الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحسن تربية – الحوار هو الحل – حلقة 5

عبد السميع جِميل

2013 / 2 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كما تحدثنا عن الحب والحرية كطرفان اساسيان من الاطراف الاربع من المعادلة التى مازلنا نزعم أنها تحقق لنا أحسن تربية بحق وحقيق , نتحدث أيضاً عن الحوار طرف ثالث فى منتهى الأهمية ولا يمكن إهماله من تلك المعادلة .

أعتقد أعتقاداً راسخاً ويقينياً إن وجود حوار حقيقى بين الأباء والأبناء مطلب شعبى فى منتهى الأهمية , حتى أنه بات شعاراً تتوارثه الأجيال فى إعلان واضح وصريح «إن كبر أبنك خاويه» , وأنا لا أرى أى مشكلة فى أن “تخاويه” من صغره , بل إننى أرى ذلك لازماً , ولكن رؤيتى شيئ وما هو راسخ فى المجتمع شيئ أخر تماماً , فنحن فى المجتمعات العربية المتخلفة عن ركب الحضارة لا نخاوي الأبن فى صغره ولا حتى فى كبره ! .

فى مجتمعاتنا العربية يعشق بعض الأباء الظهور أمام الأبناء دائماً بصورة العالم الفريد الوحيد ببواطن الأمور – كبيرها وصغيرها , ما كان منها , وما يكون , وما سوف يكون – ومن ثمَّ فالحوار عنده هو مجرد إصدار الأوامر السلطوية العلوية الديكتاتورية الصارمة العصبية المتعصبة التى تكون نتيجتها دائماً إما عناد وتمرد وعدم إهتمام الأبن بهذه الأوامر , وإما إستسلام وخضوع وإنقياد عن رضا أو غير رضا لهذه الأوامر .

ويعشق بعض أخر من الأباء الظهور أمام أبناءهم بصورة شمشون الجبار التى ترعبهم وتجعلهم يموتون فى جلدهم , فيكون عودة الأب إلى البيت بمثابة الزلزال الرهيب فى نفوس أبناءه , ويكون تحركه حولهم بمثابة البركان الكامن فى صدورهم , فلا يستطيع أحدهم طلب شيئ منه خوفاً من حدوث كوارث طبيعية فى وجهه , وتكون النتيجة هى بحث الأبناء دائماً عن وسيط للتواصل الأمن مع أباءهم ! .

كما يعشق البعض الأخر من الأباء الظهور أمام الأبناء بصورة المَلك المعصوم من الخطأ والمنتصر دائماً , والحاصل على المراكز الأولى طوال الوقت ! , ويُحرم ويُجرم على أبناءه الوقوع فى أى خطأ مهما كان تافهاً أو جليلاً , وهذا يصنع صراع نفسى رهيب داخل الأبناء بطبيعة الحال , خصوصاً عندما يرى ويدرك الأبن بنفسه مع الزمن حقيقة تلك الصورة الكاذبة المخالفة للطبيعة البشرية التى يحاول والده الظهور بها أمامه , وتكون النتيجة هى عدم الإقتناع بما يتشدق ويتحذلق به الوالد من مُثل عليا خارقة وغير طبيعية , وينحرف وينجرف الأبن لاشعورياً نحو كل المحاذير والممنوعات التى حذره منها أبوه ! .

يعشق البعض المتبقى من الأباء عدم الظهور أمام أولاده بأى صورة إطلاقاً !! , فالأب إما فى العمل طول اليوم ولا يعود إلا فى وقت نوم الأبناء , وإما موجود بينهم ولكنه مشغول بالجرائد والتليفزيون والموبايل والخروج مع الأصدقاء , والأم مشغولة عنهم كذلك أيضاً , ولا يتم إستغلال الأوقات التى يتصادف فيها إجتماع الأسرة فى التوجيه والتشجيع والحوار ونقل الخبرة وإتاحة الفرص وتقوية العلاقة بينهم حتى , فلا تشجيع ولا معاتبه ولا تدليل ولا توجيه ولا إستماع ولا إحتضان ولا أى شيئ , ونتيجة ذلك بالتأكيد هى أن يكون الأبناء أكثر عرضة للتأثير السلبى من المجتمع , ويصبح الأبناء غرباء عن أباءهم ويكتشف الأباء ذلك فى النهاية بعد فوات الآون !! .

هذا كله كوم وهؤلاء الأباء الذين لا يتصورون أن يكون الحق فى جانب أبناءهم أبداً كوم أخر ! .. إن أم الإمام أبى حنيفة نفسه قد أستشارته فى مسألة دينية فى مرة من المرات , ولكنها لم تقتنع برأى الإمام أبى حنيفة ولم تأخذ به – رغم أن رأيه كان صحيحاً – بل وتركته وذهبت إلى أحد القصاص الشعبيين ويدعى “زرعة” تسأله عن رأيه فى كلام أبى حنيفة ! , فلما أيد الرجل البسيط رأى الإمام أبى حنيفة أقتنعت وأطمئنت لصحته !! .

إن نتيجة كل هذه الممارسات المتغطرسة مع الأبناء هى خلق فجوة سحيقة بينهم وبين الأباء , فالأبناء يشكون دائماً أن أباءهم «مش فاهمينهم وعاوزين يمشوهم على مزاجهم» ولذلك يفضلون الهروب من حياة هؤلاء الأباء , والأباء أيضاً يشتكون من تمرد الأبناء ويتعجبون , خصوصاً أن هؤلاء الأباء يظنون أنهم يقومون بدورهم تجاه أبناءهم على أكمل وجه ! ؛ فهم يعتقدون أن توفير الأكل والشرب والنوم والملابس والمال لأبناءهم يسد تلك الفجوة بينهم ! , فإن جاء الأبن بعد ذلك يناقشهم ويعترض على قرارتهم ويحاول أن يعرض لهم وجهات نظر أخرى مختلفة تجد هؤلاء الأباء يغضبون ويشتكون وربما يبطشون وينكلون ويمسحون بكرامة هذا الأبن الأرض ! , وتجد الواحد منهم يتقمص دور علاء ولى الدين فى فيلم الناظر ويصيح فى وجه أبنه قائلاً :

- أنت بتعلى صوتك عليا يا واطى ؟!! .. مطمرش فيك تربيتى وتعبى .. قلبى وربى غضبنين عليك ليوم الدين .. لا أنت أبنى ولا أعرفك ! .

وتستمر هذه الفجوة فى الإتساع وتتحول إلى تراشق بالإتهامات من جميع الأطراف .

فيا أيها الأباء .. رحماكم .. هناك واجبات ثقيلة على أكتافكم تجاه أبناءكم أثقل بكثير من توفير المال لهم .. من هذه الواجبات الحوار والتفاهم والتفهم والتقارب والتودد بينكم وبينهم .. وهذا لن يكلفكم كثيراً ولا قليلاً .. لن يكلفكم أكثر من أن تتعوّدوه .. لن يكلفكم أكثر من أن تتناسوا قليلاً غطرستكم وحبكم للسيطرة والتحكم .. هذا هو ما سيجعلكم تكسرون تلك الفجوة السحيقة بينكم وستعبرون بسفينة التربية إلى بر الأمان , وإلا .. سيبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر أن يخبط رأسه فى الحائط !! .

إن الناظر المتأمل إلى أبو طالب عم النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما أشتكى إليه كفار قريش من أن أبنه محمد يسب أباءهم ويعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم , يرى أن أبو طالب لم يذهب إلى محمد ويقول له :

- حسك عينك تعمل كده تانى , ويلا قوم بوس دماغهم ! .

وإنما يجد أبو طالب يقول لهم :

- أمهلونى حتى (( أكلمه )) ! .

ثم ذهب إلى محمد وأخبره بمقالة قريش له , ثم دار بينهم حوار على أفضل ما يكون الحوار بين الأب وأبنه .. حوار لم يخرج عن دائرة الإحترام والثقة والحرية .. حوار مليئ بالتفهم والتفاهم والحكمة , إنتهى هذا الحوار بهذه المقولة العظيمة التى نحفظها جميعاً عن ظهر قلب :

- يا عماه والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى شمالى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته .

هنا يؤمن أبى طالب بحق إبنه فى تقرير مصيره فيقول له كلمات أتمنى أن تحفر فى رأس كلاً منا حفراً :

- أذهب يا أبن أخى فقل ما أحببت , فوالله (( لا أسلمك لشيئ تكرهه أبداً )) ! .

واضح أن أبو طالب كانت تحركه مبادئ وقيم وقواعد وأفكار نحتاج إليها جداً هذه الأيام , فها هو يحاور ويسمع ويتفهم ويشجع ويحمى ويحافظ على حق أبنه فى تقرير مصيره , ويرفع فى وجه كل أب ذلك الشعار المذهل المدهش «لا أسلمك لشيئ تكرهه أبداً» , ولكن الأباء اليوم لا يتوانون فى التدخل فى أدق تفاصيل حياة أولادهم وإتخاذ جميع قراراتهم دون النظر إلى رغباتهم وميولهم , وكانت نتيجة هذا الأمر هى الصراع الدائر الدائم بين الأبناء والأباء حول كلمة مَن هى العليا .

إن فرضية اختلاف الأولويات بين الأباء والأبناء أمر حتمى , ومن الطبيعى أن يكون لكل جيل صفات تميزه عن الجيل الأخر , ولكن ليس من الطبيعى أن يغلق الأهالى باب التفاهم والتفهم بينهم وبين أبناءهم بحجة «مكنش على أيامنا حاجات من دى» وكأن هذه «الحاجات» جاءت إلى الدنيا فى وقت لم يكن موجود فيه هؤلاء الأباء ! .

إن نتيجة هذا فى النهاية كما نرى جميعاً وجود عدد كبير من الأبناء يقاومون أباءهم ويتمردون عليهم ويرونهم «دقة قديمة» ! , وعدد أخر يستعينون بالأخرين للتوسط لهم عند أباءهم ! , وأخرون يستسلمون للبكاء والنحيب والجضوع والتبعية أو حتى الصمت الذى يتنامى حتى يصل إلى مشاعر الكره عندهم تجاه أباءهم !! .

لذلك يقول حكيم الإسلام الإمام على بن أبى طالب :

- لا تعلموا أبناءكم على عادتكم فإنهم مخلقون لزمان غير زمانكم .

أما آن لنا أن نصغى إلى هذه الصرخة التى تأتينا من وراء القرون ؟

يتبع…








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر