سدّة الحكم والتحوّل السريع إلى وزراء ورؤساء، وغبار الثورة لا يزال على أكتافهم المنهكة. فإذا بهم ينقلبون إلى فقهاء يُفتون في كلّ شيء وإلى آلهة مزيّفة تبرّر الذمم وتعفو عمّن تريد وتحاسب من تشاء. وكلّ ذلك باسم شرعية لا يرقى إليها الشك.
من أجل ذلك، يبدو موت بعض الشباب السلفي الذي تظاهر في شوارع تونس "ما بعد الثورة"، وفي سجون حكومات تحقيق أهداف الثورة، وبعد إضراب جوع متوحش، فاق حدود الشخصية الإنسانية الكونية إلى رتبة الاستشهاد السالب،- يبدو هذا الموت فضيحة أخلاقية ووصمة عار في وجه كل الثورات العربية، وشوكة ناتئة وجارحة في قلب الربيع العربي الذي لا تزال الأناشيد له على قدم وساق. قبل مدة قليلة، كنّا نؤرّخ لملامح الرعب الكبير من وصول "الأحزاب"الإسلامويّة إلى الحكم، ولم يكن يطمئن النّاس إلاّ شرعية الانتخابات التي سمحت لهم بذلك. لكنّ الوقت لم يطل بنا حتى فاجأنا موت الشبّان السلفيين في سجون الثورة، وتحت خطّ الرعاية الحقوقية والطبية لأجسادهم "المسلمة". هل تمّ اختيار إسلام دون آخر ؟ وما هو "الإسلام المعتدل" حتى يسمح بموت المسلمين "السلفيين" ؟ فجأة انتصر منطق الدولة، وانهزم الانتماء الديني للثوريين الجدد.
إنّ ما يثير حقّا في تجربة هؤلاء الشباب السلفيين هو كونهم يصطدمون بقانون دولة مدنية لا يؤمنون بشرعيتها الدينية. لكنّ ما كان يطمئنهم على مصيرهم الشخصي هو أنّهم يتظاهرون في شوارع حكومة وصلت إلى الحكم باسم الدين. ومن ثمّ أنّ المحظور لن يقع أبدا: الثورة من جهة، والدين من جهة أخرى، سوف يمنعان السلطة من الانتقال إلى استعمال الموت كوسيلة ردع للغاضبين، كما فعل الحاكم الهووي من قبل.
ومع ذلك، فإنّ ما وقع هو العكس. صحيح أنّ الدولة لم تقتل أحدا بالرصاص. لكنّ الموت قد حصل. لا يحتاج الموت إلى التقنية حتى يقتل الأجساد البشرية من خارج، بل هو يمكن أن يصعد إليها من داخلها. هو سوف يسمح فقط لهذه الأجساد بأن تقتل نفسها. وذلك عندما يضعها في موقع تفقد معه مناعتها الذاتية، وتتحوّل إلى كتلة لحمية مراقبة، ملقى بها في غياهب السجن الحديثة، كما وصفها فوكو: السجن في شكل "بانومبتيك"، يمكّن الحارس السجّان أن يرى السجين دون أن يراه. بل أكثر من ذلك كما فسّر دولوز: أن يفرض سلوكا هلاميّا على تلك الكثرة الإنسانية المجهولة، من دون أيّ توقيع آخر. في السجن يتمّ تحويل السجين إلى "أيّ كان"، إلى "فلان" لحميّ فاقد لأيّ حرية شخصية. ومن ثمّ يُعامل باسم القانون على أنّه homo sacer كما قال القانون الروماني من قبل: شخص منبوذ، فقد كلّ حقّ قانوني، يتمّ عزله، يمكن لأيّ كان أن يقتله، لكنّه لا يصلح لأن يكون قربانا بشريّا في المناسك الدينية. وحسب الفيلسوف الإيطالي أغامبن، إنّ الإنسان المنبوذ أو المهدور دمه، هو من الناحية القانونية بمنزلة "المنفيّ" (وإن كان منفيّا إلى الداخل)، لكنّ ذلك ينطوي على مفارقة: إنّ الذي ينفي أو يُقصي أو يجرّد من الحقوق هو نفسه القانون الذي يمنح نفس الشخص ضربا ما من الهوية القانونية. وإنّه على أساسها تتمّ محاكمته أو إدانته.
السلفي الجديد شاب يتمّ القبض عليه متظاهرا (و"المتظاهر" هو قد صُنّف كما نعلم باعتباره شخصية العام 2011 عند مجلة Time Magazine، المتظاهر كوجه كوني للحرية، أثناء الربيع العربي، جنبا إلى جنب مع أحداث عالمية أخرى، من قبيل حركات السخط في أوروبا، وحركة "احتل شارع وول ستريت" ومناهضي بوتين في روسيا..). لكنّ هذا "المتظاهر" له رونق خاص: إنّه لا يؤمن بشرعية الدولة الحديثة (الوضعية) ولا بحقّ المواطنة النشطة، ولا بالمشاركة الجمهورية، ولا بالحياة الخاصة اللبرالية، ولا بالفاصل بين نماذج العيش وقواعد الديمقراطية، ولا بالتمييز بين العمومي والخصوصي، ولا بين قيم الخير الثقافية ومعايير العادل القانونية...إنّه ضدّ الدولة المدنية القائمة على القانون الطبيعي والتشريعات الوضعية. ولا يرى فرقا بين "الرعية" و"المواطنة"، وبين الحكومة و"أولي الأمر"، ولا بين "القانوني" و"الشرعي"،...
بكلمة واحدة: هو لا يؤمن بالقانون الوضعي، لكنّه يدخل السجن باسم هذا القانون، ويقع تحت طائلته. وإنّ المفارقة هنا هي: ما الذي تمّ القبض عليه في الشاب السلفي : جسده الفقهي أم جسمه الحيوي البشري الصرف ؟ - يساعدنا تمييز أغامبن بين الحياة الحيوانية (zoë) وبين الحياة السياسية (bios) على مساءلة وضعية السلفي في السجن: إنّ حالته استثنائية في معنى طريف. على الرغم من أنّ الدولة تحاسب الناس على حياتهم السياسية فهي لا تقبض في الشارع إلاّ على حياتهم الحيوانية. وحده "الحيوان"يمكن أن يكون فخّا ناجعا للقبض على "البشر". وليس السجن غير أعرق تقنية لإرجاع البشر إلى عالم الحيوان. وفي حالة السلفي تنطوي المشكلة على مفارقة: كيف يحقّ للقانون أن يقبض على شخص لا يؤمن به ؟ بأيّ حقّ يسوغ للدولة أن تطبّق القانون الوضعي على إنسان لا يرى نفسه "مواطنا" بقدر ما ينظر إلى "نفسه" بوصفها نفساً مخلوقة تحت أوامر خالقها، ومن ثمّ هو يفرّق جيّدا بين "الإنسان" (الذي يمكن أن يكون مواطنا تحت حكم الدولة المدنية) وبين "الآدميّ"( الذي لا يحق له أن يكون إلاّ مؤمنا ملتزما بأحكام الشريعة) ؟
ما قاد السلفي إلى موته هو سوء فهم بنيوي بين المؤمن والمواطن في شخصية المسلم ما بعد الثورة: أين يقف الإيمان وأين تبدأ المواطنة ؟ - ليس من السهل إقناع الشاب السلفي برسم حدود واضحة بين المجالين. لكنّ هذا الشباب السلفي ليس معيارا أخلاقيا ولا قانونيا لنفسه. رغم أنفه هو بشريّ معاصر. ومن ثمّ فهو يوجد تحت صلاحية كل إعلانات حقوق الإنسان منذ الثورة الفرنسية. وهكذا فإنّ الغضب "السلفي" ليس سلفيّا إلاّ من حيث المقاصد فقط. أمّا من جهة النشأة التاريخية والبنى التي يأخذها والمشاكل السياسية أو الأخلاقية أو القانونية التي يثيرها، هو غضب معاصر، وينتمي إلى تاريخ السخط الذي بدأ في شوارع باريس سنة 1789 وتحوّل إلى آداب كونية للدفاع عن كرامة الشخص الإنساني وعن قيمة الإنسانية في جسد كلّ فرد مهما كانت هويته.
بذلك على القانون أن يحمي من لا يؤمن به. لأنّ صلاحية القوانين كونية، ولا علاقة لها بالآراء الخاصة. والإيمان مهما علا شانه، فهو من الناحية القانونية رأي أو معتقد أو تصور خاص للخير بعامة. ولا يمكن له أن يتدخّل أو يوجّه آلة العدالة في مجتمع ما. إنّ العادل كوني وواحد أو لا يكون. أمّا الخير فهو ثقافي ومتعدّد وهووي. ولأنّ العدالة لا هوية لها، فإنّ موت الشاب السلفي كان هدرا بحتاً. وهذا النوع من الخسارة "البشرية" لا يمكن تبريره أبدا. ربّما قد يعنّ لفرقة دينية أو كلامية أن تبرّر موت مؤمن مخالف في الدعوى، لكنّ القانون الحديث لا يحق له أبدا أن يبرّر موت أيّ شخص مهما كان. فالقانون لا يثأر من أحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العقاب على الأفعال
سنان أحمد حقّي ( 2012 / 11 / 20 - 21:08 )
الأستاذ فتحي المحترم
إن القوانين جميعا تُحاسب وتُعاقب على الأفعال وعلى خرق تلك القوانين ولا يهمها من يؤمن بها أم من لم يؤمن فالمهم هو عدم خرق تلك القوانين بالفعل أو الأفعال فقط ولهذا فإن كلامكم سليم خصوصا ما جاء بالخلاصة في نهاية المقال حتّى التحريض على تغيير القانون النافذ لا يُعدّ خرقا له لأن عمليّة تغيير وتطوير القوانين تتطلب توضيح التشريعات للرأي العام الذي هو بيده تغيير القوانين عبر الهيئات التمثيليّة ولكن السلطات الإستبداديّة تحاول غالبا منع التنادي بالتوضيحات والشروح بهدف إيقاف التغيير فيها ومنع تطويرها

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب