الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وزارة التعليم العالي و- الأسواق المدرجات-

سعيدي المولودي

2013 / 1 / 1
التربية والتعليم والبحث العلمي


وزارة التعليم العالي و"الأسواق المدرجات"
في مبادرة غير عادية ،غريبة في الواقع، أعلنت وزارة التعليم العالي عن برنامجها الطموح لمواجهة ظاهرة الاكتظاظ، إحدى المعضلات الكبرى التي تعاني منها الجامعة المغربية، والناجمة عن كثافة وارتفاع أعداد الطلبة الذين يلتحقون بالتعليم العالي ويُسجلون،أو يُحشرون بمعنى أدق، في المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح، هذه المؤسسات التي هي أقرب إلى "مستودعات" أو "مخيمات" تنصب لإيواء الأعداد الهائلة من الطلبة الذين لا يجدون ملاذا ولا يحصلون على مقاعد في المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود التي تعتمد آليات الانتقاء و المباريات. وفي الواقع،هذه المؤسسات عبارة عن "أسواق" لا يخضع فيها التسجيل لأية معايير علمية أو بيداغوجية، ويقتصر دورها على محاولات احتواء وامتصاص ردود الفعل القوية أو العنيفة المحتملة ضد الحرمان من حق الولوج في التعليم العالي، وتشمل كليات العلوم والآداب والحقوق، أي المؤسسات التي تنهض بمهمات الاشتغال أو تدريس العلوم الإنسانية،وكانت دائما محل انتقادات ومؤاخذات، حد الدعوة إلى إلغائها أو الاستغناء عنها، إذ هي المشجب الذي تعلق عليه كل الانتكاسات والاختلالات والإخفاقات التي يواجهها التعليم الجامعي ببلادنا.
وعلى الرغم من أن الإصلاحات الجامعية التي باشرتها الحكومات المتوالية منذ مطلع الألفية الثالثة،كان هاجسها الأساس التصدي لمشكلات التعليم العالي على مستوى البنيات التحتية والتأطير البيداغوجي والإداري ومستوى الإنتاجية والمردودية والفاعلية والجودة، إلا أن الواقع كان أكبر من هذه الإصلاحات، إذ في كل مرة تتكسر أمواجها على سواحله وتنهار، مما يجوز معه القول إن هذه الإصلاحات لم تفلح بتاتا في أن تمنح أي دينامية جديدة للتعليم العالي، بقدر ما زادت من تفاقم مشكلاته وساهمت بقوة في تدهوره ونسف كثير من مقوماته. ففي أقل من عشر سنوات تم "تكوير" ثلاث إصلاحات بيداغوجية (2003- 2007 – 2009) لم يقم أي منها إلا بدور فعال في تدمير بنيات التعليم العالي وتكسير شوكة الجامعة المغربية وتخريبها وسوقها نحو مراتب الانحطاط.
وفي السنوات الثلاثة الأخيرة سجل ارتفاع مفتعل في نسب النجاح في الحصول على شهادة الباكالوريا، ربما في سياق تتويج شعارات "مدرسة النجاح" التي تم الترويج والتهليل لها، وتم إغراق المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح بأعداد هائلة من الطلبة، على الرغم من أن طاقاتها الاستيعابية غير مؤهلة لذلك، وهو ما خلق إكراهات جديدة عجزت هذه المؤسسات عن مواجهتها، و أرغم الوزارة الوصية على إعلان مبادرتها لبناء 25 مدرجا من فئة 800 و600 و500 مقعدا في مختلف الجامعات المغربية لمواجهة الوضع.
ويبدو أن "عقل" الوزارة يعتبر المبادرة تكنولوجيا عالية ومتقدمة يجب استثمارها من أجل مواجهة قضايا التعليم العالي وإيجاد الحلول لها، غير أن الحقيقة غير ذلك، إذ لا تجسد إلا مظهرا للتراجع والرجوع إلى الوراء، وامتدادا لمعالم الارتجال والعشوائية، و"تسطيح" آليات التفكير في استراتيجية التعامل مع مشاكل التعليم العالي المزمنة، فصيغة المبادرة تحيل إلى "الملاعب الرياضية" و"الأسواق المدرجة"، وليس لقاعات تدريس ينبغي أن تتوفر فيها شروط ومواصفات من شأنها أن تضمن نجاعة العملية التربوية والتعليمية وفعاليتهما.
والمفارقة هنا، أن الإصلاحات التي فُرضت منذ مطلع هذه الألفية كانت تتبنى منظومة إجراءات وتدابير راهنت على القطيعة مع الأنظمة التعليمية والتربوية التقليدية التي كانت تعتمد على الحشود والأساليب التلقينية العتيقة، وعلى توظيف الوسائل والإمكانات البيداغوجية الحديثة الكفيلة بتطويركفاءات الطلاب ومعارفهم وتحفيزهم على اكتساب المهارات المهنية التي تؤهلهم لممارسة أي نشاط مهني، وكان أن أطلق أحد وزراء التعليم العالي السابقين قولته " لقد انتهى عهد المدرجات" شعارا للمرحلة، ولكن الوزير الحالي يؤسس لتوجه مضاد، ويعلن عودة عهد المدرجات وإحياء أزمنتها.
وتسويق ثقافة فضاء المدرجات، في هذه المرحلة بالذات، له خلفياته ومرجعياته السياسية والاجتماعية، وهو منحى يقودنا إلى معالم الفكر الذي يسعى بإصرار إلى إلغاء الدور المتميز للجامعة المغربية وللتعليم العالي، ونسف ديناميتهما، ويعود بنا إلى ترسيخ مقومات التعليم شبه البدائية، وكأني بالوزير يتصور الأستاذ الجامعي إماما واعظا أو خطيب جمعة ينبغي أن تحشد له الجموع حتى يتسنى لخطبته أن تؤثر في الملأ وتحقق الأهداف المنشودة.
وفي تقديرنا فإن اعتماد "الأسواق المدرجات" في التعليم العالي لا يعدو أن يكون مغامرة غير محسوبة العواقب، وستكون له انعكاسات سلبية وخطيرة على العملية التعليمية وعلى مستقبل الجامعة المغربية، ولن يكون لها من دور إلا ترسيخ هذه الظواهر:
- الاعتماد بشكل حتمي على آلية التلقين وحدها وسيلة من وسائل التعلم.
- إلغاء أية إمكانات أو احتمالات التفاعل بين الطالب والأستاذ من جهة، وبينه والموضوعات الخاصة بالتعلم من جهة ثانية.
- إبطال وشل فاعليات وقدرات الطالب لتوظيف واستثمار معارفه ومهاراته المكتسبة خلال مراحل التعلم.
- إلغاء أية سياقات تربوية لتأطير الطلبة وضبطهم وتتبع أنشطتهم وتقويم معارفهم.
وهو ما يعني أن "الأسواق المدرجات" لن تزيد الأوضاع في التعليم العالي إلا تأزما، وستعود بنا القهقرى لزرع قيم الثقافة اللاعقلانية التي تضعنا أمام اختيارات فاشلة منذ البداية،إضافة إلى أنها مظهر صريح للحلول العقيمة التي لا تكرس إلا استراتيجية مواجهة "الاكتظاظ" ب"الاكتظاظ" والدواء بالتي كانت هي الداء.
سعيدي المولودي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة بعد الحرب.. قوات عربية أم دولية؟ | المسائية


.. سلطات كاليدونيا الجديدة تقرّ بتحسّن الوضع الأمني.. ولكن؟




.. الجيش الإسرائيلي ماض في حربه.. وموت يومي يدفعه الفلسطينيون ف


.. ما هو الاكسوزوم، وكيف يستعمل في علاج الأمراض ومحاربة الشيخوخ




.. جنوب أفريقيا ترافع أمام محكمة العدل الدولية لوقف الهجوم الإس