الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كان شهيدا وهو في عز الشباب

عدنان اللبان

2012 / 11 / 26
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



انتظرناه اكثر من عشرة دقائق ولم يظهر , الاستراحة نصف ساعة من التاسعة والنصف الى العاشرة , وهي الفترة التي نأكل فيها وجبة الفطور بعد ان نبدأ عملنا في السابعة والنصف . كنا قد فرشنا الجريدة انا ودريد , وقشرنا البيض , وكاد الشاي ان يبرد بعد ان ملئنا اقداحنا من الترمز الذي نأتي به معنا من البيت . كنا خمسة عمال عراقيين نلتقي تحت سقيفة الجينكو عند استراحة الصباح هذه واستراحة الظهر التي نتناول فيها غذائنا , اليوم نحن الثلاثة فقط , والاثنان الاخران عرفنا منذ البارحة انهما لن ياتيا اليوم , فقد سرحا من العمل .
رغم تأخره جاء عبد الحسن متباطئا , ومظهره يدل على ان فكرة , او مشكلة تستحوذ على تفكيره . في الصباح عندما جئنا سوية كان طبيعيا جدا , خفت ان يكون قد بلّغوه باستغنائهم عنا ايضا , خاصة وانه يعمل مع الشيف . ظهر ان " الشيف " عامل لا يختلف عنا , ولكونه الماني , جعلوه مسؤول علينا نحن العراقيين بعد ان علمنا اوليات العمل , ولكننا استمرينا في تسميته ب" الشيف " لما يخلق عندنا من اهمية بعملنا .
سأله دريد : اشو تأخرت , اكو شي ؟!
عبد الحسن: لا , بس هذا الشيف دوخني .
عاجلته وقصدي ان اخفف عنه : حتى اذا يردون يبطلونه شكو دايخ ؟
عبد الحسن : لا هو بس احنه باقين عدهم . ( واخرج من جيبه مبلغ كبير من الدنانير ) هذا يريدني اشتريله بيهن دولارات من السوكَ يعني مو تصريف رسمي . اخبرني ان اذهب بعد الريوك , يريد ان يسأل صديقه اذا كان بحاجة ان يصرّف ايضا .
اجبته : شكو بيها اذا تعرف واحد يصرّف بالأسود .
دريد : واكَفين على الرصيف بالرشيد بصف مصرف الرافدين , وإذا تريد نص الصياغ وره البنك بشارع النهر يصرفون .
عبد الحسن باستغراب : المشكلة مو وين اصرف ؟ انتوا تحجون وكأن المسألة عادية ؟؟!
سألته : شنو الغريب البيها ؟! الرجال عنده ثقة بيك وكلفك .
عبد الحسن : ونسيتوا ليش احنه متهجولين ونشتغل هنا ؟
نحن الثلاثة خريجي اكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح , انا اعمل في التدريس , ودريد ابراهيم في التلفزيون التربوي التابع لوزارة التربية , وعبد الحسن سميسم يعمل في الاذاعة مراقب لبرامج الاذاعة الايرانية بعد ان عزلوه من الاخراج الاذاعي . تركنا دوائرنا واختفينا بعد ان اشتدت الحملة البعثية في مطاردة الشيوعيين عام 1978 و ما بعدها . عبد الحسن عن طريق احد معارفه الذي يعمل مترجم في هذه الشركة الالمانية الشرقية , والتي تعمل في انشاء مخازن كبيرة في الزعفرانية المحاذية لمعسكر الرشيد , استطاع ان يشغلنا عمالا باجور يومية , وعملنا تحت اشراف " الشيف " هو تثبيت صفائح السقوف البلاستيكية على الواح الركائز وجسور السقف .
عبد الحسن : هو عنده نسبة من راتبه يصرّفها بالبنك ارخص من التصريف خارج البنك , بعدين هذي فلوس هواي .
دريد : احتمال النسبة المحددة الهم اقل من الفلوس اللي يوفروها .
عبد الحسن : النسبة محدديها مع حكومتهم حسب ما كَال المترجم غسان , يعني نخون حكومة المانيا الديمقراطية مو غيرها , راس الحربة بوجه الغرب ؟!
كان عبد الحسن " حنبليا " في استقامته مع النص , جدي في كل شئ , من شدة جديته لا يستجيب للنكته او اللطيفة ان لم يكن مستعدا لتقبلها , كأن تقول له : احجيلك نكته . كانت احلامه الصوفية التي اكتسبها من البيئة الدينية المحافظة في النجف , قد فرضت عليه سلوكية صلبة في توجهاتها , وحرمته من الانشغال في الهوايات البريئة , وكان يستغرب كوننا نذهب لمشاهدة مباراة كرة القدم في ملعب الشعب وسط هذا الازدحام والحر الخانق . حتى في دراسته الفن المسرحي كان لا يترك النقطة او الفارزة لتستريح بين جملتين , كان يطلب من الممثل ان يمنحها حركة السكون ونوعيته ليؤكد معناها . لم يكن حتى يبتسم عند مشاهدته افلام شارلي شابلن , بل كان يتألم . كان شهيدا وهو في عز الشباب . وهذه الجدية هي التي مكنته من استيعاب الموسيقى الكلاسيكية والسمفونيات التي كنا ندرسها في الاكاديمية , فكان اشطرنا في فهمها والتمتع بها , وكانت ام كلثوم الوحيدة التي تجعله يحلق فوق السحاب .
عبد الحسن : لو الحكومة الالمانية تريد تحويل للدولار اكثر جان هيه رفعت نسبة التحويل , اكيد هي اللي تريد ان ما يغزو الدولار اسواقها , تمام لو لا ؟
ترددنا انا ودريد في اجابته , فمعرفتنا بسوق العملة تكاد ان تكون صفر , وكيف نعلن جهلنا والمسألة متعلقة بدولة اشتراكية ؟! تحليله بلبل تفكيرنا , وببساطة مثلما يقول : هل معقول ان تسمح الدول الاشتراكية لغزوها بالدولار الامريكي ؟! كنا نتيجة تربيتنا الاممية وقسوة ضربة البعث لنا نشعر بحرص مضاعف على سلامة وسمعة الدول الاشتراكية , كنا نشعر انها السند الوحيد الباقي لنا .
دريد : احنه وين والتصريف وين , بالكَوّه حصلنه الشغله وما نعرف شوكت يسرحونه , تعال النوب صرفلهم دولار . روح اليوم , وكَله بعد ما اروح لان الشرطة بالمنطقة .
عبد الحسن : ما اروح , من يجي راح اواجهه , هو ابن النظام الاشتراكي ولازم يلتزم اكثر من عدنه .
اجبته : صدك جذب , روح اول مرّه وأخير مرّه , قابل يومية راح يصرف ؟ ومثل ما كَال دريد الشرطة بالمنطقة وأخاف اصرفلّك بعد .

عند الثامنة مساءا جاءني عبد الحسن الى البيت , واخبرني انه تشاجر مع المترجم غسان بعد ان اخبره برفضه تصريف المبلغ الذي اخذه من الالماني .
يقول عبد الحسن : انه ثار بشكل غير معقول , ولم يترك لي اية فرصة كي اوضح له ان الشرطة كانت موجودة في الشارع ومن الصعوبة اجراء التصريف .
اخذ المبلغ , وطلب مني ان لا نعود ثلاثتنا الى العمل , يعني مطرودين , وأجور اليومين الاخيرين غدا سيأتي بها .
غسان كان سابقا شيوعي ايضا , وأرسله الحزب لدراسة الاقتصاد في المانيا الديمقراطية , اكمل دراسته وعاد الى بغداد قبل ثلاث سنوات , اي بعد قيام الجبهة الوطنية بسنتين . لم يعد الى الحزب , ولم يعمل في دائرة حكومية ايضا . عمل في ادارة معمل المنيوم مع احد اقربائه في بغداد الجديدة , وعند قدوم الشركة الالمانية لتنفيذ مجموعة عقود في العراق عمل فيها مترجم . ومن خلال علاقة عبد الحسن به شغلنا في الشركة وهو يعرف بوضعيتنا . توصلنا انا وعبد الحسن الى نتيجة : انه يشعر بورطته بعد ان شغلنا في الشركة , وذلك لاشتداد مطاردة الشيوعيين في الفترة الاخيرة من قبل الامن . وإلا بماذا تفسر عصبيته وثورته وهو اللطيف الذي لم نره يوما عصبيا , بالعكس كان يميل الينا , وجلسنا معه في جلسة شرب , ورفض ان ندفع اي فلس , حتى علبة السكاير التي طلبها عبد الحسن دفع ثمنها . وفي تلك الجلسة حدثنا عن الحياة في المانية الديمقراطية , ونبهنا على ان لا نصرف كل هذا الجهد بعد ان رآنا نأتي حتى قبل الدوام بنصف ساعة , ولا نعطي لأنفسنا اية راحة في العمل , كنا نعتقد ان اخلاصنا بالعمل هو اخلاص لقضيتنا . ذهب عبد الحسن الى البيت ليخبر دريد الذي يسكن حاليا عنده , ودريد شقيق زوجته .

في اليوم الثاني لم يأتي غسان كي يعطينا اجرة اليومين الاخيرين , وأراد عبد الحسن الذهاب الى الشركة في اليوم الثاني بعد الموعد لأنه يشعر بالحرج كونه هو الذي يعرفه , ولكننا منعناه , لانه اولا يعرف بوضعيتنا , وثانيا لا نستطيع ان نجبره على اي شئ , وحوّلنا القضية الى تصنيف وسخرية : من ان اجرة اليومين فلوس كَعدتنه مال الشرب, او حتى فلوس الالماني راح ياخذها , ويخبر الالماني باننا سرقناها ولم نعد الى العمل , وإخلاصنا بالعمل كلاوات للإيقاع بالألماني لكي يثق بنا .

بعد فترة ليست بالقصيرة تأكدت صحة تعليقاتنا على غسان , فقد ظهر انه فعلا اخذ فلوس الالماني ولم يعدها له . الاثنان الآخران اللذان كانا يعملان معنا وتركا العمل قبل يوم من طردنا , كان احدهم ويدعى حميد ابن خالة غسان , والاثنان شيوعيان ايضا ’ كانا طلاب غير معروفين او مطلوبين للأمن مثلنا .
يقول حميد : بعد فترة من عمل غسان في الشركة الالمانية اخذوه الى الامن العامة وطلبوا منه ان يتعاون معهم , ولكنه رفض , وبعد ثلاثة ايام من التعذيب وإلصاق تهمة التعاون مع دولة اجنبية وهذه عقوبتها الاعدام , اضطر للتوقيع والتعاون معهم . في الاسبوع الاخير الذي سبق تركنا للعمل عرفوا بوجود عراقيين يعملون في الشركة , فطلبوا منه ان يزودهم بأسمائهم , تأخر عليهم يومين فطلبوه بالتلفون يستعجلوه . سلمهم الاسماء وطلب منا ان نترك العمل مباشرتا , كان متوترا ولا يعرف كيف سيخبركما , كان خائفا عليكم , وخائفا فيما اذا وقع احد منكم في قبضتهم واعترف على علاقته بكم .
يضيف حميد : في اليوم الثاني من ترككم العمل جاءت مفرزة امن للقبض عليكم , ولم تجد احد منكم , اعتقلت غسان وقد ظنوا به انه اخبركم , وبعد تحقيق عدة ايام جاءت مفرزة الامن الى الشركة مرة اخرى , وحققت مع احد العمال الالمان كونكم سرقتموه وهربتم , وأكد لهم العامل الالماني ذلك . وعندما خرج غسان من الامن ترك العمل في الشركة بعد عدة اسابيع , وغير حتى مكان سكنه .

تنقلنا بين عدة اعمال يدوية , وجميعها لا نملك اساس فيها , وكل محاولات تعلمنا لا تتعدى ان تكون عمالا مرضيا علينا, كان آخر عمل حصلنا عليه سوية هو تصحيف الكتب , مع احد الرفاق الذي حصل على تصحيف اربعة كتب من احد الاصدقاء من ابناء عائلة بربوتي الطباعية .
حصل عبد الحسن على سكن آخر اقل كلفة , وكانت غرفة مع منافعها الصحية ومطبخ صغير , ولا تبعد كثيرا عن سكنه القديم في بداية الكرادة عند نصب الاربعين حرامي . عبد الحسن متزوج من اخت دريد وعندهم ولد واحد اسمه سلام , واستطعنا ان ننقل كل مقتنياتهم نحن الثلاثة في ثلاث تحميلات لعربة دفع استعرناها من احد الحمالين .
كان بين العفش حقيبة ذات لون رماني لفتت انتباهي , ولم تكن موجودة عندما نقلنا عفشهم في المرتين السابقتين .
سألت عبد الحسن : انت مشتري جنطة مشتري , الا هذا اللون الطايح حظه ؟!
عبد الحسن : مو مالتي , هاي امانة .
انت يومية ابمكان , امانة المن ؟
اجابني : مال الجماعة . ويقصد الحزب .
وشبيها ؟
عبد الحسن : والله ما اعرف .
افتحها شوف شكو بيها , اذا شي يسوه مسألة اخرى .
عبد الحسن : لا يمعود , شيكَولون بعدين ؟
تقول زوجته : بعد عدة ايام وعند عودته من العمل , لم يجد زوجته وطفله , وآثار التفتيش والعبث واضحة بمحتويات البيت , واختفاء الحقيبة الجلدية ذات اللون الرماني , فأدرك ان البيت اقتحم من قبل مفرزة امن وان زوجته رهن الاعتقال . عبد الحسن شعر بعد ان رأى غياب الحقيبة انه السبب في اعتقال زوجته وابنه , وذلك لانه اصر على الاحتفاظ بها لفترة طويلة دون ان يعرف ماذا بها . وكان قد تركها عنده احد الرفاق من الناصرية , وظهر انها تحتوي على مجموعة من الوثائق تخص المنظمة المحلية في الناصرية , تركها عندهم ولم يعد لأخذها او لإتلافها . استمر عبد الحسن جالسا في البيت بانتظار قدوم مفرزة الامن مرة ثانية , فلم يستطع الهرب بجلده ويترك زوجته وطفله رهائن عند هذه الوحوش , الى ان عادت المفرزة واعتقلته , ولم يعرف عنه شئ لحد الآن .


[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ




.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب


.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام




.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ