الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة والفكر والمجتمع

مجدي عزالدين حسن

2012 / 11 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


العلاقة بين اللغة والفكر، استأثرت باهتمام الفيلسوف واللغوي والانثربولوجي وعالم السايكولوجي. وهي واحدة من أهم المسائل التي تعرضت لها فلسفة اللغة، وقامت بمعالجتها. وبوسعنا صياغة هذه المشكلة في شكل التساؤلات التالية:
لمن الأسبقية والأولية: للغة أم للفكر؟
هل يمكن الحديث عن وجود فكر في غياب اللغة؟
هل تعبر اللغة عن الفكر بعد تشكله وتبلوره أم أن اللغة هي التي تتدخل في بنائه وتشييده؟
هل تمارس اللغة دورا توجيهيا في الكيفية التي ننظر بها للعالم؟
هناك توجهان: التوجه الأول ينظرللغة والفكر على أنهما منفصلان، ويقول بأسبقية الفكر على اللغة، ويحصر دور اللغة ووظيفتها في التعبير عن الأفكار. إذن وفقاً لهذه الرؤية فإن اللغة والفكر متقابلان، وينظر هذا التوجه للغة بوصفها مجرد أداة يتم استخدامها لتوصيل أفكارنا إلى الأخرين. ومن الجهة الأخرى، هناك النظرة التي ترى أن اللغة والفكر لا يمكن فصلهما عن بعض، وأن للغة تأثير قوي في تشكيل الفكر، بل هي التي تحدده. وعلى ذلك تشير هذه الفرضية إلى أن اللغة تتحكم في طريقة التفكير.
يعتبر المفكر الالماني هردرHerder (1744-1803) من الرواد الاوئل (بجانب ولهلهم فون همبولد) الذين اهتموا بمحاولة ضبط وتحديد العلاقة بين اللغة والفكر. ويمكن إعتباره الرائد الأول للنظرية التي تعزو دورا أساسيا للغة في تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون. فاللغة معه لم تعد مجرد أداة للفكر، بل هي القالب الذي يتشكل فيه الفكر، وهو ما يعني أن عالمنا الفكري سيكون محدودا، ولابد، بحدود الامكانيات التي تقدمها لنا لغتنا الأم. وقد ربط هردر بين خصائص اللغة وخصائص الأمة التي تتكلمها، ذاهبا إلى القول بأن كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم. وأبعد من ذلك، كل أمة تخزن في لغتها تجاربها والتي تساهم بدوره في تحديد نظرة أصحابها إلى الكون. ونحن لا ندرك الحقيقة والقيم إلا بنفس المعنى وبنفس المحتوى وبنفس الشكل الذي تنقله لغتنا إلينا. فاللغة إذن، ليست أداة فحسب ولا محتوى فحسب، بل هي، بمعنى من المعاني، القالب الذي تُفصل المعرفة على أساسه.
ومن جهة أخري، بيّن همبولد أن الفرق بين اللغات المختلفة، لا يكمن فقط في الصوت أو في العلامة المختلفة من لغة إلى أخرى، وإنما هو فرق (بالأساس) في رؤية العالم أو في النظرة إلى العالم من جانب مستخدمي هذه العلامات والأصوات.
في العام 1928م ظهرت فرضية سابيرـ وورف Sapir- Whorf hypothesis والتي ترجع في تأسيسها إلى إدوار سابير وتلميذه بنجامين لي وورفBenjamin Lee Whorf(ت1941م). إدوار سابيرEdward Sapir(ت1939م)، لساني وأنثربولوجي أمريكي، وهو من تلاميذ فرانز بواز. وقد كان مهتما بدراسة اللغات الأمريكية-الهندية. وهو أول من جمع بين اللسانيات وفلسفة اللغة والاجتماع، ووضع الأساس الانثربولوجي لدراسة اللغة، حيث كان يرى أن الدراسة العلمية للغة لا يمكن فصلها عن باقي الحقول المعرفية وعلى رأسها الانثربولوجيا (علم الإنسان) وعلم النفس. وكان له تأثير كبير في تطور الدراسات اللغوية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة المتبادلة بين اللغة والفكر، من جهة، وبينهما وبين البنية الاجتماعية من الجهة الأخرى، حيث رأى " أن اللغة التي تنتمي إلى مجتمع بشري معين والتي يتكلمها أبناء هذا المجتمع ويفكرون بواسطتها هي المنظم لتجربة هذا المجتمع، وهي تصوغ بالتالي عالمه وواقعه الحقيقي. فكل لغة تنطوي على رؤية خاصة للعالم" وهو ما يظهر اهتمام سابير ـ بجانب الوظيفة التواصلية للغةـ بالوظيفة التمثيلية للعالم، حيث يتم تمثل العالم الخارجي بواسطة الكلمات.
غيرت هذه الفرضية الطريقة التي كان يُنظر بها للعلاقة بين اللغة والفكر والتمثيل الثقافي للواقع. وقد أثارت جدلا عند كثير من الباحثين، وفتحت مساحات واسعة للدرس، خاصة، الفلسفي والألسني والانثربولوجي والسايكولوجي. وعلى الرغم من أن كثير من الباحثين دعموا هذه الفرضية، وأيدوا التأثير القوي للغة على الفكر، نجد أخرين حاججوا بأن اللغة لا تمارس تأثيرا على الفكر. وتتركب هذه الفرضية من مبدأين:
المبدأ الأول هو مبدأ الحتمية اللغوية linguistic determinism الذي يقرر أن اللغة تحدد الطريقة التي نفكر بها. حيث تتحدد أفكار الناس بواسطة مقولات(نظام تصنيف) توفرها لهم لغاتهم التي يتحدثونها.
وفي مواجهة هذا المبدأ، ينطرح السؤال التالي: كيف تشكل لغتنا الطريقة التي نفكر بها؟
How does our language shape the way we think?
هل صحيح أن اللغة التي نتحدثها تشكل الطريقة التي ننظر بها للعالم؟ الطريقة التي نفكر بها؟ والطريقة التي نعيش بها حياتنا؟ وهل الاشخاص الذين يتحدثون لغات مختلفة يفكرون بطريقة مختلفة عن أولئك الذين يتحدثون لغة واحدة؟ وهل تعلم لغة جديدة بالإضافة إلى اللغة الأم، يغير في طريقة التفكير؟
التساؤلات السابقة تمس من قريب فلسفة الذهن philosophy of mind ووجدت اهتماما من الفلاسفة والمشتغلين بحقل الانثربولوجيا وعلوم اللغة وعلم النفس، وهي كذلك تهم المشتغلين بحقول: السياسة والقانون والدين. ولفترة طويلة، كان ينظر لهذا المبدأ (اللغة تشكل الفكر) على أنه ـ في أفضل الأحوال ـ فرضية لم تُختبر صحتها untestable وفي أقلها ينظر له بوصفه فرضية خاطئة. وفي اتجاه التحقق من صحة هذه الفرضية، هناك جهود مقدرة تقوم بها د. ليرا بروديتسكاي Lear Boroditsky من جامعة ستانفورد، حيث قامت بجمع بيانات من مختلف أنحاء العالم (الصين، اليونان، شيلي، اندونيسيا، روسيا، استراليا)، وخلاصة ما خرجت به في دراستها هذه يتمثل في أن الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة هم في الواقع يفكرون بصور مختلفة.
اللغة شيء جوهري لتجاربنا وخبراتنا الحياتية، هي جزء من وجودنا البشري، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان تخيل حياة بدون لغة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل اللغة هي فقط أداة لشرح وتوضيح أفكارنا أم أنها تشكل أفكارنا؟
المبدأ الثاني هو مبدأ النسبية اللغوية linguistic relativity : ومفاده أن بنية لغة ما تؤثر على الطرق التي تتمكن بواسطتها الجماعة المستخدمة لهذه اللغة من تشكيل مفاهيمها عن العالم، ومن تشكيل رؤيتها الخاصة بها للعالم. باختصار تؤثر بنية لغة ما لشعب من الشعوب في تحديد وتشكيل كل عملياته المعرفية. وهو ما يعني أن الاختلافات الكبيرة بين اللغات تقود إلى الاختلاف في الأفكار والتجارب والخبرات. فكل لغة هي تجسيد لرؤية ما للعالم متضمنة في بنية نظامها اللغوي، وبالتالي فإن اختلاف اللغات يتجسد ويتبلور في اختلاف الرؤى، وهو ما يعني أن المتكلمين بلغات مختلفة يفكرون في العالم بطرق مختلفة.
إذن، ما يحدد أسلوب التفكير وطرائقه عند مجتمع ما، هو بنية اللغة الأم التي يستخدمها هذا المجتمع في إنتاج ثقافته، وفي تنظيم تمثله للعالم. وهو ما يعني، أن خلفية النظام اللغوي لأي لغة ما، ليس مجرد وسيلة لبلورة الأفكار المعدة مسبقا، بل على العكس تماما، فما يشكل الأفكار، ويفسر في الأن ذاته اختلافها من مجتمع لأخر، وما يفسر الألية الموجهة للفعالية الذهنية وللعمليات العقلية لجماعة ما، ينبغي البحث عنه في خلفية الأنظمة اللغوية المكونة للغات المختلفة.
وهو ما يعني، أيضا، أن عمليات تشييد وبناء المنظومة الفكرية والثقافية لجماعة ما، لا ينفصل بأي حال من الأحوال من اللغة التي تستخدمها تلك الجماعة، فالعملية الذهنية ومنتوجها الفكري والثقافي، لا يجب النظر إليها بوصفها نشاطاً عقلياً مستقل تمام الاستقلال عن لغة الجماعة، وهو ما يعني أن اللغة هي المحدد للقواعد التي على أرضيتها يتشكل الفكر.
على ذلك، تتحدد طريقة التفكير عند شعب ما من الشعوب ببنية اللغة ونظامها التي ينتسب إليها هذا الشعب، ويستخدمها ويوظفها في عملياته الذهنية والمعرفية التي بواسطتها يتمكن من تكوين رؤى خاصة به في تمثل وفهم الطبيعة والمجتمع والإنسان. وهو ما يعني، أيضا، أن ثقافة وفكر أي مجتمع، هي وجهة نظر يمليها عليه نظام لغته، فيقول ما تقوله له لغته. فلكل مجتمع أو ثقافة طريقة خاصة لتعميم التجارب الفردية وتنقيحها، أي صورة خاصة لتنظيم الذهن، وبالتالي صورة متميزة للفكر. فاللغة تنظم ثقافة المجتمع، أي كيفية إدراك هذا المجتمع للواقع وتمثله للعالم الخارجي، وعلى ذلك فإن اختلاف اللغات يؤدي إلى اختلاف في الطرق التي يتم بها تمثل العالم. وهذا يعني أننا أمام طرائق تفكير مختلفة وعوالم مختلفة ومتعددة بتعدد واختلاف اللغات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جدل يصعب علي الهروب منه
محمد البدري ( 2012 / 11 / 29 - 12:17 )
شكرا لهذه المقالة الثرية التي تفتح شهية الفرد ليعرف ذاته وكيف يعبر عما يفكر فيه وما هي مصادره المعرفية من اجل اثراء لغته. ولتسمح لي بالقول ان هناك علاقة جدلية بين اللغة وافكر فلا احد يستطيع تاكيد اسبقية ايهما فالاصوات البدائية لدي الحيوان كانت تصدر من احاسيس فسيولوجية كالالم او الاحساس بالخوف او نداء الغريزة. لحن النباح في الكلب، أو القط، له وقع مختلف عندما يكون مرحبا بصاحبه لدي عودته أو درءا لغريب قادم الي البيت. مع تطور ذلك الجهاز المعجز المسمي العقل تطورت معه الاحاسيس لتكون افكارا مختزنة كذاكرة جعلت الانسان مختلفا عن الحيوان وبالتالي اصبح التجادل معها اكثر دقة من صوت احادي اللحن فاصبح مركبا من فونيمات ومورفيمات ثم كلمات وجمل قادرة علي التعبير للتواصل بين الافراد عندما اكتشف ان التعاون بين اعضاء العشيرة الواحدة كفيل بتحقيق اشباعات اكثر من قدرة الفرد الواحد لذاته من ذاته. تحية لك وتقديري واحترامي.

اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل