الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (2-2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 11 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


غيرا إن الشهرستاني اختط في تصنيفه المنهجي أسلوبا جديدا استند في جوهره إلى المزاوجة بين التقاليد الإغريقية والإسلامية من خلال التركيز على أولوية العلم الفلسفي. وهذا ما يمكن ملاحظته على مثال مواقفه النقدية من المصادر. وبغض النظر عن مدى اقترابه أو ابتعاده عن الحقيقة فإنه أصاب من حيث المبدأ. بمعنى أنه لم يأخذ التراث السابق على علاته. وفي نفس الوقت وظف معطيات العلم الإغريقي والإسلامي ضمن منهجيته الموضوعية النقدية، كما هو جلي في تصنيفه للفرق وتحليل آراءها والمقارنة بينها. حيث انطلق في استعراض آراء الفلاسفة استنادا إلى كتبهم والى ما كتب عنهم، آخذا الترتيب الزمني الذي وجده عنهم. ذلك يعني انه يقبل بالتصنيف التاريخي كما هو دون أية إضافة جوهرية. لكنه حالما يتكلم عن الأساطين السبعة الأوائل، نراه يعقب قائلا: "ونحن تتبعناها، وتعقبناها نقدا". وهي نزعة نقدية نراها تظهر بين الحين والآخر بصورتها المباشرة من خلال تدقيقه الدائم لصحة الآراء ونسبتها إلى الفلاسفة وكذلك في إشاراته النقدية وشكوكه الصريحة.
فقد تعامل الشهرستاني بحذر من المواد المجموعة عن آراء الفلاسفة وكيفية عرضها. ومن المحتمل، أنه كان يدقق بين المصادر المباشرة للفلاسفة التي كانت بين يديه وبين ما تحويه الكتب المؤرخة الجامعة لأقوال الفلاسفة وحكمهم. ونرى ذلك حتى في العبارة، التي سعى لتدقيقها وتحقيقها لغويا وفلسفيا ومفهوميا. فعندما يتناول آراء سقراط، نرى الصيغ التي يضعها تختلف من حيث الدقة الفلسفية والفصاحة عما هو موجود في النص العربي من الكتاب المنسوب إلى فلوطرخس. إذ يورد آراء سقراط بالصيغة التالية: "إن مبادئ أصول الأشياء ثلاثة وهي العلة الفاعلة والعنصر والصورة. والله هو الفاعل". بينما في كتاب الآراء الطبيعية بعبارة: "إن المبادئ ثلاثة وهي الله والعنصر والصورة. والله هو العقل". وهو تدقيق وتحقيق يعكس اجتهاد الشهرستاني الشخصي لإبراز ما يراه صحيحا في تقاليد الدوكسوغرافيا الإغريقية. فعندما يتكلم على سبيل المثال، عن آراء أفلاطون حول "البخت" فإنه يستند إلى أرسطو، الذي نقل عنه قوله، بأنه "أثبت البخت أيضا مبدأ سادسا، هو نطق عقلي، وناموس لطبيعة الكل". في حين ينسب كتاب الآراء الطبيعية هذه الفكرة (أو الصياغة) إلى هيراقليطس، حيث نقرأ عبارة: "هيراقليطس يقول بأن جوهر البخت هو النطق العقلي الذي ينفذ في جوهر الكل". وما يورده "فلوطرخس" من أراء خروسيبوس عن البخت، ينسبها الشهرستاني إلى آراء جرجيس.
إن هذه الاختلافات بين استعراضه وبين ما هو وارد في (الآراء الطبيعية) يعكس أيضا موقفه النقدي من آراء الفلاسفة وصياغاتها في الكتاب المذكور. لهذا نراه يشير في معرض تحليله للكيفية التي نقل فيه فلوطرخس آراء هيراقليطس، من أن الأول نقل عن الثاني زعمه "أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت، والبخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي". ويصل أحيانا هذا التدقيق إلى مستوى التحليل اللغوي والفكري والمقارن. ففي المستوى التحليلي نرى أيضا أمانة الشهرستاني العلمية في تجنب الحكم القاطع في حالة غياب المعرفة اليقينية كما هو الحال في استعراضه آراء أرسطو. فهو يشير إلى أنه وجد إلى جانب ما استعرضه من أفكار أرسطو "الحقيقية" بعض الكلمات والفصول المنسوبة له "فنقلها على الوجه الذي وجدت، وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثاميسطيوس واعتمده ابن سينا"، بالأخص في قضايا حدوث العالم ومفهوم "لم يزل" وإمكانية اندثار العالم وتحديد العناصر الأربعة، ومخالفته لآراء أفلاطون بصدد قضايا النفس وغيرها. وهو موقف يحتوي على حدس علمي بصدد الخلاف القائم في الموقف من تراث المشائية الارسطية وشراحه. كما نراه يعلق على الفكرة المنسوبة إلى سقراط التي قالها لبقراط، قائلا "وهذا بكلام القدماء أشبه". بعبارة أخرى إن الشهرستاني لا يقف عند حدود الشك المعرفي والنقل الموضوعي لما وجده في كتابات المؤرخين للفلسفة وشراحها، بل ويقارن بعضها بالبعض على أساس "تاريخية" الأفكار وصياغتها اللغوية ومضمونها المفهومي. وليس عبارة "بكلام القدماء أشبه" سوى دليل على إدراكه نماذج الصيغة الفلسفية وموضوعاتها القديمة السابقة للفلسفة الأرسطية.
إن تدقيق الشهرستاني النقدي للمصادر يتضمن من حيث منهجه قيمة علمية، تتجلى ملامحها أيضا في المقارنات الحاذقة لآراء الفلاسفة. فعندما يتكلم عن آراء أرسطو في شروح ثاميسطيوس عن قضية كون "واجب الوجود واحد" واستنتاجه القائل بأن "محرك العالم واحد، لأن العالم واحد" نراه يشير إلى أن هذا من "نقل ثاميسطيوس"، لان هناك من الارسطيين من ذهب إلى أن "المبدأ الأول واحد من حيث انه واجب الوجود لذاته". ومن الممكن الاستشهاد هنا بأحد النماذج التحليلية المقارنة التي تتصف بحياد موضوعي تام كما هو الحال في استعرضه للخلاف بين شروح ثاميسطيوس وابن سينا للأفكار الأرسطية. فقد رد ثاميسطيوس على منتقدي الفكرة الأرسطية القائلة، بأن كون الأول يعقل أبدا ذاته تؤدي إلى إصابته بالتعب والكلل، قائلا "إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته، وكما لا يتعب من أن يحب ذاته، فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته". في حين رد ابن سينا على هذه الانتقادات قائلا: "ليس العلة أنه لذاته يعقل أو لذاته يحب، بل لأنه ليس مضادا لشيء في الجوهر العاقل. فإن التعب هو أذى يعرض بسبب خروج عن الطبيعة، وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تؤدي مضادة لمطلوب الطبيعة". من هنا يتضح، بأن إيراد الشهرستاني لشرح ابن سينا بالضد من شرح ثاميسطيوس لم يكن مجرد مقارنة عابرة أو لمحة ذكية، بقدر ما كان يعبر عن رؤيته لاتجاهين متباينين في فهم واستيعاب الفلسفة الأرسطية، وتأييدا ضمنيا لابن سينا. وهو تأييد نابع من ميل الشهرستاني وابن سينا قبله إلى اعتبار الفلسفة علما حسب التقاليد الأرسطية.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة