الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا لا يؤمن أكثر الناس؟ جدلية الدين والإيمان

جميل ماوردي

2013 / 2 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لأن العقل البشري وإن تعلق بالأسطورة إلا أنه يبقى لا شعورياً محتفظاً لنفسه بالكثير من التساؤلات التي لا يمكن للدين أن يجيب عنها. فالإنسان كائن إجتماعي بطبعه ومن خلال الإجتماع يتعرض لكثير من أنماط التفكير والسلوك التي تنطبع في مخيلته. فالعقل يميل لمبدأ النسبية في عملياته ويطرح تساؤلات شتى لا يستطيع أحد الإجابة عنها وغالباً ما تبقى تلك التساؤلات قيد الكتمان نظراً لتسلط المؤسسة الدينية وخصوصاً في الدول التي تميل شعوبها جينياً للتدين ونظراً لأن هذه النوعية من الشعوب تعاني من النفاق الإجتماعي والذي يؤسس أكثر وأكثر لتشديد الرقابة على العقول والأفكار. هذه النسبية في عملية التفكير هي ما تدفع رجال الدين غالباً لتحذير أتباعهم من الإختلاط بمن يتمايز عنهم عقدياً لمعرفتهم بطبيعة العقل وخوفهم من قدرته على التمييز بين الأشياء ولعلم رجال الدين بمدى عجزهم عن التصدي للأفكار والتيارات المختلفة ولعلمهم بما تحتويه النصوص والأخبار من تناقضات وقدرة الأخر الديني أو اللاديني على البحث عنها وعرضها وحقيقة أنها ليست شبهات عارضة كما يصور الدينيون ولكنها حقائق دامغة. الطبيعة الإنسانية تتلمس جوانب الإنسانية فيها وتستشعر عوامل الضعف البشري وما تفرضه على الإنسان من المبالغة والنقل المغلوط للأحداث والنصوص، فالإنسان العاقل غالباً لا يثق بما يتم نقله وتداوله لإدراكه لطبيعة العامل الإنساني وقدرته على التحريف. الدين حينما يتنزل فرضاً على قوم ما فإنه يعالج مشكلاتهم ولا يعالج المعضلة البشرية ولا يتطرق لكثير من جوانب الحاجة الإنسانية للمعرفة والفهم. الكليات الفلسفية المشكلة للدين ما تلبث أن تتحول لمؤسسة دينية يقوم عليها رجال الدين وهؤلاء بحد ذاتهم بشر لا يختلفون عن غيرهم إلا بأنهم يدّعون ما ليس لهم من العلم الديني الذي لا يعدو كونه نقلاً لنصوص متناقضة و إجتهادات بشرية أو فكرية منتقاة أضفيت عليها الصبغة الدينية. إضافة لذلك يحاول رجال الدين تحويل الصيغة الدينية الخاصة إلى فهم عام_ أي تعميم الخطاب الديني المقتصر على زمان وبيئة ما على الحالة الإنسانية، وتصر المؤسسة الدينية على عمومية الخطاب وأنه لكافة البشر ويحاولون تعميم النصوص بإستخدام أدوات هم إبتكروها بأنفسهم غير عابئين بحقيقة أن النص مختص بحالة زمنية خاصة ولا يمكن تعميمه ولن ينشأ عن تعميمه إلا التعارض في الفهم والأحكام ونفور الناس من الدين لإنتقاله من الحالة الإيمانية المجردة إلى الحالة المؤسساتية التي تجتهد في إقحام الدين في كل مناحي الحياة بما فيها السياسة والأخلاق. أكثر الناس لا يهتمون لجوهر الإيمان وإنما لوضعهم في المجتمع الديني حيث يتقبلون الموروث كما هو أو كما تناقلوه عن آبائهم فيصبح الإنتماء تكريساً لتصنيفات دينية وإجتماعية وحضارية من دون أي مدلول إيماني. الإنسان يميل بطبعه للمحسوس والملموس ولا يتفاعل مع النقل إلا فئتين، فئة مستفيدة تتمثل برجال الدين، يتلقفون النصوص المبهمة ويشكلون ما يشبه خلية متكاملة تعمل على محاولة فهم النصوص، فتتعدد الأراء وتتجذر الخلافات وتنشأ المذاهب والفرق تبعاً للعامل البشري الذي نصب نفسه وسيطاً بين الحالة الروحية الكلية للدين وبين عامة الناس وجهالهم فيتحول الدين من حالة إيمانية بالكليات ومحاولة للإتصال بالخالق إلى إنتماءات عاطفية طائفية فارغة من المضامين الإيمانية يجتهد الساسة ورجال الدين في تغذيتها وتوجيهها بما يصب في مصلحتهم ويجتهد رجال الدين في إبتكار الشعائر وربطها بالبعد الإيماني إمعاناً في عملية السيطرة على الوعي الجمعي وحصر الجماهير في الأطر المعدة سلفاً مما يؤدي لإنحدار الوعي والتخلف والذي يكون من نتائجه الحتمية غالباً الثورة الشاملة على الدين ومؤسساته، وفئة تميل بطبيعتها للتعبد والتقديس وهم الأقلية وبهم تنشأ الأصولية. أما الأغلبية فتجد نفسها بين نارين، نار تكذيب المنقول واللامعقول ومواجهة المجتمع بأفكارها ونار التخلي النهائي عن الدين لما في ذلك من مخاطر ظنية تتمثل بالنار الأبدية أو المسخ- إنتقال الروح إلى جسد حيوان كما في عقيدة التقمص مثلاً أو غير ذلك. فكما أن الأديان تعد مريديها بالثواب فإنها تتوعد غير المعتقدين بها والمرتدين عنها والغير عابئين بتعاليمها بالعقاب. فتبقى هذه الغلبة ما بين بين- غير مصدقة وغير مكذبة- وتتحول بمرور الوقت إلى الليبرالية الدينية غير المؤدلجة. ويعتبر تحول هذه الفئة إلى الليبرالية الدينية أمراً مقبولاً منطقاً لأن هذه الفئة لم تؤمن بالأصل قطعياً بما يطرحه الخطاب الديني. فينقسم حينها المجتمع إلى عدة فئات: رجال الدين، الليبراليون الدينيون-أي المؤمنون شكلياً والمنقلبون على الفكر الديني عملياً، الأقلية الأصولية وتنقسم إلى قسمين:

أولاً: الأصولية الطوبابوية البيضاء: تحترم النص وتبجله ولكن يعمل منظروها العقل لإيجاد الطرق المثلى لإيصال الفكرة للناس، وسيلتهم الترغيب غالباً والصبر على أذى المجتمع لهم في سبيل الغاية الأسمى من وجهة نظرهم والتي تتمثل ببناء قاعدة أخلاقية مجتمعية. جل ما تدعو إليه هذه الفئة يتلخص في بناء الإنسان الأخلاقي، فدعوتها وإن بدت دعوة أصولية في مظهرها الخارجي، إلا أنها في جوهرها دعوة صوفية غيبية وليست نصيةً قطعية. ذلك بأن القائمين عليها أياً كانت إنتماءاتهم العقائدية، يعلمون من خلال بحثهم المضني عن الحقيقة بأن كثيراً من الشوائب شابت النص الديني وأن أكثر ما وصل لأيديهم مشوه أو فيه نظر. ولأنهم أصحاب معرفة ويتفهمون الحقيقة ضمناً، فإنهم يصبحون أكثر مرونة في حال الإختلاف مع الأخر وقل ما يلجأون للتكفير والإقصاء بل ويتورعون عنه عامةً إلا في حالة وجود نص قطعي.
أما في المجال السياسي : فقلما تسعى هذه الفئة للوصول للحكم إلا في حالات معينة ولغايات محددة ولا تستخدم العنف إلا في أحلك الظروف، أضف لذلك أن هذه الفئة تتمتع بكثير من الموضوعية وتفهم حقيقة الكون وما فيه من تنوع فكري وعقائدي ولذلك فهي تسعى جاهدة لأن تكون رؤيتها للعالم منسجمة مع الواقع وهي معتدلة نسبياً وهادئة تميل للعلم الشرعي والإعتبار من دروس التاريخ ومن الصعب إستفزازها.

ثانياً: الأصولية الثورية الحمراء: تتمثل في الأصولية المتشددة، وهؤلاء يميلون لجلد الذات وتحريم حتى ما حلل لهم وكذلك يميلون للتخريب ولا يحترمون العمران ولا الحضارة فالجنة موعدهم كما يعتقدون وهم بكل الأحوال غير منسجمين مع الحياة الفانية، فيجدون مرادهم بأفكار تخلصهم من واقع صعب وتعدهم بما في الجنة الموعودة. هذه الفئة من أكثر فئات المجتمع إنعزالاً بحيث تتكون أفكارها في حلقة ضيقة بعيداً عن الضوء سرعان ما تصطدم بحقيقة بعد الناس عن الدين فتحاول بشتى الوسائل فرض رؤيتها الدينية على المجتمع ولكن بلا جدوى فما تلبث أن تتحول إلى قوة تخريبية تبعاً لعاملين، عامل تمسكها الحرفي بالنص والذي يكون بمثابة عبودية للنص غالباً وليس إيماناً فعلياً وعامل رغبتها بالسيطرة على الجمهور الذي لا يكترث بها إلا في أوقات المحن، فتتشكل لدى هذه الفئة ردة فعل عنيفة على المجتمع مدفوعة بالحقد والغل والإستعلاء على الناس وخصوصاً أن هذه الأقلية الأصولية تتصف بالتعصب الشديد لمنهجها و تعتقد جازمة أنها تمتلك الحق المطلق. ذلك بأن هذه الفئة قل ما تتدارس العلم الشرعي وهي بعكس الفئة الأولى _الغارقة بمفردات النصوص_ لا تتعظ بدروس التاريخ ولا تتصف بالإنفتاح على الأخر ولا تهتم بأبعاد المسألة الدينية و إرتباطها بالعامل الإنساني وحقيقة تطورها بتطور العقل البشري الهادف لفهم حقيقة الوجود. تحاول هذه الفئة أن تضفي على نفسها صفة القداسة الدينية وتستخدم المصطلحات الدينية في كل شيئ حتى في جوانب الحياة التي لا يتطرق لها الدين وهي غالباً ما تميل للتكفير وتحقير وإقصاء كل من لا يوافق نهجها. أداتها الترهيب دنيوياً- أي بإجبار الناس على إتباع منهجها وتطبيق تعاليمها بالقوة، وغيبياً- التخويف من العقاب الذي أعده اللامحسوس ، ليس في قاموسها كلمة "الواقع" ولا تتعامل إلا مع النص ولكن ليس النص بكل تناقضاته، بل ما تنتقيه من النصوص والحوادث التاريخية وما يتناسب ومعتقداتها. وهي تحتقر السياسة وتحقر السياسيين لا لشيئ إلا لأنها لم تفهم من السياسة إلا ما يدل على الأفعال اللا أخلاقية واللامشروعة، فهي لا تستوعب أن السياسة بالدرجة الأولى عملية قيادة وإدارة للمجتمع والدولة. علماً أنه في الوقت الذي تنتقد السياسة والسياسيين، لا تتورع هي عن كل فعل قبيح وكذلك لا تتوانى عن نسبه للدين. وأما حقيقة كرهها للسياسة والسياسيين تكمن في أن أكثر منتسبيها من الجهال والعوام والموتورين ولكي يحافظوا على سلطتهم كان لا بد لهم أن يشددوا على التطبيق الحرفي للنص حتى وإن كان النص لا يتوافق مع الواقع وحتى وإن كان لا يتعارض مع إستلام السياسيين والتكنوقراط للحكم أو تشكيلهم للحكومات. أما لماذا يميل الناس لهذه الفئة في وقت الشدة، فذلك لأنها أكثر التيارات إستعداداً للتضحية والمواجهة في الحروب والنوازل، فإن حققت إنتصارات كبرى إلتف الشعب حولها ولكن ما يلبث أن يخيب أمل الناس بها وينفرون منها، ذلك بأنها ما أن تنتهي أو تكاد من العدو الخارجي حتى تلتفت لتطبيق تعاليمها حرفياً على الدولة والمجتمع وتشدد على الناس وتحيل حياتهم جحيماً لا يُطاق و ذلك لأن الإنسان كائن عقلاني يعتمد على العقل في وزن الأمور ولا يتقبل الفهم الجامد والذي يمكن أن يؤدي بالمجتمع إلى الهاوية وخصوصاً أن هذه الفئة غالباً ما تفتقد الكوادر والعقول التي يُعوَّل عليها في بناء الدولة ومؤسساتها وفي تسيير أمور الرعية وذلك لأن الفئة الأصولية الحمراء لا تحترم العلم الدنيوي وتعتبره عارضاً وتقبل بشغف على كل ما يطرحه منظروها الدينيون وتنبذ كل ما عداه فينشأ تعارض موضوعي وفاصل زمني بين ما تدعو إليه من التمسك بالنص الأصلي وبين الزمن المتحول الذي يتطور من دون توقف إلا في حالة تمكنها من الحكم فهي تحاول آنذاك أن تجد من تعتمد عليهم للقيام بهذه المهمة مع العلم أن أغلب أولئك لن يكونوا من المؤمنين بمنهجها ولربما رأى الحاكم أنه من الحكمة التقرب منهم لما عرف عنهم من علم ومعرفة ولكن ما تلبث بطانة الحاكم أن تتململ منهم لما يشكلونه في رأيهم من خطر على مجتمعهم الديني المصغر فيبدأ الصراع الخفي بين الطرفين إلى أن يحسم الحاكم الخلاف بتقريب أحدهما وإبعاد الأخر تبعاً لمصالحه وتبعاً للظروف الموضوعية وما تحتم عليه من تحالفات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - علاقة الكاتبة ريم بسيوني بالصوفية عميقة جدا.. ش


.. السيسي وسلطان البهرة.. من هو زعيم الطائفة الشيعية الذي حضر ا




.. فنيش: صاروخ الشهيد جهاد مغنية من تصنيع المقاومة الإسلامية وق


.. الأهالي يرممون الجامع الكبير في مالي.. درّة العمارة التقليدي




.. 121-Al-Baqarah