الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-المعاصرة- حقيقة واقعية وضرورة عقلية

علي آل شفاف

2005 / 4 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عندما يرى المولود النور لأول مرة في حياته, ينفجر باكيا لصدمته من واقع جديد, صرفه عن تفرده, وتوحد جميع مدركاته الحسية والعقلية بالانشغال به ـ ذاته. إذ ليس من ذات أخرى تنازع هذا التفرد.
وما إن يخرج هذا الوليد, وهو على الفطرة السليمة, كالصفحة البيضاء. يبدأ قلم الواقع الموضوعي بتسطير أحرفه في فكره وبنيته النفسية, ومن ثم السلوكية والأخلاقية. إذا ما تجاهلنا تأثير العامل الوراثي في هذه المرحلة.
إن الواقع الموضوعي المُشَكّل لفكر الفرد وبنيته النفسية, يتغير مع الزمن. وهذا التغير ناشئ من تراكم الخبرة, الناتجة عن توالي الأحداث المارة بالفرد أو المجتمع. لذلك ترى الفرد في كل عصر, يختلف في نمط حياته وسلوكياته, عمن قبله وعمن بعده, اختلافا بقدر الهامش المتوفر للإختلاف. أي في غير الثوابت التي بها يكون الإنسان إنسانا, أو حتى في غير الثوابت العقلية المشتركة عبر العصور.

لذلك فالفرد الذي يعيش عصره بفكر وعقلية سابقة لعصره, يُعَد متجاوزا لآثار التراكم الطبيعي لخبرات الفترة الفاصلة بين الماضي والواقع المعاش. مما يعني تجاوزا لأثر تكويني مر بالكون بصورة عامة, وبالمجتمع الإنساني بصورة خاصة. نتيجته أن يعيش الفرد فاقدا لعوامل تكوينية أو تركيبية في بنيته الفكرية والنفسية كفرد في مجتمع, أو كعنصر في كون وصل إلى مرحلة نمو معينة. هي مرحلة النمو الخاصة بذلك العصر ـ تحديدا.

وهنا يكمن تفسير الأثر السلبي للمحافظة, والجمود على قوالب صيغت في فترات سابقة. وهنا أيضا نستطيع أن نزعم بأن "المعاصرة" هي ضرورة تكوينية وبنيوية علاوة على كونها ضرورة فكرية واجتماعية.

وهكذا فالإنسان الذي لا يعيش عصره, بتراكماته الفكرية والاجتماعية عبر التاريخ, يخالف حتمية تأريخية ـ منطقية غير جبرية ـ في التطور والنمو الناشئ من تراكم الخبرة.

لا أريد أن أدخل ـ هنا ـ في خضم جدلية (إثنينية) "المحافظة" (الجمود), و "الحداثة". لكني ألمحت إلماحة إلى حتمية "المعاصرة", والتي تختلف عن "الحداثة" و "التجديد". لأن الأخيرين قد يمثلان انقطاعا في السلسلة الزمنية لتراكم الأحداث والخبرات. لذا تجد أن من يتبناهما يستخدم معهما مصطلحا (تكميليا), من قبيل "استلهام التراث". بينما "المعاصرة" تحتوي على الجمع الحتمي لخبرات الماضي, التي تنتج لنا ـ جدليا ـ مواصفات الحاضر.

لقد بدأتُ بهذه المقدمة, كمدخل لمناقشة الجمود والتحجر ,أمام لغة الضرورة ـ المنطقية الغير جبرية, التي تحتم الإنصياع العقلي لها. والتي بها يصبح الإنسان ابن عصره,وفرد من أفراد جيله ومجتمعه. ولا يكون فردا من (جيل سابق, يعيش في عصر لاحق).

وهذه ـ في الحقيقة ـ إحدى مشاكل المجتمعات المتخلفة, والجامدة, والمتحجرة؛ والمتقولبة في قوالب الأزمان الماضية؛والتي تعيش بقوالبها هذه عصرها الحاضر. مما أعدمها القدرة على المواكبة, والمجاراة للمجتمعات الأخرى,التي (تعصرنت) بدرجة ما.وأهلها ـ وبتفوق وجدارة!! إلى ما دون الدرجة الأولى في سلم الرقي والحضارة, في عصرنا الحاضر.

إن ما أدعو إليه هو "العصرنة" التي تمثل حبلا ممدودا, من أول يوم وجد فيه الإنسان على الأرض, حتى العصر الحاضر. وليست "الحداثة" التي تعني ـ إلى حد ما ـ الإنقطاع عن الماضي وتجاهل الخبرات المتراكمة, وهذا هو مكمن النقد الموجه لـ "الحداثة" من قبل "المحافظين" ـ ليس بالمعنى العرفي ـ أو دعاة استحضار التراث والماضي أو الرجعيين . . . الخ.



إن لدينا الكثير الكثير من مصاديق الجمود والتقولب, والتقوقع على ثقافات أنتجت لتناسب عصرها ـ ربما, أو وليدة عصرها, لكنها بقيت تُسَيِّر الكثير منا ومن أجيال سبقتنا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. لا لشئ, إلا للخمول والتقاعس واللامبالاة؛ وتقديس الماضي وأشخاصه, من دون تدقيق؛ أو تمحيص, وربما عدم الثقة بالنفس في إنتاج مماثل لما أنتج سابقا, من قبل مثقفي جيلنا والأجيال السابقة, التي أتت بعد الجيل المنتج ثقافيا.

وحتى يحين وقت ذكر ومناقشة هذه المصاديق, نبقى في طور المفاهيم. حيث أرى أن من الضرورة ـ العقلية المنطقية ـ أن نعيد دراسة واقعنا الثقافي والإجتماعي والفكري عموما, على أساس حتمية العصرنة. التي تعني: (المحصول) الفكري الحالي الناتج من تراكم الفكر الإنساني منذ نشأة الإنسان الأول, حتى يومنا هذا. وهو مفهوم حركي (ديناميكي) فعال ومنتج ومتواصل, يجعل الإنسان "ابن عصره".

ويختلف هذا الفهم "للعصرنة" عن الفهم الغربي لها, والذي قد يمكن تشبيهه بـ "الجزر الثقافية". حيث ينتقل الفرد في كل عصر إلى جزيرة جديدة خاصة بذلك العصر. وهذا فهم يجعل الإنسان وليد عصره فقط, وليس وليد الإنسانية, وحاصل إنتاجها الفكري والإجتماعي.

سأحاول في مقالات أخرى تناول بعض مصاديق الجمود لدينا, وفهمي لأسبابها وكيفية معالجتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب