الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مين مفكّر حالك؟

إيمان البغدادي

2013 / 2 / 25
المجتمع المدني


لقد نشأنا في مجتمع لديه بلا شك الكثير من الخصال الحميدة كالكرم و المحبّة و اللهفة و الشهامة .. لكنه أيضاً مجتمع يعاني من أمراض اجتماعية مزمنة و كثيرة. هذه الأمراض التي تجد لها غالباً تربة حاضنة و خصبة في الدول الديكتاتورية التي تقمع الإنسان و تُشعره بأنه تابع لها بالإضافة للجهل و الفقر و الإنغلاق ... الخ . و كي نكون قادرين على معالجة هذه الأمراض يجب علينا أولاً أن نعترف بها و نتحدث عنها بكل جرأة وشفافية ، وإلاّ فنحن لن نستطيع أن نجد لها حلولاً كفيلة بمعالجتها ومعالجة صحتنا النفسية المغتصبة و المخترقة و المنهكة. أحد هذه الأمراض الاجتماعية هو مرض "التحقير" حيث يقوم البعض باحتقار الآخر و الاستهتار بأفكاره و آراءه، بل الاستهتار بإنسانيته حتى، هذا المرض الذي يقود الإنسان إلى أن يتصرف مع الآخر بتكبر واستعلاء قبيح حيث يصنف الآخرين ضمن تصنيفات لاإنسانية تحط من كرامة الفرد. تقريع الآخر و تصغيره و تحجيمه و تقزيمه أصبح من التصرّفات العادية التي قد نقوم بها في اليوم الواحد مراتٍ عدّة دون أن يؤنبنا ضميرنا أو نشعر أننا نتصرف بأسلوب لاإنساني و لاأخلاقي.

أعتقد أننا جميعنا نعاني من هذا المرض لكن بدرجات متفاوتة في الخطورة فلقد تمت تربيتنا و تنشأتنا منذ نعومة أظافرنا بطريقة تقمع شخصيتنا وتضطهدنا وتُشعرنا دوماً بالنقص و الدونية. ولأن الإنسان كالأرض تُنبت ماُ يزرع بها لذلك نحن بدورنا نتعامل مع الآخرين المحيطين بنا بنفس الطريقة دون أن ننتبه أو ندرك ذلك.


كم مئة ألف مرة سمع الواحد منا أو استخدم شخصياً على سبيل المثال هذه المصطلحات في محادثتنا:
وسأوردها باللغة العامية كما نستخدمها: "يعني مين مفكّر حالك؟ شوفوا مين أجى يحكي؟ لابقلك تحكي و تعطيني آراء، يعني لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب، بلا فزلكة ولا تتحفنا بآرائك. اي بلا علاك ونقطنا بسكوتك. كلّك على بعضك ما بتسوا ربع فرنك بعزّ الغلا،... الخ"

هذه العبارات العنيفة التي نستخدمها بكثرة بطريقة مقصدوة أو غير مقصودة هي محاولة لتغطية أمراضنا و عقد النقص التي نعاني منها حيث نحاول تقزيم الآخر و تحقيره و تحقير أفكاره و إنتاجه لنرى أنفسنا أهم و أكبر و أعظم. هذه الممارسة كفيلة بتحطيم شخصية الإنسان الذي يتلقى و يسمع هذه العبارات القاسية وللأسف فنحن نستخدمها بشكل عادي و كأن تحقيرالآخر و تحطيمه أصبح جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية.


يبدأ هذا التجريح و التقزيم من العائلة حيث يترعرع الطفل في بيئة على الرغم من أنها مُحبّة لكنها على الغالب لا تحترم أفرادها بالشكل الحقيقي و الكافي ولا تعرف شيء عن أساسيات تربية الطفل و الصحة النفسية. الأب يتعامل مع زوجته و أطفاله وكأنه الآمر الناهي، يهين و يجرح أفراد أسرته رغم أنه يحبهم لكنه حب مريض و حب متسلط. في كثير من الأحيان قد ينتقد الزوج زوجته أمام الأطفال أو أمام الأصدقاء وينعتها في غيابها بالثرثارة أو يستهزئ على مقترحاتها. الأبوين بدورهما يسكتان الطفل الذي يسأل و يقترح كونه مجرد طفل صغير لا يفهم شيء بنظرهما، و إذا اعترض هذا الطفل على أحد الأوامر يُعنف إمّا تعنيفاً لفظياً أو جسدياً و أحياناً الاثنين معاً. هناك الكثير من الخلل في تربية أطفالنا ويبدأ هذا الخلل من شعور الأهل أنهم يمتلكون أطفالهم وهذه بصراحة طريقة ديكتاتورية لا تختلف عن الطريقة التي يعاملنا بها الديكتاتور الحاكم حيث يعتبرنا ملكاً له و يفرض علينا كل شيء و يدعي أنه يعرف ماهو الأفضل لنا حتى وإن كان هذا الأفضل هو الجحيم. فنحن نقرر عن أطفالنا و كأنهم بلا عقل أو بلا أفكار. نريد أن يلبسوا مانريد و أن ينتموا للدين الذي ننتمي إليه، نريد أن يفكّروا مثلنا و أن يدرسوا الاختصاص الذي يعجبنا، نريد أن يتزوجوا من الشخص الذي نختاره لهم و نريد و نريد.. وننسى أنهم أشخاص مستقلين لديهم إرادة حرة و مستقلة. ودورنا هو التوجيه و النصيحة و ليس أكثر.

في المدرسة إذا كتب الطالب موضوع تعبير جيد تقول له المُدرسّة: "مين كتبلك الموضوع، أمك ولا أبوك؟" وتبدأ التحقيقات معه وكأن لص، و بدل أن يتم تشجيعه على أفكاره و تحفيزه تتم محاصرته و تحقيره و إفهامه بأنه غبي و غير قادر على الكتابة بهذا المستوى. مثل هذه الممارسة كفيلة أن تجفف منابع الإبداع وأن تشوّه شخصية هذا الطالب حيث يفقد الثقة بنفسه و يشعر بالانكسار و الخيبة.

و لننتقل إلى أجواء الثورة حيث أرسلت لي إحدى الصديقات الكاتبات رابط لمقال جميل جداً والحقيقة استمتعت جداً بقراءته، لكن المحزن أنها لم ترسل لي هذا المقال لأقرأه بل كتبت قائلة: " شوفي فلان... مفكّر حاله أديب و بلّش يكتب مقالات الأفندي. والله هادا يلي كان ناقصنا"
أُصبت بالحزن الشديد و طبعاً أرسلت لها رداً من دوره أن يصفعها و يوقظها من عنجهيتها وداء العظمة المصابة به، فإن كانت هي كاتبة معروفة فهذا لا يعني أن تنظر للآخرين بدونية و تعتقد أنها وحدها الأفضل. أعتقد أنها لم تقرأ المقال حتى لكن اسم الكاتب الغير معروف أزعجها، فنحن لدينا هذه المشكلة حيث نقرأ اسم الكاتب قبل أن نقرأ المقال و فقط إن كان الاسم معروفاً يصبح للمقال قيمة و أهمية. و أقولها بصراحة ودون تردد حيث أنني قرأت أجمل المقالات خلال هذه الثورة لكتّاب وكاتبات لم أسمع باسمهم في حياتي كلها. لكن هذه العُقدة موجودة لدى عدد ليس بالقليل من المثقفين في مجتمعنا وهذه العقدة زادت من مرضهم النفسي الذي كنت أتحدث عنه فأصبحوا يعانون من مرض مركّب و معقد.

في أغلب الأحيان نحن لا ننتقد الفكرة بل نهاجم صاحبها و نحاول النيل منه و محاربته شخصياً ونتمادى أحياناً في تأليف الإشاعات عنه وإيذائه. وهذه الممارسة لا تختلف عن الطريقة التي يتعامل بها الأمن معنا حين يفتح ملفنا الأمني و الذي يحتوي أشياء قمنا بها و أشياء أخرى كثيرة هو قادر على تلفيقها حين يريد. الأمن يفتح ملفاتنا الأمنية و نحن نفتح الملفات و السجلات الشخصية و نبدأ بالهجوم الشرس و خلال هذه الثورة أصبح لدينا أمثلة كثيرة من هذا النوع بين المعارضين المستعدين للتشهير و التخوين بشخص آخر لمجرد أنه لا يتفق معهم أو مع آرائهم.

هناك الكثير من الأمثلة المريرة التي مرت بحياتنا فقتلت جرأتنا و تفرّدنا و أذلتنا و أشعرتنا أننا لا نساوي شيء سوى صفر على الشمال. فبتنا نحن أنفسنا نشكك بقدراتنا ونقول لأنفسنا أحياناً " صحيح والله مين أنا؟" وحين ننتقد عيوبنا و نتحدث عن مشاكلنا بشفافية فنحن لا ننتقص من قيمتنا ولا نقلل من شأننا بل نكون قد قررنا أن نتخذ الخطوة الأولى نحو الأمام كي نجد لمشاكلنا و أمراضنا علاجاً و حلولاً حقيقية بعيدة عن المكابرة و الترقيع و كي نكون قادرين على الاستمرار في عملية التغيير و التطوير الذي لا يقف عند حد و لا عند زمن. شخصياً أؤمن بالإنسان و بأن له القيمة الأعلى و الأثمن في الحياة و أؤمن بأن كل إنسان فريد و مميز و يمتلك طاقات مذهلة و رائعة قادرة أن تجعل من حياته و حياة الآخرين أفضل و أجمل. فلنعلنها ثورة على الذات أيضاً و ثورة على أمراضنا وعللنا كي نسعى للشفاء منها و لنكون قادرين على أن نحيا حياة سوية و كريمة تليق بنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لدعم العضوية الك


.. -بآلة لتقطيع الورق-.. سفير إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة




.. ماذا يعني تصويت الأمم المتحدة على الاعتراف بفلسطين كدولة؟


.. لبنان: الإتجار بالبشر عبر تيك توك




.. الجمعية العامة للأمم المتحدة تؤيد مسعى فلسطينيا لنيل العضوية