الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تتشكل نظرتنا تجاه العالم؟ (من وجهة نظر ديالاكتيكية)

نورس كرزم
باحث وموسيقي متخصص في علم الدماغ والأعصاب

(Dr. Nawras Kurzom)

2013 / 1 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا ريب بأن نظرتنا إلى العالم، وتشكيل مواقفنا إزاءه، تتأثر بعوامل عدة. كما أن الأدوات التي نستخدمها للغاية السابقة، متنوعة ويشوبها في أحايين كثيرة غموض وتشويش، مما يجعل المسألة مثيرة وقابلة للجدل والتدبّر.
وكما أن العالم من حولنا في تغير مستمر، فإن الذات الفردية أيضاً تخضع لعمليات تغيير متشابهة ومستمرة، وبالتالي، فإن نظرتنا إلى العالم بغية تشكيل موقف ما منه، تتطلب منا التوجه في مسارين متوازيين ومتعاكسين في الآن ذاته. فبينما نتأمل العالم علّنا نجد في تجلياته ما يلائمنا أو يجعلنا نحقق ذواتنا، وجب أيضاً، وبشكل متزامن أن نتوجه إلى دواخلنا. إذن هذا الفهم للعالم ينطوي على حركتين: نحو الداخل ونحو الخارج.
وكبداية، فإن التسلسل المنطقي للنمو الفردي النفسي، يفترض توجهاً أولياً نحو الذات (ego-centric)، والمرحلة اللاحقة تكون عبر توجهنا إلى العالم، ونلاحظ هنا أن العلاقة بين الحركتين المتزامنتين (الداخل والخارج) تربطهما علاقة ديناميكية متغيرة على الدوام.
وهذا يقودنا مباشرة إلى الحديث عن الوعي الإنساني، الذي إذا ما تبلور لدى الفرد بشكل واضح، أضحت رؤيته للعالم وبالتالي فهمه له أكثر رزانة وجلاءاً. يقول عالم النفس كارل يونغ في معرض حديثه عن فهم الفرد لنفسه: "بدون واعية، من الناحية العملية، لا وجود للعالم، لأن العالم لا وجود له بما هو كذلك إلا بمقدار ما ينعكس في الواعية، وتعبر النفس عنه تعبيراً واعياً. بذلك تُمنح النفس نبالة مبدأ كوني، يهبها فلسفياً وفي الواقع مركزاً مساوياً لمبدأ الوجود الفيزيائي"(1).
نستخلص مما سبق أن الوعي الإنساني هو جسر هام لفهم المرء للعالم بعد أن يكون فهم ذاته. إلا أن المشاكل سرعان ما تواجه الفرد في رحلته مع ذاته، ويبدأ في تقليل أهميه (ذاته) في تشكيل نظرته إلى العالم، ويعلل يونغ هذا بقوله: " إن الانتقاص من قيمة النفس ومقاومة التنوير السيكولوجي قائمان إلى حد كبير على الخوف- الخوف المريع من الاكتشافات التي قد تنجم عن التنقيب في أغوار الخافية" (2) .
والخافية لدى رواد المدرسة التحليلية هي اللاشعور الذي يشكل مخزناً لرغبات الفرد المكبوتة منذ طفولته. وللاشعور طبعاً أهمية في تصرفات الفرد، وبالتالي في انتقائه للأدوات الملائمة، التي سيوظفها فيما بعد لبلورة تصوره من الحياة.
وهذا الشك بالذات، ومدى اهميتها في تشكيل فهم محكم للعالم، يعد مشكلة رئيسية عالجها الباحثون بكثرة. يحاول د. ديفيد ليبيرمان أن يقدم تفسيراً معقولاً للسؤال: لماذا أنا مبتلى بالشك بالذات؟، وهو في تفسيره يتطرق إلى أهمية الوثوق بالذات كمصدر إيجابي سيستخدمه الفرد في تشكيل موقفه العتيد في خضم عواصف العالم (3).
إن التفسير المادي-الجدلي للعالم، يفترض أن جميع الأشياء أو الظواهر موجودة خارج وعي الإنسان وبصورة مستقلة عنه، أي أنها عبارة عن واقع موضوعي. وبالتالي، فإن مهمة الفرد هنا هي استكشاف المادة الموضوعية، حتى يستطيع أن يكون نظرة وموقفاً تجاه العالم. وهذا هو التحرك نحو الخارج، أي الخطوة الثانية والتي تصبح مع الوقت متزامنة مع التحرك نحو الداخل كما أسلفنا بالذكر سابقاً.
وفي طريق الحركة الفردية نحو الخارج، يعيننا في ذلك الفهم الديالاكتيكي لطبيعة العالم والمجتمع على وجه التحديد، والذي يتسم بكونه (مقونناً) بقوانين موضوعية تحكم تطوره، وفهم الفرد لهذه القوانين الموضوعية يتيح له أن يتحكم في ظروفها، أو أن يقاومها في طريقه إلى التغيير وتشكيل مكانته في العالم.
يعبر الكاتب راكيتوف عن هذا بطريقة دقيقة، إذ يقول: "إن معرفة قوانين العالم الموضوعية هي الهدف الأسمى للعلم والفلسفة الماركسية اللينينية. فنشاط الإنسان الإبداعي الفعال والواعي فيما يتعلق بتغيير العالم لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا شريطة أن يكون مرتكزاً على معرفة قوانينه الموضوعية. لهذا السبب يرتبط التعليم عن مادية العالم وعن موقف الإنسان منه ارتباطاً لا ينفصم بالتعليم عن القوانين الموضوعية والطابع المنطقي والمشروع لما يجري فيه من التغيرات والأنواع المختلفة من الحركة والتطور"(4) .
وفي الواقع، فإننا نستنتج مما سبق أحد الأدوات التي تعيننا في تشكيل موقفنا من العالم، ألا وهي معرفة القوانين الموضوعية التي تحكم المجتمع والعالم الخارجي، كخطوة لا بد منها في تطورنا المتغير.
وبالنسبة لأدوات فهمنا للعالم، أود أن أشير إلى وجهة نظر مارتن هيدجر، الذي يصر على أننا عندما نحاول فهم العالم، نستعمل أداة ما بلا شك، إلا أننا في استعمالها لا ندرك هذه الأداة إدراكاً مباشراً بوصفها شيئاً حادثاُ، ولا نعرف بنية الأداة بمعنى أننا لا نلتفت أبداً إلى طبيعة وجود هذه الأداة عندما نستعملها، وإنما نلتفت فقط إلى الغاية التي من أجلها وجدت هذه الأداة (5).
وبرأيي فإن وجهة نظر هيدجر السابقة تعبر فعلاً عن مسلكيات الفرد الواعي أو المثقف، لكن الفرد العادي قد يركز في أحيان عديدة على الأداة ذاتها، وربما ينسى في النهاية الغاية من وجودها، وهنا تكمن المعضلة.
ولكي نفهم كيف يشكل الإنسان وجهة نظره أو موقفه من العالم، لا بد لنا من التعريج السريع على بعض المفاهيم ذات الأهمية في هذا المضمار، مثل الشخصية وتطورها وعلاقة ذلك كله بالمجتمع، في ظل محاولة الإنسان لاستعمال الأدوات المعرفية كي يشكل موقفه أو وجهة نظره من العالم.
متى يكتسب الإنسان شخصية؟. لا شك بأنه ليس كل إنسان هو ملازم للشخصية، فالمولود الجديد، مثلا، هو انسان، ولكن بلا شخصية فردية فعلية. إن الفرد يبدأ بتكوين شخصية متفردة له عندما يبدأ باستيعاب مكاسب الثقافة، فيصبح ذاتاً فاعلاً وواعياً، يتحمل مسؤوليته في التصرف بقدر ما يطور فرديته الذاتية. أي أن تكوين الشخصية يسير قدماً مع التطور الفردي المتكامل للانسان. وهنا، لا يجوز أن نعتبر بأن الإنسان، إذ يطور موقفاً خاصاً له، يذوب في المجتمع، بل يمثل على العكس ظاهرة متميزة، لأنه فردية فريدة ولا نظير لها.
أثناء التطور الفردي للإنسان، تحدد البيئة التي يترعرع بها طابع هذا التطور ومصيره. فإن البيئة الاجتماعية إذن هي التي تكون الإنسان كشخصية. والإنسان لا يمكن بطبيعة الحال أن يوجد بمعزل عن بيئة مادية وثقافية معينة.
يعبر الكاتبان السوفيتيين كيلله وكوفالسون عن هذا التطور الفردي للشخصية بقولهما: "ولتعريف تطور الشخصية وعلاقتها بالمجتمع، تتسم العوامل الثلاثة التالية بأهمية جوهرية: 1-الظروف الموضوعية التي يوفرها المجتمع لأجل تطوير الشخصية. 2- درجة تطور إدراك الشخصية لذاتها ونشاطها ذاته. 3-مقدار اعتراف المجتمع بشخصية الإنسان" (6).
إذن نستنتج مما سبق، بأن التفسير الماركسي المادي للنمو الفردي في المجتمع، لا يبتعد كثيراً عما أتينا عليه في البداية، عندما حددنا الحركتين المتوازيتين لنشاط الفرد نحو الداخل ونحو الخارج.
وجدتُ أن التفسير المادي الديالاكتيكي السابق أقرب إلى التفسير العميق من باقي الأطروحات الفلسفية والفكرية، إلا أن هذا لا يعني انتفاءاً لمقاربات فلسفية أخرى للمسألة، تصب في بحر المثالية. ومنها على سبيل المثال نظرة الألماني شوبنهاور إلى العالم، حيث يعتبر أن الإرادة هي المكون الأساسي في فهم وتشكيل أدوات العالم والمعرفة. ويقتربُ من هذا النمط في التفكير فلاسفة آخرون منهم نيتشه وغيره.
وخلاصة القول، أن نظرتنا إلى العالم، وتشكيلنا لموقف ما، يحدد موقعنا منه، يتم عبر أدوات معرفية يطورها الفرد تدريجياً عبر حراكه النفسي الداخلي والخارجي، بشكل يصبح متزامناً مع مرور الوقت.


الهوامش:
1) يونغ، كارل. "التنقيب في أغوار النفس". ترجمة: نهاد خياطة. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1996، ص48.
2) المصدر السابق، ص49.
3) ليبيرمان، ديفيد. "التحليل النفسي الفوري". ترجمة: لميس اليحيى. عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2008، ص175-ص180.
4) راكيتوف. "أسس الفلسفة". ترجمة: موفق الدليمي. موسكو: دارالتقدم، 1989، ص78-ص79.
5) سليمان، جمال. "مارتن هيدجر: الوجود والموجود". بيروت: دار التنوير، 2009، ص109-ص125.
6) كيلله وكوفالسون. "المادية التاريخية: دراسة في نظرية المجتمع الماركسية". ترجمة: إلياس شاهين. موسكو: دار التقدم،1987، ص305.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكثر من 50.000 لاجئ قاصر في عداد المفقودين في أوروبا | الأخب


.. مدينة أسترالية يعيش سكانها تحت الأرض!! • فرانس 24 / FRANCE 2




.. نتنياهو يهدد باجتياح رفح حتى لو جرى اتفاق بشأن الرهائن والهد


.. رفعوا لافتة باسم الشهيدة هند.. الطلاب المعتصمون يقتحمون القا




.. لماذا علقت بوركينا فاسو عمل عدة وسائل أجنبية في البلاد؟