الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية ومستلزمات الخالة الثورية العربية الراهنة

عبدالحق لبيض

2013 / 1 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تستدعي الحالة الثورية العربية ،وضمن سياق التحولات التي تفرضها في مسار الثورة على الأنظمة الاستبدادية ،إعادة صوغ سؤال ماهية النظام السياسي الذي يليق بتضحيات الشعوب وبتطلعاتها إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.
ومثل هذا السؤال من شأنه أن يعيدنا إلى المربع الأول الذي انطلقت من دوائره تجربة الاستقلال ،حيث كان البحث جادا عن ماهية وشكل الدولة الوطنية التي كانت معالمها الأولى قد رسختها إدارة الاستعمار الغربي للمنطقة العربية.إلا أن الملاحظ ،في تلك الفترة، أن سؤال شكل الدولة الوطنية لم يصل إلى مستوى الحدية والمنازعات الايديولوجية والسياسية لأن الدولة ،كمفهوم حديث ،لم يكن قائما في الفكر السياسي العربي آنذاك ،وأن الطبقة السياسية في الوطن العربي كانت شبه مستعدة للقبول بقالب الدولة الوطنية باعتباره الخيار الأوحد المطروح أمامها. أكيد أنه كانت هناك اختلافات في صيغ التعاطي مع مفهوم الدولة الوطنية باعتبار التجربة التاريخية والسياسية والثقافية لكل قطر على حدة فهناك من الأقطار العربية من أقام الدولة الوطنية من خلال عملية هدم تام للنظم السياسية الموروثة عن الحقبة ما قبل الاستعمارية ( حالة تونس مثلا)،في حين ذهبت أقطار أخرى بفعل النظام التقليداني للحكم إلى عملية إصلاح سياسي وإداري بإشراف الإدارة الاستعمارية (حالة المغرب مثلا).لكن في الحالتين معا نحن أمام شكل جديد للدولة آتية رياحها من مرجعية الدولة الوطنية القومية في الغرب ،بكل حمولاتها الفلسفية والتاريخية والاجرائية.
و يعد الارتكان إلى خيار الدولة الوطنية الحديثة في نظرنا تسليما بعلمانية الدولة ،وبالتمييز التلقائي بين مجال الحياة العامة ومجال الحياة الخاصة، والفصل المنهجي بين الديني والدنيوي في تدبير الشأن العام للمواطن، بعيدا عن إكراهات المقدس والعقائدي.غير أن تحول الدولة الوطنية العربية إلى آلية للتسلط والقمع ،والاعتداء السافر على حرية الفرد،أعاد للديني دوره الخفي ،خصوصا في غياب المشروع المجتمعي والحضاري الذي يستطيع أن يسند الحكم والنظام في مثل هذه الدول الشمولية.وقد تبرر عودة العامل الديني ،في مثل هذه الوضعيات التاريخية، لتعزيز احتكار الدولة للحياة العامة والفردية للمواطن قصد تقوية آليات التحكم فيه، إضافة إلى محاولتها إضفاء القدسية على وجودها السياسي والاجتماعي من خلال استثمار تمثلها للديني، ومحاولة تقديم نفسها كممثل للقدسية الدينية وحاميتها. كما وظفت دولة القمع الدين كنقطة ارتكاز دفاعية تلجأ إليه في تدبير أزمات شرعياتها ،أو في صد موجة التدين التي تجد فيها الحركات الإسلامية أرضية خصبة لاستغلال تنافسها على السلطة مع النظام.من هذا المنطلق يتضح لنا ذلك الخلط الذي يتم بين الأنظمة الاستبدادية العربية وبين النهج العلماني من خلال وسم هذه الأنظمة بسمة العلمانية وهي براء منها،كما هي براء من الدين.فالدول الشمولية الاستبدادية هي أنظمة بدون لون ولا طعم لأن الاستبداد لا نهج له ولا عقيدة .إنها أنظمة استبدادية تسلطية وكفى.
يعاد اليوم التفكير في منهج تدبير الحياة العامة للمواطن العربي في ظل سياقات التحول الذي تعرفه العديد من البلدان العربية بفعل ما سمي ب"الربيع العربي ".فأمام انهيار مشروع الاستقلال الوطني، وفشل القوى السياسية المنحدرة من رحم الحركات الوطنية التحررية في بناء الدولة الوطنية الضامنة لحقوق المواطن ولكرامته ،وفي ظل أزمنة القهر والاستبداد والتسلط ، عاد، إلى ساحات النقاش العمومي، مفهوم العلمانية كمنهج لتدبير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمة بما يضمن حقوقها، ويمنع عنها السقوط مرة أخرى في براثين الاستبداد. لكن النقاش حول العلمانية هذه المرة يأتي في سياق مختلف. فمن جهة هناك موروث من الحكم الاستبدادي يصعب التخلص منه بسهولة ،وهو موروث نجح في خلق سراديبه داخل الكيان الاجتماعي للأمة،ومن جهة أخرى هناك الحضور القوي للحركات الإسلامية في البورصات السياسية العربية واحتلالها مقدمة المشهد السياسي العربي .
اتسم مسار التيار العلماني العربي بكثير من الالتباس والغموض ،نتيجة طبيعة نشأته وتكوينه،من جهة ،وتعقد البنية الاجتماعية التي ترعرع داخلها .
فأولى المصاعب التي واجهت مفهوم العلمانية ،في مرحلة النشأة والتكون ، أنه اعتبر وافدا غربيا.وبما أن حالة الاصطدام مع الغرب المستعمر كانت شديدة ساعتها ،فقد نظر إلى العلمانية كامتداد لهذا الغرب الاستعماري ،وبالتالي تم رفضها مع جملة الأنساق والمفاهيم التي مقتت في المشهد الفكري العربي آنذاك. أضف إلى هذا العامل ،عاملا آخر تجلى في أن من أهم رواد العلمانية العربية في مرحلة نشأتها كانوا مسيحيين،مما زاد من حدة الشكوك في الساحة الفكرية والسياسية العربية.
ولم تكن البنية الاجتماعية التي نما وتطور فيها الفكر العلماني تسمح له بامتداد بفعل الموروث الثقافي المتزمت والماضوي والتقليداني. لقد خرجت الشعوب العربية من مرحلة مقاومة الاستعمار وهي أكثر تمسكا بالفكر الديني كرد فعل على الحالة النفسية المتأزمة التي تعيشها بفعل الاستعمار والتبعية. وبالتالي فإن عملية التعاطي مع الفكر العلماني لم تكن مرنة وتحيط به الكثير من الأسئلة والاستفهامات.
فكيف يمكننا إعادة التفكير في مسألة العلمانية بعيدا عن هواجس مرحلة التأسيس ،وقريبا من عملية النقد الذاتي للمنجز الفكري للعلمانية العربية ؟
1 - الحاجة إلى نقاش العلمانية اليوم، وفي سياق المتغيرات السياسية والاجتماعية العربية، يفرض علينا إعادة النظر في الأطر المرجعية للعلمانية الغربية ،ومحاولة فهمها في تنوعها بعيدا عن كل تحجر أو أحادية في التفكير .لأن من شأن ذلك أن يسمح لتيار العلمانية العربية بتقوية مرجعياته وتنويع مصادره من أجل مواجهة كافة الاحتمالات الممكنة في عملية علمنة الحياة العامة للإنسان العربي، والانزياح عن الحالة الصدامية التي يمكن أن تسفر عنها الرؤية الأحادية للعلمانية. إن العلمانية الفرنسية بكل منجزاتها الإيجابية قد لا ترقى إلى مستوى الإجابة عن الأسئلة والتحديات التي تطرحها مسألة علمنة الحياة الدنيوية للمجتمع. فلا بد أن تتحول العلمانية العربية من وضعية المواجهة إلى وضعية الخلق والإبداع اعتمادا على التساوق الإيجابي مع معطيات المجتمع وتضاريسه الفكرية والسوسيو ثقافية.
2- أن تتحرر العلمانية من الثنائية الملتبسة والخاظئة : العلمانية / الدين ، وأن تحولها إلى الثنائية الأصلية للفكر العلماني : العلمانية / المقدس. والتأكيد على أن العلمانية ليست ضد الدين، وإنما هي محاولة إزاحة المقدس ،وإعادة المجتمع إلى الإنسان بعد ان سرقه منه المقدس بكل أنواعه،سواء أكان سلطة دينية أو دنيوية، وتحرير العقل من أوهام المقدس وتحميله مسؤولية تدبير شؤونه الدنيوية على قاعدة أن العقل وحده المتحكم في تدبير شؤون الدولة وليست العقائد الدينية.
3- شهد الفكر التنويري الغربي في العقود الأخيرة نوعا من النقد الشديد للأطر الفكرية للحداثة جسدته مفاهيم من مثل الدولة ما بعد الصناعية ، أو ما بعد الحداثية .وهي مفاهيم أعادت النظر في الكثير من مسلمات فكر الحداثة التي أنزلت الإله من السماء إلى الأرض فمثلته في العقل الأداتي الذي حاز على نصيب كبير من النقد.وبما أن العلمانية هي نتاج الفكر الحداثي، فإن ما بعد الحداثة مست بنياتها وغيرت من طبيعتها المغلقة لتفتح أفقها على المقصي من المفكر فيه حداثيا.ولا بد ،في هذا السياق ان يستحضر تيار العلمانية العربي هذه المتغيرات الفكرية الجوهرية في المنظومة الغربية في محاولته إقامة فكر علماني عربي يأخذ يعين الاعتبار خصوصيات المجتمعات العربية ،ويجعل من مفهوم العلمانية العربية مجالا يتسع لمساحات أكبر لفهم الظاهرة الدينية في بعدها السوسيولوجي ،والسعي إلى تأطيرها وتنظيمها داخل مقولاته الفكرية بعيدا عن كل نوع من الإقصاء أو الاحتواء.محاولا المساهمة في إقامة إصلاح ديني يسبق عملية علمنة المجتمع والدولة لضمان توفر الحاضنة المؤسساتية والاجتماعية لفكر العلمانية ،وهي الحاضنة التي افتقدها على مر مراحل تكونه واشتغاله ،مما جعله مغتربا عن واقعه الاجتماعي، وصعب من مأمورية انغراسه في تربة المجتمعات العربية.
4- كان صراع العلمانية مع الفكر الديني السياسي منذ فترة الاستقلال إلى بزوغ فترة الثورات العربية صراعا إيديولوجيا بين تيارين ينتميان إلى المجتمع المدني ولم يكن أيا منهما يمتلك سحر السلطة بين يديه.لذلك كان الصراع يأخذ طابع الحدية من جهة، والطوباوية من جهة أخرى.فكلا التيارين كانا ينطلقان من مرجعيتهما ،ويؤسسان لمنطق فكرهما بعيدا عن إكراهات التدبير اليومي للشأن العام. أما اليوم وقد وصلت الحركات الإسلامية إلى السلطة فإن أفكارها ومشاريعها صارت على محك النقد والمحاسبة ،الشيء الذي سيفقدها، إذا هي لم تتمكن من تحقيق ما كانت تحمله من شعارات وتطلقه من خطابات زخمها الجماهيري ،وينال من رصيد شعبيتها، وهي لن تستطيع ،وإن أرادت لأن الواقع يعاكس أحلامها وطموحاتها .فهي لن تتمكن من تطبيق دولة الشريعة ، ولن تستطيع إقامة الحكم بحدود الله التي كانت تبشر بها أتباعها وحواريها ،ولن تتمكن من أسلمة المجتمع، لأنها ، .ببساطة ، قبلت ان تدخل في إطار الدولة الوطنية الذي هو،في الأساس، تراكم علماني ونتاج لفكر الحداثة ومحكوم بألياتها ،ومسير وفق مناهجها ومقارباتها. وهذا الوضع يمكن أن يستفيد منه تيار العلمانية إذا هو أعد نفسه لهذا الأمر واستغل هفوات حكم الإسلام السياسي .
لقد دشنت المجتمعات العربية انعطافة جديدة في مسيرتها التاريخية بفعل صحوة الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة البشرية ،ولن تتراجع عن مكتسبات مقدمات ثورتها المستمرة لا محالة إلا ببناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطية، التي هي المطلب الفكري والسياسي والشعبي، بعد أن ينهي ثوارنا مع " ديكتاتورية الأغلبية" التي تمارسها الحركات الإسلامية في العديد من الدول العربية التواقة للتغيير.وإذا أردتم الدليل فانزلوا مصر فإن لكم فيها المثال الأوضح.
أستاذ باحث وناقد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah


.. 103-Al-Baqarah




.. 104-Al-Baqarah