الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصِّياغةُ اللُغَويِّةُ للخِطابِ قد تُشعِلُ حرباً، وقد تُخمِدُها

مديح الصادق

2012 / 12 / 28
المجتمع المدني


لا أدري - وأنا أجترُّ همومي مُغازلا رشقات الثلج على نافذتي آخر الليل - ما الذي ذكَّرني بحكاية قد نقلتُها لقرائي من قبل؛ كانت تحت عنوان ( إنَّ في الأمر إنَّ ) وكيف تخلَّصَ من موت مُحقق بطلُها، عالمُ البلاغة ابنُ سنان الخفاجي، المُلقَّب بالأمير؛ بفضل صديقه المخلص، كاتب حاكم حلب، الذي ختم رسالة الحاكم التي حررها له بعبارة ( إنَّ شاء الله ) بدلا من ( إنْ شاء الله ) المُتداوَلة عند الناس؛ لتكون تحذيرا له - وهو أمير إحدى ولايات حلب - من مُخطَّط مرسوم له بقطع الرأس عند القدوم لحاكمها، ما الذي دفع الخلفاء والولاة والسلاطين لاختيار علماء اللغة والبلاغة ليحتلوا مواقع الصدارة فيما يُسمى آنذاك بدواوين الإنشاء؟ حيث منها يخاطبون عُمَّالهم على الأقاليم، والرعيَّة؛ بما يوصلهم للغايات التي إليها يهدفون؛ الصاحب بن عباد، عبد الحميد الكاتب، أبو إسحق الصابي، وغيرهم كثير ممن لم تنصفهم كتب التأريخ؛ ولعل عودة بسيطة لما ترسَّخَ في أذهاننا من مفاهيم لعلوم البلاغة، والأسلوب؛ قد خففت عنا عناء الجهد بالتفكير المُقِضّ.

البلاغة كما وصفها علماؤها: مطابقة الكلام لمُقتضى الحال، مع فصاحته؛ والحال هو الموقف الذي يتطلب نوعا من الكلام الذي يناسبه، فنسمي صيغة هذا الكلام مقتضى الحال، وقد اختصرها بعضهم بعبارة: خير الكلام ماقل ودل، بكل ما تحمله من معانٍ جسام، وقال غيرهم: إن فيها بلوغ الغاية، والغاية - طبعا - هي إيصال المعنى المقصود، بأبسط صورة، وأجملها، وعلى أهميتها فقد قسموها إلى: علم المعاني، علم البيان، علم البديع؛ ولكل علم منها فروع وفنون؛ وكتب فيها علماء كثيرون، منهم ناقلون عن غيرهم، ومنهم مُبدعون؛ وكل تلك الجهود تصب في هدف واحد، أن يصل الكلام للمتلقي بشكل يوصل الأفكار إليه بأيسر صورة، وأوضحها، وأجملها.

لقد استرجعتُ شريطي اليومي مما اختزنته من مشاهدات لما قرأت على ما توفر بحوزتي من ورق مُلوَّن عليه طُبعَت كثير من الأكاذيب، ومواقع النت، أو الفيس بوك، وما شاهدته على شاشات التلفاز التي أمقتُها؛ لا لكثرة الأخطاء اللغوية للمذيعين والمذيعات، ومن يستضيفون من تجار السياسة، ودعاة الدين؛ أو ما يظهر منها على الشريط الإخباري؛ بل لأنها دعارة العصر بعينها؛ على حصرانها يُضاجع الكذابون عذارى النقي من الأفكار؛ أعدتُ الدواليب عكس دورتها وعند ما يستحق الوقوفَ توقفتُ؛ وقفتُ على أن ما يجري من حروب؛ كلامية، أم بالذخيرة الحية كانت؛ على مستوى العالم بأسره، أم على ساحاتنا وعلى كل المستويات؛ مرجعها - غالبا - ابتعاد الذين بالحجارة قد تراشقوا عمَّا يستوجب عليهم أن يجيدوه من أساليب الحوار، الحوار الذي يفرضه حال العالم في هذا العصر؛ وما ابتكره بنو الإنسان - العاقلون طبعا - من صيغ بها يستعين الحاكم، والقائد، والمسؤول،على مَنْ هم بمسؤوليته، من رعية القوم.

دعوة تلك، لكل من إليها هو مُصغٍ بكل اهتمام، أنْ افهموا أسراراً في العربية لا يستغني عنها غني أو فقير، جاهل أو متخوم بالعلم، عبدٌ تابع على أمره مغلوبٌ أو سيِّد بإيذائه ينشد اللذات، حاكم عادل أو مُستبد؛ ففيها تجنب واحتراز للكثير من الهفوات، ونجاة من أخطر المنزلقات؛ وما أكثرها في العصر هذا تلك المنزلقات! فكم من حرب أشعلها الذين لم يُدركوا الأسرار بسوء استخدامهم لحرف الجر في خطابهم لمن يخاصمون، أو إخفاقهم باختيارهم صيغة الاستعارة أو التشبيه؛ وقد يجهلون أنَّ تحققَ الفعل مع أداة الشرط ( إذا ) غير الجازمة أكثر منه مع أداة الشرط ( إنْ ) الجازمة لفعلين، وأنَّ ليتَ لتمني المستحيل ولعلَّ لطلب المُمكن؛ وأنَّ استخدام لفظ نابٍ أو شتيمة يعكس إخفاق صاحبها في إدارة الأزمات، وقد ينفخ بذلك نارا تحت الرماد فتُشعل الأخضر والهشيم، منهم من لا يعلم أنَّ مخاطبة القائد للرعية، أبنائه - المتخاصمِين - حال من أحوال البلاغة يستوجب التروي في إصدار الأحكام، وعدم التفريط بأي شق من العيال - وإن خالفهم في الرأي - أو رأى أنهم له أو لأتباعه مُسيؤون؛ وتلك - لعمري - خصال القادة الحكماء الشجعان؛ وما أفقرنا إليهم في هذا الزمان الصعب؛ فعلى رقعة الشطرنج ملوك تأسرُهُم كؤوسٌ وغوانٍ، ويُحيطهم مُرشِدون جاهلون؛ فلا هُم بألبابهم يستكفون، ولا بمَن حولهم من ذوي البصائر يسترشدون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي


.. النمسا تقرر الإفراج عن تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفل




.. طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة يعيش حالة رعب ا?ثناء قصف الاحتل


.. النمسا تقرر الإفراج عن أموال -الأونروا- التي تم تعليقها سابق




.. -غوغل مابس- قد يكون خطرا عليك.. الأمم المتحدة تحذر: عطل إعدا