الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو صياغة روحية للحياة الجنسية / اقتراح واستشكال

أشرف الحزمري

2013 / 1 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من التصورات الشائعة في حياتنا اليومية ومشهدنا الثقافي أن الحياة الجنسية حقيقة لهـا بُـعد مادي يتحدد في الجسد وتمثلاته الحركية من أجل تحقيق اللذة، أي أن اللذة وفقاً لهذا البُـعد لا تستمد حقيقتها إلا من الفِعـــل الجسدي، وأن الجسد هو المركز والغاية في هذه العملية، وهذا التصور تُـرسّخه جملة من المفاهيم السائدة، والأفكــار المتداولة، التي تولي أهمية كبرى للمرئي على اللامرئي، وتُـقدّم الشخصي على المجرد، وتميل للجسد باعتباره قوة حاضرة من خلال أدواتها الحسية التي تطبعها التلقائية والعفوية، وتتجنّب الروح باعتبارهــا تقتضي مجاهدةً ومكابدة. أي أن اللامرئي يفرض على الإنسان جهدا يبذله الوعي حتى يخترق تفاصيل هذه العوالم المحجوبة.

ونحن لا نريد أن ندرس في مقيلنـا هذا العلاقة بين الروح والجسد، وإن كان لهذه الثنائية الفلسفية الحق في أن نفرش بهـا كلامــنا، كما أنّـنـا لا ننوي أن نقدم أطروحة علمية نبرهن على حجيتهـا، ونحلّل مباحثهـا، ونرد على الإعتراضات التي تحتملهـا، بل ما نرومه في نصّـنــا هذا هو أن نستشكل موضوعــاً انقدحت في ذهني بعض شراراته وإن لم يكتمل بعد تصوري واستيعابي لأصوله وفروعه، هـذا الموضوع هو إعــادة بناء فهمنــا للحياة الجنسية على أسس روحية، أي إزاحة الجسد من مركزية هذه العلاقة، ووضـــع الروح مكانه، أي ردهـــا إلى منزلتها الطبيعية. لأن التساؤل الذي يفرض نفسه هو : هــل الجنس ذو بعد واحد يتمثل في الجسد ؟ ومــا يبرر هذا السؤال هو أن الإنسان تتعدّد أبعــاده، ونحن إذا أخذنــا بالتصور اليونغي (= كارل غوستاف يونغ) للإنسان، سنجد أن الماهية الإنسانية لا تختزل في الجسد فقط، بل شخصية الإنسان تحددها وظائف أربـــع هي : "الإحساس"، و"التفكير"، و"الشعور"، و"العـيان"، إذن نلاحظ أن الجسد لا يتحقق وجوده إلى عبر وظيفة الإحساس، وهو في أسفل مرتبة من مراتب الحقيقة الإنسانية. ونلاحظ كذلك أن كل مرتبة وجودية في الإنسان لها وظيفتهـا، فالعقل وظيفته التفكير، ثم النفس وظيفتها الشعور، يعدهـا الروح وظيفتهـا العيان. وهذا ما يجعلنــا نرفض تضييق الحياة الجنسية في بُعـدها الجسدي الواحد، ونتغافل عن الأبعـاد الأخرى التي تتجاوز وتعلو مرتبة الجسد، مع أن لذة الجسد هي أدنى مستوى في سلّم اللذات.

يقول الصوفـــي ابن عربي «..إذا تعانق الحبيبان وامتصّ كل واحد منهما ريق صاحبه وتحلّل ذلك الرِّيق في ذات كل واحد من الحبيبين، وتنفّس كل واحد من الصُّورتين عند التّقبيل والعِناق، فخرج نفس هذا فدخل في جوف هذا، ونفس هذا في جوف هذا، (...) وكلّ نفس فهو روح كل واحد من المتنفِّسَين وقد حَيــِيَ به من قبله في حال التّنفيس والتّقبيل، (...) وقد كان ذلك النفس خرج من محب فتشكل بصورة حب فصحبته لذة المحبة، فلما صار روحا في هذا الذي انتقل إليه، وصار نفس الآخر روحاً في هذا الآخر، عُـبِّر عن ذلك بالاتّحاد في حق كل واحد من الشّخصيْن، وصحّ له أن يقول أنا من أهوى ومن أهوى أنا..» (1)

غرضنا من نقل هـذا النص أن نقدم نموذجـا للرؤية الروحية، فقد نوافق ابن عربي أو نخالفه، لكن تطــارحنا معه سيكون على المستوى الروحي وفي أفقه، ولشــهاب الدين السهروردي نظرية كذلك يقول فيهــا «..لـذّة الوقــاع (=الجماع) رشْح عن اللذات الحقّة، فـإنّ الذي يواقع (=يجامع) لايشتهي إتيان الميّت، بل لا يشتهي إلّا برزخــاً و جمالاً فيه شوب نوري، ويتمّ لذّتـه بالحرارة التي هي أحد عشّاق الـنّـور، وبالحركة التي هي أحد معلولات النّور وعشّاقه، و بتحرّك قوّتـَيْ محبّته وقهره حتّى يريد الذكر أن يقهر الأنثى، فوقع من عالم النور محبّة مع قهر على الذّكر، ومحبّة مع الذل على الأنثى على نسبة ما في العلة والمعلول على ما سبق. وكلّ يريد أن "يتّـــحد" بصاحبه بحيث يرتفع "الحجاب البرزخــــيّ"..» (2)

مجموع هذه المكتوبات والأخرى التي لم نقف عليها؛ يمكن أن تحدّد لنا رؤية روحية للجنس وأبعاده، وانفصالا عن الجسد في شهوته الضيقة إلى انفتــاح روحي على اللذة، مع أنّنا لو ربطنا فلسفياً وتعليلياً بين نصوص دينية من الوحي لحصلنا على آليات تقدّم لنا منهج أوّلي نبدأ من خلاله، فتأمّلاتي الجنسانية في الدّين مازالت لحدّ الآن استشكالية، مثل أنني أريد فهم العلاقة بين الفم والروح، فالفم في الرّوحانية الإسلامية هو منفذ الرّوح، ومترجم القلب، لهذا قد نقرأ القُبلة على أنها عملية امتصاص للروح السّاكنة في جسد المحبوبة، أو محاولة اكتمال روحي، وحتى تحسّسات الشفاه على الجسد ما هي في الحقيقة إلا بحث عن هذه الروح، كما أن مصّ اللسان وارتشاف سيلانه الشبقي يمكن أن نربطه بالقلب، فاللسان ما هو إلا وظيفة مادية لفظية تؤدّي المعاني المحجوبة في القلب ــ هذا العضو الصنوبري الذي يطرب لمعانيه الذاتية ــ وغيرهـا من الإشكالات والتساؤلات.

لكن ما يمكن أن نجابهه في قراءتنــا هذه هو أن كلامنــا هذا ما هو إلا تأويل لغوي للذة، ونحن نطرح استشكالا بدورنـــا والذي يمكن نصيغه في السؤال التالي هو : هل اللذة الجنسية بين الزوجين لا يمكن اعتبارهــا إلا ثمرة تلاحم الجسدين ؟

هذا السؤال يفتح لنــا أفقاً مفهوميا يجعلنا نعيد النظر في اللذة ذاتها، حيث أن الروح ترتبط جوهريا بمفهوم التزكية، أي أننـــا إذا اعتبرنا الروح تكمن في أعماق الإنسان، فما يجلّيها ويكشف عنها غطاءهــا هو عمل من جنسهــا، ولا عمل تعرفه الروح إلا تلبّس الإنسان بالقيم، إذن فمــا يحقق اللذة هو التحقق الروحــــي بالتخلق الذي يجب أن يطبع العلاقة الجنسية بين الزوجين، فالمــجاهدة بمفهومهــا الأخلاقي ـــ والتي تدل على تصفية النفس من الرذائل والقبائح، وتحليتهــا بالفضائل والمحاسن ــ نجد لها معنى في هذه العلاقة من زاوية التجربة التخلقية الحية، أي أن صـــفاء النفوس قيمة ينتجها العمـــل الأخلاقي، والتعامل الأخلاقي الروحي بين الزوجين هو من يعمق من طبيعة هذه العلاقة ويفتحهـــا على العــالم الروحي واللامرئي.


(1) ــ الفتوحـــات المكية : ابن عربي، ص 1479، موقع الوراق
(2) ــ حكمة الإشراق : شهاب الدين السهروردي ، تحقيق هنري كوربان، 1373، طهــران، ص227








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من مسافة صفر.. استهداف دبابة إسرائيلية بعبوة -العمل الفدائي-


.. متظاهر يهتف -غزة- خلال توقيفه بنيويورك في أمريكا




.. إسرائيل تؤكد إصرارها على توسيع العملية البرية في رفح


.. شرطة نيويورك تعتدي على مناصرين لغزة خلال مظاهرة




.. مشاهد للدمار إثر قصف إسرائيلي على منزل عائلة خفاجة غرب رفح ب