الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد الراديكالية السياسية العربية (3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2013 / 2 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الراديكالية وحالة الخروج على منطق التاريخ القومي

إن التجربة العربية الحديثة تجربة بلا حداثة بالنسبة لبناء الدولة والمجتمع والثقافة! من هنا استفحال نفسية وذهنية الراديكالية السياسية والتوتاليتارية الدنيوية والدينية بوصفه مؤشرا نموذجيا على تحلل البنية التاريخية للوعي السياسي عند النخبة والجمهور، أو سيادة وهيمنة الوعي العادي الجماهيري والأسطوري على الوعي العلمي. وقد لا تخلو أكثر الدول تطورا من الناحية العلمية والاقتصادية عن إمكانية الإصابة بهذا العدوى الغريبة، لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من تجارب الإرادة العنيفة لتذليل الخلل (كما كان الحال في ألمانيا الهتلرية). غير أن الحالة العربية تعكس ليس نزوة التاريخ، بل غريزة الزمن في الوعي السياسي. وليس مصادفة أن تؤدي تجاربه السياسية على امتداد القرن العشرين إلى إنتاج احد اشد النماذج غرابة بهذا الصدد، أي تحول جميع الدكتاتوريات "العلمانية" إلى حليف "استراتيجي" لعتاة القوى السلفية. بحيث نرى السادات يتحول إلى "الرئيس المؤمن"، والنميري إلى مطبق الشريعة الإسلامية، وصدام إلى قائد "الصحوة الإيمانية"، والقذافي إلى "مفكر الإسلام الأخضر". مع ما يرافقه من تحول ممسوخ لبنية النظام السياسي عبر إعادة "بناء" السلطة على أسس عائلية جديدة. بمعنى رجوع اغلب النظم الجمهورية إلى نظم عائلية، أي إلى ملكيات جمهورية! وبالمقابل يمكن رؤية صعود الدعاوي الدعائية المستشرية عن تحول العائلات المالكة إلى "قائدة الإصلاح الديمقراطي" و"النظام الشرعي". وما بينهما تتراوح في مكانها الرتيب مختلف "العقلانيات" الجبانة والمتسترة وراء رداء "القانون والشرعية" و"المصالح القومية" وما شابه ذلك من أغلفة براقة لواقع لا قانون فيه ولا شرعية لغير المصالح الأنانية الضيقة.
إن اضمحلال وتلاشي الفرق والخلاف بين "الأنظمة العلمانية" و"الأنظمة التيوقراطية"، ومن ثم تلاشي الخلاف الجوهري بين فكرة التيوقراطية والعلمانية في "النخب السياسية" العربية، يعبر أساسا عن واقع استفحال القيم التقليدية واندماجها "الطبيعي" في منظومة الاستبداد التي وجدت في التوتاليتارية الدينية والدنيوية ملاذها الأخير. وهي توتاليتارية جعلت من الإرهاب الشامل للسلطة وسحق المجتمع المدني وفكرة الشرعية المرتع الفعلي للأصوليات الجديدة وإرهابها "المقدس". إذ لم يكن هناك من مقدس للاستبداد السلطوي غير السلطة. من هنا تسابقها مع الأصوليات الإسلامية المعاصرة في الدفاع عن "المقدس". ومن ثم إعادة إنتاج الحنبلية الجديدة التي تجعل من الإرهاب حربها المقدسة الجديدة ضد كل بديل يهدف إلى بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية.
إن هذا التضافر التاريخي بين مكونات ومقومات متضادة في الفكر والممارسة السياسية يشير إلى عمق الخلل البنيوي في طبيعة الدولة والنظام السياسي والثقافة. وهو خلل يتناغم مع خلل الأوزان الداخلية في كل شيء. وبالمحصلة هو تعبير عن انحطاط فعلي شامل. وفي ظل ظروف كهذه يصبح الإرهاب ثمرة حلوة كما كانت الحرية هي الثمرة الحلوة لصعود القوى الاجتماعية الحية والفكرة التنويرية والعقل الحر. ذلك يعني، إن تحول الإرهاب إلى "عقيدة مقدسة" هو بحد ذاته مؤشر على نوعية الهبوط الشامل في الوعي النظري والعملي، أي في الفكر والأخلاق. ويشير هذا الهبوط بدوره إلى طبيعة الأزمة البنيوية التي يعاني منها المجتمع والدولة والثقافة. وفي الحصيلة ليست هذه الأزمة سوى الصيغة الأكثر تجريدا للانحطاط الثقافي.
فالانحطاط الثقافي هو الحاضنة الفعلية للتطرف والغلو. والقضية هنا ليست فقط في أنه يمد الوعي السطحي بكل الصيغ والرموز السهلة للهضم السريع للعوام، بل ولما فيه من "طاقة" على شحذ أوهام الحثالة الاجتماعية وأنصاف المتعلمين بروح العنف والتخريب. وفي هذا يكمن سر القدرة الفائقة والاستعداد الأكبر من جانب الأصوليات الإسلامية المعاصرة على ابتذال قيم الاعتدال العقلانية. ويكشف هذا الابتذال عن ضعف الثقافة العقلانية واضمحلال أو غياب الذهنية النقدية، أي كل ما تشترك به وتتسابق الأنظمة السياسية العربية والأصوليات الإسلامية المتطرفة. ومن فعل هذين المصدرين تتراكم قيم الحنبليات الجديدة بوصفها التجسيد العملي لجنون "الإرهاب المقدس"، أي التجسيد الأغرب لتبذير الثروة التاريخية للأمة.
فقد كانت الحنبلية التيار المناسب لإيمان العوام، أي للذهنية العادية والتقليدية. وذلك لان مضمونها لا يتعدى فكرة الانصياع والتنفيذ الشكلي والتقليد الحرفي لمجموعة النصوص المتراكمة في خيال الثقافة وأوهامها وعقولها. كما أنه التيار الذي مّثل الفكرة القائلة بضرورة التقيد الحرفي بكل ما هو "مقدس" و"إسلامي". بينما لم يكن هذا المقدس والإسلامي في تصوراته وأحكامه سوى كمية النصوص المحببة لأوهام العوام. من هنا انهماكه الفعال في شئون الجسد الفردي. إذ ليست حقيقة الحنبلية سوى الاعتناء المفرط بحقوق الجسد والتزاماته بما يخدم "واجبات" الانتقال من لذة الدنيا إلى "نعيم الآخرة". ذلك يعني أن حدودها القصوى تنحصر في شهوة الفرجين. وهي شهوة اختزلت مضمون الإسلام وعقائده الكبرى من خلال تحييد العقل ومنعه من الإبداع الحر، لأنها وجدت في كل فعل عقلي حر أسلوبا يؤدي بالضرورة إلى "بدعة".
وتشير هذه الحالة أولا وقبل كل شيء إلى جمود الروح الثقافي وخراب الذهنية النقدية وانحسارها التام. وليس مصادفة أن تسود الذهنية الحنبلية في جميع مراحل السبات الثقافي والحضاري في عالم الإسلام عموما وفي العالم العربي خصوصا. الأمر الذي جعل منها أيديولوجية مناسبة للانحطاط الثقافي والسياسي.
لقد غرست الحنبلية في النفسية الاجتماعية والذهنية الثقافية نمطا أصوليا (راديكاليا وتوتاليتاريا) في الفكر والممارسة استطاع في غضون قرون عديدة تجفيف أغلب المصادر الحية للرؤية الإسلامية. إنها استطاعت أن تنتج وتعيد إنتاج ذهنية لا يتعدى اهتمامها حدود الجسد الفردي المرفوع إلى مصاف "الأمة". بمعنى غياب واضمحلال، بل واندثار الأبعاد الاجتماعية والسياسية للفكر. مع ما ترتب عليه من تجميد للحياة الاجتماعية بمعايير العبادات الشكلية، وتحنيط للحياة السياسية يقيم الخضوع، ومن ثم ترسيخ وتوسيع وتجذير الاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي عبر دعمه الدائم بقواعد الإيمان التقليدي.
وليس اعتباطا أن تكون معظم الحركات الأصولية الإسلامية والمتعصبة منها والإرهابية هي مجرد نماذج متنوعة للحنبلية (الوهابية المحدثة وأمثالها). وهي ظاهرة يمكن تحسسها الملموس من خلال رؤية الارتباط العلني والمستتر بين الحركات الأصولية المتطرفة والأنظمة التقليدية. ففي كليهما تسود وحدة القيم المشتركة عن "الوحدة" و"الصراط المستقيم" ومحاربة الحرية الفردية والاجتماعية والسياسية والدفاع عن "القيم الإسلامية"، أي كل ما يمثل تقاليد الاستبداد والثقافة الأصولية.
فالوهابية من حيث بنيتها العقائدية وذهنيتها الثقافية ومزاجها النفسي هي الصيغة الأكثر تمثلا لزمن الانحطاط الفكري والروحي والعقلي للإسلام. ومن ثم لا يعني صعودها المعاصر سوى عصرنة الانحطاط بأحد أقسى وأتعس وأرذل نماذجه النظرية والعملية. وبالتالي، فان بلوغ الحركات الإسلامية الراديكالية ذروتها في الأصولية الوهابية الجديدة هو مؤشر على ما يمكن دعوته بختم الولاية الراديكالية في "القرن العشرين" من التاريخ العربي المعاصر. وبما انه قرن التفريغ الشامل للبدائل العقلانية، من هنا فراغ البدائل الأصولية الإسلامية بشكل عام والوهابية بشكل خاص من أية رؤية إستراتيجية باستثناء إستراتيجية الإرهاب بوصفه أسلوب "الشهادة الحية" للأموات. وهذا بدوره لا يعني سوى الاستمرار الأعنف بتبذير الرأسمال التاريخي للدولة والأمة. وهو السر القائم وراء الالتقاء الفعلي بين "الأنظمة التيوقراطية" و"الأنظمة العلمانية" في إعادة إنتاج الراديكالية المتشددة، أي في التبذير الدائم للكلّ الاجتماعي والوطني والقومي.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تنمو بشكل عكسي-.. طفلة تعاني من مرض نادر وهذا ما نعلمه عنه


.. بريطانيا.. مظاهرة في مدينة مانشستر تضامنا مع أطفال غزة وتندي




.. ما أبرز محطات تطور العملات في فلسطين؟


.. نازح فلسطيني: -نفسي نرجع زي قبل.. الوضع الحالي حسسنا إن كنا




.. انتبه!.. القوارير البلاستيكية قد تصيبك بالسكري #صباح_العربي