الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة المعيش

ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)

2013 / 1 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" أحدهم، إذ انفصم الحبل الذي يشدّه إلى التراث، اكتشف الماضي من جديد…فاستعاد الفكر حيويته، وتمكّن من استنطاق الذخائر الثقافية للماضي، تلك الذخائر التي كنّا نعتقد أنّها ماتت، وهاهي الآن تقدّم لنا أشياء تخالف أشدّ المخالفة ما كنّا نعتقده". حنّة آرندت

بعيدًا عن كلّ طموح نسقيّ للفلسفة , حيث يبتني كلّ حكيم لنفسه صرحًا مشيّد الأركان تصطفّ في جدرانه لبنات المنطق الصّارم في تراصّ يوحي بالمتانة و علوّ يعِدُ بالمطلق . بعيدًا عن كلّ وعود الحقيقة , يقف الفرد المعاصر متسائلا عمّا بقي من الفلسفة , عمّا يمكن أن يفيد منه في تفاصيله اليوميّة و هواجسه المعنويّة .
لم يُقرأ تاريخ الفلسفة قراءةً منصفةً فقد " أثّر الفكر السحري أيّما تأثير في عملية التأريخ الكلاسيكيّة للفلسفة.و الغريب أن أنبياء العقل المحض و الاستدلال المتعالي يتّفقون على الميثولوجيا التي أنتجوها , و من ثمّة إعادة إنتاجها تلقينا و تدريسا و كتابةً و نشرا للخرافات التي أضحت من كثرة تداولها حقائق عامّةً و قطعيات موحى بها ." [1], فلطالما تمّ الاعتناء بأسماء على حساب أسماء , لولا أن أُعيد النظر في هذا التاريخ " الرسمي " منذ نيتشة فنَحَتْ الفلسفة منحًى مغايرًا تمّ من خلاله تفكيك المسلّمات و مراجعة السرديات الكبرى , من نيتشة و هيدغر وصولا إلى دريدا و فوكو و دولوز , و لعلّه من الجدير بنا أن نذكر مشروع " التّاريخ المضادّ للفلسفة Contre-histoire de la philosophie " للفيلسوف الفرنسي المعاصر " ميشال أونفراي " الذي يُعبر امتدادًا لفلاسفة ما بعد الحداثة في إعادته قراءة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر هيدونية-متعويّة تحاول التغلغل في أبسط تفاصيل اليومي بحثًا عن سبل الالتذاذ بالحياة .
لم تعد الفلسفة بهذا المعنى أنساقًا صارمةً و تعالٍ عن الواقع المعيش , بل صارت تلتمس كلّ ما من شأنه تحقيق وجه من وجوه سعادة الفرد و الجماعة , ليست سعادة المطلق الكامل المثالي , بل سعادة تدبير اليومي المعيش في حكمة و رصانة تقي الفرد من الفصامات الأفلاطونيّة , تلك الفلسفة الصّاعدة من الأرض , من الجسد , لا تلك النّازلة من علياء السّماوات .
كانت السفسطائيّة " ثورةً معرفيّةً هامة بما أنّها و لأوّل مرّة حوّلت الفلسفة من اهتمامها بالوجود و الطّبيعة إلى الاهتمام باليومي و شروط معرفته . فهي فلسفة حاسمة تقترب كثيرًا من مطامحنا و مشاغلنا و حياتنا اليوميّة لأنّها فلسفة النقد و التحرّر , فلسفة نسبيّة المعارف و الأخلاق , فلسفة التنوير و التحرير و البحث و الجدل "[2] , هكذا كانت فلسفة السفسطائيين , ساخرةً من دعاوي المطلق و المتعالي , حاملةً الإنسان على العودة إلى تموقعه الشخصي في الزّمان , أي تموقعه في المعيش و المأنوس . لذلك تمّ اتهام السفسطائيين بعداء الفلسفة و الفلاسفة لا لسبب إلا لأنّهم استعاضوا عن الأنطولوجيا بالمشاغل اليوميّة .
تكون السفسطائيّة حسب استقرائنا أوّل فلسفة شعبيّة تُعنى بالعدالة الاجتماعيّة و و تخصّ الطّبقات الدّنيا من الشعب , و هي ضديدة فلسفات الأنطولوجيا التّي تُعنى بالوجود و تخصّ النّبلاء , و يمكن لنا أن نسِمها - و لو تجوّزًا - بفلسفة البراكسيس , فلسفة العمل مقابل فلسفات النّظر , فقد اتّسمت بطابعها العملي , و كلمة سفسطائي في اللّغة اليونانيّة تعني الحكيم , ذلك الممتلئ حكمةً عمليّةً قلبًا و قالبًا , أمّا كلمة فيلسوف فهي تعني محبّ الحكمة , أي ذلك التي ينظر إلى الحكمة من بعيد دون أن يقترب من ممارستها , صحيح هو حبّ للحكمة , لكنّه حبّ أفلاطوني مثالي يفصل العمل عن النظر .
ليس تقريظنا هذا للسفسطة دعوةً إلى التخلّي عن الاشتغال بالإرث الفلسفي , بل هو دعوةُ إلى إعادة قراءة تاريخ الفلسفة بحثًا عن الرّوح العمليّة السّاعيّة إلى غبطة المعرفة و لذّة الوجود , لذّة التواجد الأرضي بانتصاراته و خيباته , و غبطة المعرفة الرّاهنة بنسبيّتها و تعثّراتها . لننصت معًا إلى هسهسة نيتشة باعتباره أوّل من علّمنا تحطيم الأصنام , و قد استعاض بديونيسوس عن أبولون , هو ذا يدعونا إلى النظر المتجدّد في تاريخ الفلسفة و إعادة تأوّل رموزها و أساطيرها .

الهوامش :
[1] Michel Onfray , La puissance d’exister – Grasset – p64
[2] فتحي التريكي – فلسفة الحياة اليومية – الدار المتوسطية للنشر – بيروت تونس , ص 66








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم