الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القومية والدين - الظروف الموضوعية والذاتية

عدنان يوسف رجيب

2013 / 1 / 23
المجتمع المدني


إننا نتواجه دائما بأنماط في سلوك الأفراد يعتمد على تصور خاطئ يزن الظواهر بغير معيارها. نعني بذلك التفكير الذي يتعامل مع الأسباب الموضوعية في الحياة على إنها ظروف ذاتية، ويجري وفق ذلك تقييم الذات وتقييم الغير. إن الوعي المجتمعي هنا ضروري للتمييز بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، من أجل تفاهم أفضل بين البشر لتطوير الثقافة و لتحسين أسباب الحياة.
تندرج، هنا، في هذا المضمار موضوعات غاية في الأهمية، لعل أبرزها موضوعتي الدين والقومية عند الإنسان، تلكما اللتان يتمثل بهما مئات الملايين من البشر.
إننا حين نعمد إلى تحليل ملموس لتجليات إكتساب الفرد لظاهرتي الدين أو القومية، سنجد، في العموم، إن إي منهما هي حالة تقع خارج إرادة ووعي هذا الفرد. وعليه فإن الظاهرتين، حسب تعريف العلم - نفسي ، تقعان ضمن الدائرة الجبرية التي ينشأ عليها الإنسان. فهذه الحالة الجبرية، خارج الإرادة، تعني، هنا، أن الفرد الإنساني يدمغ بـ دين معين وقومية معينة حتى قبل لحظة ميلاده. فهو ،(أو هي)، مسلم أو مسيحي أو يهودي أو صابئي أو سيكي أو بوذي، وهو ،(أو هي)، عربي أو فرنسي أو إيطالي أو كردي أو تركماني أو ألماني أو باكستاني وغيرهما، فقط لأن ألأبوين من ذلك الدين المعين والقومية المحددة.
وهنا، وفقا لهذه الحقيقة يولد الفرد وهو منقاد، شاء أم أبى، حسب ما تم تحديده له سلفا. فتبعا لظروف هذا الواقع الموضوعي يكون الفرد واقعا تحت تأثير البيئة التي ينشأ فيها، وإبتداء من المحيط العائلي الأساسي، وإلى الأقارب والمعارف، وفي كثير من الأحيان، إلى حي السكن والمدرسة والمدينة. وهكذا، في هذا الواقع، تنمو المعرفة والتقاليد والثقافة الدينية والقومية المحددة عند الفرد مع نموه البيولوجي، ويتشرب بهذه المعارف يوما بعد يوم.
فعند هذا الواقع، الجبري ، يترسخ في ذهن الفرد، (في خلفية الدماغ وفي اللاوعي، كما يقول علماء النفس )، شيئا فشيئا نشوء حالة تقبل صواب تعاليم دينه وسلوك قوميته. إنه الإيمان العاطفي، (و بدرجات متفاوتة عند الأفراد)، بأن ليس ثمة دين أو قومية أفضل مما لدي هذا الفرد. في حين إن هذا الواقع يبين، أيضا، إن ليس فقط لم يطلع هذا الفرد أو يتبين ما في الأديان الأخرى، بل إنه لم يدرس بوضوح حتى أصول دينه الذي يتمسك به، وهو لا يزال بعمر اليفاعة. وبالتالي يكون الحال بعد هذا العمر إستمرارا لما درج عليه الفرد وتشرب به من تعاليم وتقاليد وعادات، (عدا عن بعض الإستثناءات).
كي يستطيع الإنسان أن يقرر لنفسه منهجا فكريا أو مبدأ في الحياة وأن يتعرف على الصحيح والخاطئ في مبادئ معينة، لابد له من أوليات يعتمد عليها، منها مثلا أن يمتلك وعيا ثقافيا مناسبا وبعمر كاف للإدراك، كأن يكون قد تخطى سن المراهقة مثلا. لكن واقع الحياة الملموس ينبئ بأن مئات الملايين من البشر يكونون، وقبل إكتمال هذه الشروط الأساسية بسنين طويلة، قد شرعوا بالتمسك والإلتزام بدينهم (أو في الحقيقة، بدين من حولهم من الناس). عليه، إذن، يكون هكذا تمسك بالدين هو تمسك عاطفي (أي دون تحكيم عقلي)، حيث لم يكن ثمة مجال لتمحيصه عقليا. وقد يصل التمسك العاطفي، أحيانا، لدرجة إن كثير من الأفراد يكونون مستعدين للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تفوق هذا الدين وهذه القومية على ما عداهما. نسمع كثيرا من أولئك الأفراد من يقول: أنا فخور بقوميتي، أو: لقد شرفني الله بـ الهداية لهذا الدين.
والفخر والهداية هنا قد يوضحان إعلان التقوق على القوميات الأخرى، وأفضلية الدين على غيره، وهنا تكمن المعضلة والمحنة لأن الفرد في مثل هكذا إحساس يمكن أن تتشكل نوازعه السلوكيه الإستعلائية بتوجه عدائي للآخر المختلف.
أزاء هكذا حالة، خصوصا عند تطرفها، يمكن توقع حصول كثير من السلبيات داخل المجتمع، تلك التي تتجلى بأشكال من العنجهية الدينية – القومية (غير الواعية) مصاحبة بعنت العنصرية العنفية ضد الغير الآخر والإحتقار له لحد جواز إضطهاده وسلب حقوقه، وحتى حقه في الحياة، فقط لكون هذا الغير من دين وقومية أخرى. والمعطيات الملموسة، هنا، تعج بها الحياة وفي أصقاع عديدة من الدنيا. فالتأريخ يحدثنا دون كلل عن مآسي ومظالم تقشعر لها الأبدان.
إن الأزمات الإجتماعية في هذا المضمار كثيرة في الأماكن المتخلفة ومنها مناطقنا الشرق أوسطية. حيث لا زال في أيامنا الحاضرة يدق ناقوس خطر الإنعزالية الدينية. فهناك بعض من المتدينون (وليس الكل بالطبع) مسلمون ومسيحيون ويهود يتناحرون ضد بعضهم البعض. والتقوقع الطائفي يظهر كذلك ضمن الدين الواحد كما يجري حاليا بين مجموعات قليلة من الشيعة وأهل السنة في دول ومناطق كثيرة، ويجري العداء بشكله العنفي الشرس بينها، وكل في هذه المجموعات القليلة نسبيا هو معتدي ومعتدى عليه، والجميع يخسر، والرابح هنا هو تدني الوعي والخراب الإنساني والحاكم الذي يستمر في حكمه على هذا التطاحن. إن الخسائر قاسية ومدمرة ونراها يوميا في دولنا العربية والإسلامية، وكل يدعي إنه الأجدى بالدين والأقرب إلى الله، لكنه لا ينشغل إلا بالمفخخات وتدمير الناس وتكفيرهم.
لنقف، إذن، ونواجه هكذا فرد متحمس عاطفيا ونطالبه بالتمعن في كيفية إلتزامه الديني والقومي، نطالبه بتوضيح الأسس والعوامل التي هيأها هو ذاتيا ليكون بما هو عليه، لا شيئ لديه من ذلك بالطبع. وستتبين لهذا الفرد، كذلك، حقيقة إن الآخر المختلف عنه هو تماما كان قد درج في حياته على نفس الصعيد، فقد تم وضع، هذا الآخر، على نفس المسار الذي جرى لهذا الفرد. فكل من الجانبين، إذن، مقهور مجبر، حسب علم النفس، فهما يسلكان في الحياة توجها وفق ظرف موضوعي مهيأ لكل منهما. عليه لا يكون منطقيا ولا إنسانيا أن يقوم الفرد المجبر على دين وقومية في معاقبة الغير على ما لم يختاره بنفسه، كذلك، من دين وقومية.
أزاء هكذا واقع حقيقي لموضوعية الدين والقومية عند الفرد، يكون المنطق العقلي أن لا ينبغي للفرد أن يتمسك بشكل أعمى وبتطرف لدين أو قومية، وكذلك أن لا يتعالى ويعادي الآخر المختلف عنه بالقومية أو الدين.
والمعنى المطلوب هنا ينبغي أن لا ينسرح فيه التفكير إلى مسالة الإنتماء المجتمعي، إذ إن الإنتماء والتواصل مع مجموعة أو مجموعات بشرية هو حالة إنسانية صحية ناجعة، ومطلب إجتماعي صحيح سلوكيا يحتاجه الفرد في الأمان والإطمئنان والمساعدة والتفاهم والإنسجام وحالات إنسانية كثيرة دون الإساءة للآخر. فهذه الحالة الصحية المطلوبة تختلف جوهريا عن حالة الإلتزام المتطرف مع مجموعة معينة من الأفراد معادية للغير، والتي هي حالة غير إنسانية.
في هذا السياق الواقعي للأحداث، قد يكون مدهشا لغرابته أن يدافع ويضحي الفرد من أجل شيئ لم يتم أخذ رأيه فيه ولم يساهم إبتداء في صيرورته. في وقت إن المنطق العقلي يفترض والتأريخ يحدثنا، كذلك، إن الإنسان يثور أو على الأقل يعلن العصيان على من يجبره على طاعته، وهذا هو الإيجابي الحضاري والصائب في فكر وسلوك الإنسان، ذلك الإنسان الحر الشجاع الذي يتمتع بقوة داخلية خلاقة حقيقية على تحدي القهر والإذعان. إذن لنقف ونحلل ماذا يعتمل في دواخل الفرد النفسية وهو يتقبل حالة الإجبار أمام الدين وهو قليل المعرفة به، ولكنه يذود عنه.
هناك ربما جانبين مهمين في هذه المسألة، هما: التعود والوعي. فالتعود على الدين، (والقومية مشابهة لحالة الدين)، كما أسلفنا، يغمر الفرد منذ بداية الصغر وتكون الحاضنة الأولى له البيئة القريبة ثم يجد هذا الفرد إن دائرة التعود تتسع معه لتشمل المدينة، وربما المقاطعة أو الدولة. وهكذا يكون التعود على تعاليم وعادات الدين سلوك يومي للفرد ينسجم فيه مع الجماعة الإجتماعية حوله. أما الوعي، وهو في أحيان كثيرة يكون العنصر الهام والحاسم، وربما لا يتمتع به من الإفراد إلا القليل نسبيا. وهنا المقصود بالوعي هو المعرفة الإجتماعية في صواب تحليل الأسباب المنطقية لما يجري من حوادث، أي ربط المكونات التي يتوجب أن ترتبط مع بعضها في موضوعة معينة وأبعاد تلك التي لا علاقة لها بالموضوعة ، ومن ثم الحصول على إستنتاجات صائبة مفيدة تخدم الغرض المطلوب.
ولا بد أن يضاف في هذا المجال عنصرا الشجاعة والأخلاق الرفيعة ، المرتبطان بالوعي. فالفرد الواعي بالأحداث لا يستطيع دائما أن يصرح بها ما لم تكن عنده الشجاعة والسلوك الجيد على ذلك، لكي يواجه بهما من يحاولوا أن يصدوه ويوقفوه، خصوصا أولئك الظالمين الجابرين غيرهم لمشيئتهم. وحين عدم توفر مثل هذه العوامل الهامة يكون الفرد نهبا للقهر والإذعان من حيث درى أو لم يدر. عليه، يظهر لنا الواقع إن المتطرفين المضحين بأنفسهم، بدون معرفة واضحة بدينهم وتقاليد قوميتهم، هم من يغزوهم التعود بشكله الواسع ويعوزهم الوعي الإحتماعي المطلوب في الحياة.
وقد يندرج في مضمار التعود والمسايرة له بعض من المجموعات ذات المسارب المختلفة في الحياة، بينهم من الأفراد المتخصصين في ناحية معينة بالعلم، وليس بالحياة الإحتماعية. تعطينا الحياة نماذج من هؤلاء اللذين كان التعود له الحضوة عندهم والوعي الإجتماعي لديهم قليل نسبيا. فقد يتمثل أمامنا إقتصادي قدير أو طبيب بارع أو جغرافي محترف أو باحث صناعي جليل، لكن هذا لا يعني إنهم بهذا الإختصاص الهام النوعي في الحياة قد إجتازو النجاح في الحياة الإجتماعية.
عندما ننظر على الجانب الآخر الذاتي، أي الحالة التي يقوم فيها الإنسان بنفسه بإختيار فكر ومنهج معين للحياة، هنا يكون ذلك الإختيار قد حصل، عموما، بتمحيص وإستقصاء وتقييم جاد من قبل هذا الإنسان. وهنا، في هذه الحالة، يشترك في هذا الإختيار، (عموما)، نضوج الوعي النسبي والعمر المناسب للإنسان. فليس، إبتداء، في هذا الإختيار شيء من التعود السابق، وليس فيه، عموما، إتباع سلوك الوالدين أو القريبين في هذا المنهج الحياتي . فالقيمة العليا هنا هي إن هذا الإنسان قد درس الأفكار وتمحصها أولا ثم بعد ذلك إختار من بينها مبدأ وفكرا له. وهنا، يظهر العامل الذاتي في كونه حاسما بدرجة كبيرة. وهنا، كذلك، يكون من المناسب جدا أن يقف هكذا فرد ليقول بثقة إني أفخر بمعتقدي، ويدافع عنه. فهو فرد حر لم يكن مجبرا على هذا الإختيار. عليه يتبين لنا الفرق الشاسع بين مدى نجاعة وصواب إفتخار هكذا فرد بمبدئه وبين من يفتخر بدينه و قوميته، المجبر عليهما.
إن مترافقات العامل الذاتي في الإختيار هي إنسانية الهدف والسلوك. إنها عناصر ضرورية في تطور المجتمع للأفضل وفي تلبية الحاجات الحياتية لجعل الإنسان واثقا بنفسه آمنا مستمتعا سعيدا ومساهما إيجابيا كعنصر إجتماعي فاعل في الحياة.
وبالمقارنة مع أولئك الأفراد المتمسكين بعاطفية وتطرف بالدين والقومية، فإن مآسي قد تحصل من جراء ذلك، إذا ما رافق ذلك عند الأفراد شيء من ضعف الوعي. فيمكن التوقع في أن تتخلل الحياة حوادث، في أكثرها، كما أسلفنا، لحالات إضطهاد وإستعلاء وتناحرات وحقد وكراهية للآخر، تنطلق من خطل تصور التفوق الديني أو التفوق القومي عند مجموعة ضد أخرى، وهو ما قد يفضي إلى الصدام الإجتماعي المضني، في وقت إن كلا الجانبين، المضطهد ومن بقع عليه الإضطهاد موجودان في سجن دائرة الجبر نفسها.
العوامل الموضوعية المسلطة على الفرد في الدين والقومية ،مثلها مثل إسم الشخص أو تشكيل صفاته الجسمية. فالفرد يدمغ ويعرف بها وهو ليس لديه، أبتداء قبولا أو رفضا أزاءها. فلا مجال منطقي هنا للإفتخار بها ناهيك عن الإستعلاء والتسلط على الغير بسببها.
لنا، كذلك، إن نبين حقيقة هامة هنا، وهي إن الميلاد الوراثي ومكان تواجد الفرد مرهونان بعوامل عديدة. عليه، فإن من كان على دين معين وقومية معينة، كان يمكن أن يكونهما الفرد على قومية ودين آخرين لو إنه كان مولودا لأبوين آخرين أو فيما لو إنه عاش مع أهله على أرض أخرى وفي مجتمع آخر.
ممكن مثلا، للعربي المسلم أن يكون يهوديا بولونيا، أو المسيحي الفرنسي أن يكون مسلما باكستانيا واليهودي الإسرائيلي أن يكون مسيحيا إيطاليا. وهنا سيكون ضعف الوعي في التطرف والإستعلاء والعداء للآخر مغايرا، فبدل التحزب المتطرف للإسلام سيكون لليهودية وبدل التحزب للكوردية سيكون للأسبانية مثلا، وعليه. إذن، أين المنطق العقلي في أي من هذه التحزبات المتطرفة ! لا شيء منه، سوى إن ضعف الوعي والتعود يقود سلوك الفرد.
وفي هذا المجال، نقول كذلك، إذا تصورنا، جدلا، إن دين معين فيه مآثر نوعية أفضل من غيره من الأديان وقومية معينة كان لإفراد فيها مآثر كبرى، فالفرد الحالي يتعالى ويتغطرس على غيره بناء على ماذا! أبما عمله غيره سابقا، أيحق لهذا الفرد أن يتسلط وينظر بدونية للآخرين لمجرد إن مجموعة أشخاص من دين هذا الفرد ومن قوميته كانوا فيما مضى من الأزمنة قد عملوا مآثر جيدة. و ما دوره هو بالذات في الحياة كفرد، ربما لا شيء مفيد، بل قد يكون دوره هو فقط ممارسة السلوك السلبي ضد الآخرين.
هنا من النافع أن نورد لأمثال هؤلاء قول الشاعر الحصيف:
إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي
مع التأكيد بدقة، كذلك، إن من له مآثر جيدة في الحياة لا يعني ذلك قبول إستعلاءه على الآخرين.
لا بد، إذن، للوعي المجتمعي أن يبرز عاليا ليتوقف المتطرفون من الأفراد عن سلوكهم المعادي للغير الآخر، وليدركوا إن لهم ما لغيرهم تماما، فلا توجد أفضلية في الدين والقومية من فرد على الغير. وبغير ذلك سيفضي السلوك غير الإنساني إلى مظالم وكوارث على الجميع.
إذا ما عدنا إلى مسالة التعود في إكتساب الدين، فلعل، هنا، من يقف ليقول في هذه القضية: إن هناك ممن هم متمسكون بالدين ،(أي دين كان)، قد درسوه وتمحصوه وسبروا أغواره، وهاهم يعلمون به ويناقشون ويؤلفون ويحاورون بهذا الدين ، فلم تعد المسألة هي في التعود فقط.
إننا كذلك نقف لنقول: دعونا نتبين متى درس رجال الدين أو المتدينون الدين الذي ينتمون إليه. ولكي نجيب على هذا التساؤل، نلجأ إلى نقطتين: الأولى: إن رجال الدين الصابئي واليهودي والمسيحي والإسلامي والمتدنون بها قد درسوا دينهم بشكل مستفيض بعد أن كانوا إبتداء متمسكين به ومتعودين عليه ومنذ نعومة أظفارهم (مثلهم في ذلك مثل مئات الملايين من البشر) ، ودراستهم المستفيضة هذه كانت فقط لإطلاع أوسع بأمور الدين الموافقون عليه بالأساس. لذا لم تكن هذه الدراسة لأجل التمحيص والتقييم وإستيضاح ما إذا كان هذا دين مفيد وصالح أم غير ذلك. ليتمسكوا به أو يتركوه. عليه فإن دراسة للدين تتأسس من هذا المنطلق تعتبر متحيزة أصلا، حيث لا يمكن، والحالة هذه. التوقع أن يفكر المتدينون أو ينطقوا بما هو ليس في صالح دينهم، بل إن ذلك هو لتثبيت معتقداتهم بكل الطرق الممكنة.
والنقطة الثانية: هي إن رجال الدين و أولائك المتمسكين به، لم يدرس أي منهم الأديان الأخرى لكي يتبين ويمحص ويقارن دينه مع هذه الأديان الأخرى، ثم بعدها يختار الدين الذي يجده ملائما بحق له. إنما رجال الدين والمتدينين في أي من هذه الأديان، يبذلون جهدهم ويقظون وقتهم على الدين الذي تشربوا به منذ نعومة أظفارهم، لا يأبهون، عموما، بدراسة الأديان الأخرى، وإن حصل ذلك فهو لا يعدو ألا إن يكون بالعموميات، وفي الإطلاع البسيط، وليس بالتمعن المعمق المتواصل الذي درس كل منهم به دينه. عليه لا يجد رجل الدين والمتدين وفي كل يوم إلا تعاليم دينه أمامه. وهو لهذا يعتبر الأديان الأخرى لا قيمة لها تجاه دينه. ولذا، منطقيا، يكون أي منهم متحيز بإمتياز لصالح دينه ويعتبره الأفضل من بقية الأديان.
لذا نقف، كذلك، لنقول إن معرفة رجال الدين والمتدينون بالدين هي معرفة غير متكاملة، لكونها، في هذا المضمار، متحيزة. كذلك لم يظهر سابقا، ولا سوف يظهر في المستقبل المنظور، أن نجد رجل دين أو متدين من دين معين أن يطعن في مسائل معينة في دينه ويمتدح مسائل في دين آخر.
لنا في هذا المجال تلمس الواقع للقول، إن الحاجة الإنسانية تتطلب أن تعيش المجتمعات بطمأنينة وسعادة بغض النظر عن الإختلافات والتباينات بينها. فإذا ما أدرك الناس إن الدين والقومية ما هما إلا عنصران موضوعيان للفرد تم فرضهما بطرق متعددة على الجميع. فسيكون من الأساسيات التي ينبغي على الأفراد إدراكها هي رحابة الصدر في تقبل الآخر المجبر كذلك في هذين العنصرين. فمن هنا سيبدأ الوعي والنضوج المجتمعي، ومنه يمكن أن تمتد جسور السلام الإجتماعي والتعافي النفسي تحمل معها الصداقة والإنسجام الإنساني الذي سيغمر الجميع بالأمان في الحياة والطمأنينة للغد والثقة بالغير والسعادة بالعمل والإحترام وبالكرامة الشخصية، وكذلك ستشدد هذه من تعزيز المساعدة الإنسانية المتبادلة للخير والخبرات الحياتية المفيدة التي يحتاجها الجميع من الجميع، وبالتالي ستتطور الحياة حتما للأفضل النافع للجميع.
إننا نرى إن المجتمعات المتعافية الآمنة السعيدة تظهر فيها مثل هذه التجليات الصحية التي لا يجري فيها تقييم وتثمين الفرد للغير الآخر على هويته القومية أو الدينية (أو على صفاته الجسمية او على إسمه)، إنما بما يقدمه هذا الغير الآخر من فكر وإبداع وسلوك ومساعدة للآخرين. وهنا يكون هكذا مجتمع صحيا صحيحا نافعا لأعضائه المختلفين، فالكثيرين في نضوج فكري وسعادة وأمان وتطور للأفضل، وبالتالي إستمتاع وبهجة بالحياة ، فكل يعطي ويأخذ، وكلا الجانبين واجب وحق لكل فرد في المجتمع.
في وقت إن ما يبرز التقوقع القومي والديني هو ضعف الوعي العام في المجتمع من جانب، مع ظهور الأزمات بأنواعها التي تعصف بالمجتمع من الجانب الآخر. أي، مثلا، حينما يكون هناك وضع سياسي سيئ بسبب تسلط الحكام المستبدين وهم الكثر في عالمنا العربي والإسلامي، أو لوجود مشاكل إجتماعية أو إقتصادية بدون حل. هكذا تزامل لهذين الجانبين (ضعف الوعي والأزمات) يؤدي بالأفراد إلى إحساس شديد بالضعف في تلبية مطالب الحياة، وبالتالي فإن ذلك يلجئهم للإحتماء بالتحزب العنصري القومي والطائفي الديني، كون إن الفرد لا يحصل على حماية السلطة.
ودائما يتوضح إن الثالوث: الجهل والمرض والفقر يؤدي بالمجتمع إلى مهالك كارثية، من نتائجه حصول الإنزواء القومي والديني. فالمرض والفقر يكون في التقييم العام بسبب السلطة في تسلطها المقيت وفي فسادها الإداري والمالي في الإستحواذ على موارد البلاد وسلب الحريات، وإهمالها تقديم الخدمات الحقيقية المفيدة للشعب، ومن مصلحة هكذا سلطات أن تعمل على تفشي الجهل والتخلف في المجتمع لكي لا يعرف حقوقه و لا يطالب بها. وحقيقة كذلك إن الإستعمار يعمل على نشر هذا الثالوث للسيطرة على الشعوب، وهو صحيح. إن الوعي هنا هام أساسي، ولا بد أن ينبري على نشره أولئك اللذين يتمثلون به، لكي تنقلب الأمور على السلطة وإستعمارها.
وعلى الجانب الآخر، عندما تكون أوضاع البلد جيدة سياسيا والسلطة فيه وطنية تحترم المواطن وتتوخى خدمة الشعب ورفاهيته وسعادته، نجد إن التحزب الطائفي والعنصري القومي يضعف وينزوي ، وتكون الهوية الوطنية هي السائدة عند الأفراد لخدمة الجميع. فحينما يحصل الناس على حقوقهم وبالمساواة بينهم يكون ذلك جذوة التمسك بمواطنيتهم فلا جاجة للإلتجاء للجانب القومي أو الديني للحماية.
ولعل مثالا ملموسا حصل في العراق في بداية ثورة 14 تموز 1958 حيث هلل الناس وإنغمروا بسعادة كبيرة من جراء خدمات السلطة الواسعة للشعب وإحترام حقوقهم العامة وبالمساوات بين المواطنين، فكانت، حينذاك، الهوية الوطنية العراقية هي السائدة، ولم يظهر ثمة تطرف قومي أو طائفي. وحينما إنحسرت الجوانب الوطنية بدأت آفة التحزب والتطرف القومي والطائفي بالظهور.
أما في العهود التي تلت ذلك، وخصوصا حينما تسلط حزب البعث في العراق ووجود صدام حسين في أعلى هذه السلطة، فكان التحزب القومي والطائفي على أشده بسبب الهيمنة السقيمة للبعث وسلب حريات وموارد الشعب والظلم والهمجية في التعامل مع المواطنين والفساد الإداري والمالي والغطرسة الفردية الفارغة. وكان الفقر يشتد على قطاعات واسعة من الشعب حيث قاموا ببيع حتى أطفالهم. جعل كل ذلك إحساس المواطنون بالضياع ليس فقط لحقوقهم، بل لكياناتهم الإنسانية كأفراد، وهو مما شدد من الإنزواء القومي والطائفي، كملجأ يلوذون به من عسف السلطة.
ولا يعفي السلطة العراقية الحالية من المسائلة كونها ضد البعث، فالفساد الإداري والمالي فيها يعصف بحياة المواطنين والجوع والحزن يغزوهم. كما إن توازن السلطة أساسا كان على مقياس المحاصصة الطائفية والعرقية، وهو مما زاد من إنعزالية أفراد هذه المجموعات العرقية والطائفية عن بعضها البعض، عدا أولئك الأفراد الواعون بالإمور، اللذين يفضحون مثالب المحاصصات والفساد وإنعزالية السلطة، ويطالبون بالتغيير الجذري في أسس الحكم.
ظهرت النازية في ألمانيا وإزدهرت (لفترة قصيرة)، بسبب إحساس الفرد البسيط بتدنيه الشخصي، كألماني، وبأنه مهان في كرامته، إضافة لفقره المزري وعدم حصوله على خدمات الدولة. أدت كل هذه الأوضاع غير الإنسانية إستعداد قطاعات من الشعب الألماني ان تنطوي على بعضها، وأن تستجيب لأي مدع منقذ لها من هذه المهانة المذلة، لتسير وراءه. وهنا، وجد هتلر والحزب الألماني النازي ضالتهم في هذا الإنفعال العاطفي المتدني عند هذه المجموعات من الشعب الألماني.
لذا قام أعضاء الحزب النازي (و هتلرهم) على إذكاء الناحية العنصرية المتخلفة في عواطف الإنسان ، ووعدوا الشعب الألماني بالرخاء والكرامة والمجد وبالصعود إلى السماء (هكذا كانت خطب هتلر تعج بمثل هذه العبارات الحماسية الملهبة للعواطف المتدنية العطشى للوعود). وبدلا من أن يقوم الأفراد والمجموعات من الألمان بعمل ونشاط إنساني لإثبات مقدرتهم كبشر ويستردون كرامتهم المهانة ويثبتوا للآخرين خطل تصوراتهم، لكن سادت (عند كثيرون منهم) بدل من ذلك العواطف المتدنية العنصرية، فإتجه هؤلاء الأفراد والمجموعات إلى العنف الشديد وحب الإيذاء للآخرين، ألمانا ومن شعوب أخرى. ورغم وقوف مجاميع أخرى واعية من الشعب الألماني ضد هذا التوجه العنصري النازي، إلا إن التيار القومي الشوفيني كان جارفا. وكانت النتيجة أن أجرم المتطرفون بحق أنفسهم وبحق الملايين الآخرين.
ومثلهم فعل موسوليني وحزبه الفاشي، وكانت النتيجة الكارثية نفسها، وقام الشعب الإيطالي بإعدام موسوليني وإنهاء فاشيته مع حزبه. وهنا لا بد لمثل هكذا حركات قومية متطرفة أن يكون مآلها الزوال، وكانت درسا بليغا لمن يعي الأمور في الحياة.
لكن مع ذلك، فقد إنتهج حزب البعث في سوريا وفي العراق أفكار الحزب النازي القومي الألماني والحزب الفاشي القومي الإيطالي بطبعة عربية، وحتى إسم الحزب (حزب البعث العربي الإشتراكي) يتشابه مع إسم الحزب النازي الألماني (الحزب القومي الإشتراكي الألماني). وحاول حزب البعث أن يسير وفق خطى الحزبين النازي والفاشي. لذا حاول أن يستغل العواطف القومية العربية المتدنية عند بعض الأفراد ليذكيها لصالحه، ومن ثم يعمد ليقود الأمة العربية من المحيط إلى الخليج (هكذا كانت العبارات تعج في أدبيات هذا الحزب العنصري). وكان بسبب حقيقة تدني الوعي الثقافي لمؤسسي وأعضاء حزب البعث، لم يتعظ هؤلاء من المصير الكارثي للحركات القومية الألمانية والإيطالية المتطرفة. إضافة لذلك كان مما كان يبعث على السخرية على تدني وعيهم، هو إعتقاد أعضاء حزب البعث إنه يكفي للفرد أن يكون عربيا حتى يسارع للإنتماء لحزبهم. لكن الواقع فرض خطل تصوراتهم هذه، وتجلى ذلك من اقعية إستياء الناس منهم وإبتعادهم عنهم سواء في العراق أو في سوريا. لذا إتجه أعضاء البعث للعنف السقيم ضد الآخرين ومنذ بداية تأسيس حزبهم. فالبعثيين في العراقي بدءوا نشاطهم القومي في محاولة التغلغل بين أعضاء حزب الإستقلال العراقي يفرضون عليهم بالقوة ترك حزبهم والإنتماء للبعث. وحصلت في هذا المجال معارك كثيرة حيث رفض أعضاء حزب الإستقلال هذه التوجهات البائسة من البعثيين، كما إستنكر الناس سلوك البعث هذا. ورغم ذلك إستمر اعضاء حزب البعث في سلوك طريق العنف والعداء ضد كل الجماعات والأحزاب الأخرى، وإصطفاء الأفراد العنيفون سيئوا السلوك ومن سقط المتاع ليكونوا أعضاء في حزبهم البعثي.
هنا، كان من الطبيعي في هكذا حزب عنصري عنفي تبوء سيؤا السيرة الإجتماعية المراكز العليا فيه و في صعود عضو مثل صدام حسين قائدا للحزب، وهو الشخص ذو الماضي المزري المعروف ومن سقط المتاع. إن صدام حسين والبعث في العراق، وحافظ الأسد وأبنه بشار والبعث في سوريا، أجرموا بحق الشعبين العراقي والسوري، ولا زال بعث سوريا وبشار يذيقون الشعب السوري المرارة، وأصبح القتل اليومي وبالعشرات شعار بشار ومريديه، فقط ليتسلط ويمنع الحرية عن الشعب السوري.
تظهر هذه الإطلالة السريعة جدا إن الحركات المتطرفة، يتبناها من يتمثلون بالعواطف المتدنية ويجذبون لهم أمثالهم، وتبتدئ أوصالهم تنتفخ على فراغ كالطبول، فيحسبون أنفسهم ضخاما وهم أقزام.
حين لا يدرك منتسبي الحركات الدينية والقومية المتطرفة تدني وعيهم وضعف ثقافتهم الإجتماعية عموما، فإن سوء سلوكهم يؤدي بالتالي إلى ويلات وكوارث وطنية وقومية ودينية كبيرة، لهم أنفسهم وتطال كذلك المجتمع بأسره. هكذا نتائج مدمرة تضع على كاهل الواعين من أبناء الشعب مهمة التصدي للمتطرفين و إيقافهم عند حدهم، بطرق وطنية شتى، في بث الوعي الإجتماعي والتثقيف المستمر ضد هؤلاء، ومنعهم من التواجد في أي من المراكز الإجتماعية للمجتمع، وبالأساس منعهم من الصعود للسلطة، التي سيستغلوها لمصالحهم الأنانية الذاتية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما لکم کيف تحکمون
البغدادي ( 2013 / 1 / 24 - 05:26 )
مما لاشک فيه ان الدين داخل تحت الاختيار ولهذا يمکن للانسان ان يتنقل من دين الى دين ومن العجيب ان يشبه الکاتب الدين بالصفات الجسميه فهل يستطيع الاسود ان يجعل نفسه ابيضا وهل يستطيع القصير ان يصير طويلا ما لکم کيف تحکمون

اخر الافلام

.. طلاب جامعة كولومبيا.. سجل حافل بالنضال من أجل حقوق الإنسان


.. فلسطيني يصنع المنظفات يدويا لتلبية احتياجات سكان رفح والنازح




.. ??مراسلة الجزيرة: آلاف الإسرائيليين يتظاهرون أمام وزارة الدف


.. -لتضامنهم مع غزة-.. كتابة عبارات شكر لطلاب الجامعات الأميركي




.. برنامج الأغذية العالمي: الشاحنات التي تدخل غزة ليست كافية