الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة مرور

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 2 / 24
الادب والفن


أزمة مرور

لم يصدق عينيه عندما رآها تخرج من مكتب الطيران لتندس وسط الزحام. سقطت حقيبتها فانطلق نحوها مغالبا الكتل البشرية و ناولها إياها، ابتسمت..شكرا. ثم همت بالإلتفات و المواصلة لولا أنها تذكرت..ألست أنت...! ..تذكرتِني، أليس كذلك؟ ضحكت..إنه أنت! ياه كم سنة مرت؟!..خمس سنوات على ما أعتقد..يبدو أنك حسبتها..نعم و بحثت عنك كثيرا و لكني لم أكن أعرف حتى اسمك. أشرق وجهها من بسمتها..صحيح، عرفنا كل شيء عن بعضنا إلا الأسماء..حسنا، أعرفك بنفسي. و مد يده..يحيى. ضحكت و مدت يدها تصافحه..سمر.
جلسا قبالة الطاولة في كافتيريا قريبة. بادرت هي..كيف حالك؟ علا بعينيه ثم خفضهما مجيبا..الحمد لله، ما زلت كما أنا عالق في الزمن، موظف سجل مدني في المجمّع له أربع أخوات يعجز عن تزويجهن، الفارق أنّا كبرنا خمس سنوات..لم تفتح الدرج بعد؟ ضحك..كلا، و إن كان مائة درج لا يكفون..أما أنا فترقيت في عملي، هذا هو الجديد فقط، و اليوم كنت أؤكد حجز الغد..ستسافرين؟..نعم ستة أشهر و ربما سنة، مكتبنا في برشلونة يريد موظفا يتقن الإسبانية..إستبينا، إستبينا. ضحكت..ما رأيك، أتذهب بدلا مني؟! بادلها الضحك..يا ليت، و لكنهن أربع في رقبتي.
وضع النادل كأسي العصير و مضى..ما بالك تنظر إلي هكذا؟..لا أبدا، يبدو أن السنين جعلتك أحلى. ابتسمت..أما أنت فنال الشيب من رأسك قليلا. ضحك ضحكة قصيرة ثم أردف بجدية..لم أنسك أبدا..و أنا أيضا و إن لم تجمعنا سوى اثنتي عشرة ساعة فقط. ابتسم..هل تذكرين يومها عندما كانت السيارات تتحرك ربع متر كل نصف ساعة! ضحكت..نعم، صحيح، كانت أزمة مرورية شديدة و كان وهج محركات السيارات يؤجج حرارة الجو أكثر و أكثر...
خرج من الأتوبيس بعد أن كاد يختنق من الحرارة و تركه وسط الطابور اللانهائي من السيارات. انطلق إلى الرصيف و استظل بشرفة، دنت منه و كانت تتأرجح في مشيتها، كادت تسقط عند قدميه فأمسك بمرفقها..حسنا، لا بأس، الجو حار اليوم، تعالي إلى الظل. و أجلسها على حجر..انتظري هنا لحظة، لا تتحركي. ثم انطلق يعبر الطريق المكدس بين صدامات السيارات ثم عاد إليها بكوب عصير و ساعدها لتشرب. قالت بصوت خافت متقطع..شكرا لك، كدت أموت، تركتُ التاكسي و خرجتُ على غير هدى..إلى أين كنت ذاهبة؟..كنت عائدة إلى البيت، في مصر الجديدة..مازلنا في وسط البلد..و العمل؟! أنا متعبة للغاية...
ضحك بشدة..لم تكوني متعبة إلى هذا الحد بعد سويعات من تعارفنا. ضحكت بدورها..بل كنت متعبة فعلا، و لكن يبدو أن هذه نقرة و تلك نقرة أخرى. سادهما الصمت للحظات ثم قطعته بابتسامة..هل تذكر ما قلته لي عن سر الأزمة؟..نعم، لا بد لنا لكي نعلق في أزمة أن يكون هناك أحد ما أخذ شيئا ليس من حقه. فضحكت..و ساعتها قلت لك، و نحن نلتمس التخريمة العجيبة التي أوصلتنا إلى شقة صاحبك: جملتك معقدة، تقصد ببساطة أن كل أزمة مرورية وراءها مخالفة...
..كلا، أنا أصر على جملتي. ضحكت..فليكن! ثم أردفتْ..ما هذا الطريق؟ إلى أين تأخذني؟..لا تقلقي، كان لي صديق يخبرني دائما أن ميزة بلادنا أنه عندما يغلق الطريق الرئيسي تستطيع دائما أن تجد تخريمة..تقصد طريقا مختصرة..كلا، أنا مصر على تخريمة. ضحكت..إستبينا..تقصدين، ماشي بالمصرية..كلا، أنا مصرة على إستبينا. فضحكا ثم سألته..و إلى أين تقودنا تخريمتك؟..صديقي سافر إلى الإسكندرية و أعطاني مفتاح شقته في التحرير لآتيه بحقيبة أوراقه، سأصطحبك معي ترتاحين قليلا حتى تهدأ الأزمة و أجد لك تاكسيا يوصلك إلى بيتك..ألن أعطلك؟..كلا، فالحقيبة سأسلمها لأحد من طرفه غدا...
..هل مازلت متمسكة بحلمك؟ أجابت بتحسر..كنت حين قابلتك متمسكة به بشدة و لكن مرور العمر يقلل الفرص و يبخر الأحلام..إنها نفسها نبرة الحزن عندما بحت لي حينها بمدى قسوة طليقك الذي أصر ألا تتحقق أمنيتك الوحيدة و تكونين أما. أطرقت فمد يده و رفع ذقنها لتنظر إليه و عيناها تلمعان من الدمع الحبيس..لم رحلتِ؟ كان يمكننا أن نستمر..لا تخدع نفسك، مثلنا لا يستمر بل يخطف، ظروفك كانت و لا زالت معقدة و أنا كنت حينها يائسة..ألهذا لم أجدك في الصباح؟ ظننتِ أني استغللت يأسكِ..و لم لا أكون أنا من فعلت؟..إذن ماذا؟..بعد ما فعلنا أصابني ما يصيب الجميع في مثل هذه الظروف، حالة الندم التالية لحالة النشوى و الخوف من رد فعل الطرف الآخر بعد الإشباع، و بصراحة كنت متقززة من نفسي..و أنا أيضا، و لكني كنت أقاوم شعورا عجيبا بالسعادة اجتاحني كان شفيعي فيه أني لم أخطط لشيء، لم يكن في نيتي كل ما حصل..على كل، لقد مضى كل ذلك..صدقيني لم يمضي، مازلت عالقا من وقتها..هل أحببتني؟..لا يمكنني أن أقطع بذلك، و لكن لم لا، و إن كان و ما زال يكفيني أني كنت مرتاحا لك، متوافقا معك بشكل ما. لم تستطع مقاومة دمعتها فسالت متلألئة..أما أنا فأحببتك، يمكنني أن أقطع بذلك، لم تكن لحظة ضعف و مرت و إلا ما كانت لتحيا كل هذا الوقت، لو كانت لذة عابرة، حاجة تم قضاؤها، لما كان ليبقى منها شيء.
لم يستطع مجابهة اعترافها فصمت و أطرق ثم ضحك فجأة فبدا عليها الضيق..علام تضحك؟! رفع رأسه و الضحك يزاحم كلماته..أتعلمين أن خيالي سرح بعيدا بعدما يئست من إيجادك و تصورت أنك حملت ثم ولدت إبنا ثم كبر و وجدك متزوجة من رجل قاس أخبره فيما بعد أنه لمّه من الشوارع فمضى الولد يبحث عن أبيه حتى وجدني في خمارة أتحسر على شبابي الضائع لآخذه في حضني و أقول له،"سامحني يا بني". قهقهت بشدة ثم قالت..جزء مني كان فرحا بما حدث و تمنى ذلك الإبن لولا أن للخطيئة سلطان على النفس يحبس عنها كل فرح و يذود عنها كل أمنية..هل أنبك ضميرك كثيرا كما أنبني..نعم، فمازلت على ما يبدو عالقة هناك.
اتصل بها صباح اليوم التالي..اسمعي، لدي فكرة، سنتزوج..و كيف و أنا أحيا مع أهلي و ليس لديك شقة!..أنت قلت، مثلنا لا يستمر بل يخطف، سأطور الفكرة، مثلنا يستمر خطفا، فلدي أصدقاء كثيرون يحبون السفر، سنتقابل كلما سنحت لنا الفرصة و ربما تصبحين أما، لم نفوت القطار بعد..و لكني طائرتي تقلع في السادسة هذا المساء، كما أن لدي أمور لأنهيها قبل سفري..حسنا، لا بأس، ما زال الوقت مبكرا، كم من الوقت تحتاجين لإنهاء تلك الأمور..ساعتين أو ثلاثة.. تنهنيها الواحدة ظهرا مثلا؟.. تقريبا و ربما قبلها بقليل..حسنا سأنتظرك إبتداء من الثانية في شقة صديقي التي تعرفينها مع شاهدين و مأذون، نتزوج و نقضي معا ساعتين ثم أوصلك للمطار..و هل ستنتظرني حتى أعود من سفري؟..طوال عمري و أنا أنتظرك. ضحكت..الآن فقط اعترفت!..نعم، أحبك و سأنتظرك، هل إرتحت؟!..يا ربي! لقد صعبت علي المسألة، كيف سأسافر الآن؟!..لا تسافري إذن!..لا أستطيع فالمقابل مجز و البيت في حاجة إليه، أنت تعلم أزمتنا المالية المستعرة منذ مرضت أمي، أتتذكر؟ كان هذا سبب زواجي من شخص لم أرده..حسنا لا بأس، ربما سفرك في مصلحتنا، ربما سيكون أكبر حافز لي، فمن يدري ربما عندما تعودين أكون وجدت حلا للم شملنا، و في أسوأ الظروف لو فشلت سنستمر بالخطف دون ندم..فكرتك مجنونة!!..وافقي، ماذا سنخسر أكثر مما خسرنا!
ظل منتظرا و صديقه يواسيه و المأذون يتعجله و الشاهد الآخر يتململ ثم رن هاتفه و انقطع رنينه قبل أن يرد. خرج إلى الشرفة يبحث عن إشارة ثم دلف إلى الداخل قائلا لصديقه..لا أعلم ماذا حصل؟ لقد مضى وقت طويل منذ اتصلتْ في الواحدة ظهرا..إلى أين أنت ذاهب؟ سأصعد فوق السطح لعلي أجد شبكة. كان المساء يوشك على الرحيل. همّ بترك السطح لولا أن جاءته رسالة على هاتفه..أنا آسفة، لم أستطع أن أصل إليك، الطريق كان مزدحما للغاية، مرت ثلاث ساعات في مائة متر، حاولت الاتصال و لكن الشبكة كانت معطلة، أنا الآن في المطار، لا أعلم إن كنت أستطيع أن أطلب منك الإنتظار، وداعا أو إلى اللقاء!
ربت صديقه على كتفه..هل اتصلت بك؟ رد في فتور..نعم..لن تأتي، أليس كذلك؟ "المواصلات برضه!". رنا من فوق السطح إلى الأفق البعيد المكدس بالسيارات الزاعقة و قال مقرا.."المواصلات برضه".
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع