الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في نقد الراديكالية السياسية العربية (5)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2013 / 2 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الراديكاليات السلفية المتشددة وآفاق الصراع العراقي

إن جوهر الصراع الكامن والمستقبلي في عراق اليوم يقوم بين ممثلي تقاليد الاستبداد والتوتاليتارية والتقليدية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت القوى البعثية - الصدامية التي كانت تمثل تاريخ الاستبداد والتوتاليتارية والتقليد قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة، فان رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. وهو رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي ارتبطت به طوال وجوده في سدة الحكم. وليست هذه القوى في الواقع سوى السبيكة الجديدة من التطرف والإرهاب التي يشكل الغلاة الجدد في العراق نواتها الفاعلة. فهي القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة والجهاد المقلوب من اجل تحويلهما إلى غطاء سياسي لاستعادة البنية التقليدية وتراث الاستبداد والتوتاليتارية المنحلة.
فهي قوى لا تدرك لحد الآن الحقيقة البسيطة القائلة، بان الاستبداد مصيره الزوال. إلا أننا نعرف في الوقت نفسه، بان زواله عادة ما يثير كميات هائلة من المشاكل والمعضلات التي تقع على الأجيال اللاحقة مهمة حلها. وليس ما يجرى في العراق حاليا سوى الاستمرار«الخفي» لتقاليد الاستبداد، التي جرى إعادة إنتاجها من خلال ملابسات تاريخية هائلة، مرتبطة بطبيعة الاحتلال الكولونيالي للعالم العربي وتجزئته، وبعثرة التراكم الفكري والاجتماعي والمؤسساتي فيه من خلال الانقلابات العسكرية، وصعود الهامشية إلى السلطة، وسيادة النزعة الراديكالية. وبمجموعه أدى ذلك إلى صنع توتاليتاريات دنيوية ودينية، ليس الغلاة الجدد سوى الصيغة الأكثر همجية لها. بمعنى أنها الحالة التي تشير إلى تزاوج وتوليف التقاليد التوتاليتارية الدينية والدنيوية. وهي ظاهرة يمكن فهم آلية نشوئها وفعلها إذا أخذنا بنظر الاعتبار كون العراق البعثي الصدامي كان "كعبة" هؤلاء الغلاة الجدد، الذين اخذوا يتحسسون سقوطها التاريخي، باعتبارها خيانة تاريخية «لمقدساتهم». وليس مصادفة أن تكون ردود فعلهم عنيفة للدرجة التي تتطابق من حيث الوسيلة والغاية مع أكثر مظاهر العنف الهمجي، تماما كما تغيب صورتهم الفعلية وراء ملامح الملثمين والمقنعين، أي المختبئين وراء أغشية تمثل في رمزيتها غطاء الغيلة والغدر.
فمن المعلوم والمعروف عن التاريخ الفعلي للراديكاليات «المتنورة» و«اليسارية» هو وضع نفسها وإعلاناتها السياسية في صف واحد يرتقي إلى مصاف الاستعداد المباشر والعلني للتضحية الفردية، باعتباره أسلوب تأييدها وتوكيدها وتحقيقها للفكرة العامة. في حين يمثل الغلاة الجدد في أساليبهم احد أكثر نماذج السقوط السياسي، كما يظهر ذلك في هذا الكم الهائل من التفجيرات القاتلة في مختلف مدن العراق. وتشير هذه الممارسة أولا وقبل كل شيء إلى طبيعة الفراغ الذي صنعه زمن طويل من نفسية الاستبداد والقتل الجماعي الملازم له. وإذا كانت مختلف أساليب القتل الجماعي للمدنيين العراقيين تستهدف أساسا «الشيعة» وأماكنهم «المقدسة»، فان ذلك يشير أما إلى فقدان فكرة المقدس عند فاعليها أو تأكيدها العكسي. بمعنى اعتبار هذه الأفعال أعمالا تستمد «قدسيتها» من حيث كونها موجهة أساسا ضد الشيعة. وهي نفسية ليست غريبة على تقاليد السلفية المتشددة منذ أن أطلقت للمرة الأولى تسمية الروافض، ومنذ أن أصبح شتم الإمام علي من على المنابر جزءا من تقاليد الصلاة الأموية! وهي الحالة التي أكثر من مثلها تيار «القاعدة» أو «الجهاد في بلاد الرافدين».
وهي حالة ونموذج سوف تطرحان في وقت لاحق مهمة تحليل الأبعاد الأخلاقية في الفكر والممارسة السياسية العراقية الحالية، إلا أنها تبقى من حيث كونها ظاهرة سياسية حادة جزء من قضايا الحاضر، وبالتالي جزء من حالة الانحطاط السياسي والروحي الذي عادة ما يثير في مراحل الانعطاف الكبرى نفسية الراديكالية المتنوعة. وليست ظاهرة الغلاة الجدد في الواقع سوى النموذج الذي يمثل حالة الحراك الشرس لترهل التقاليد أو جمودها المحاصر بقيود الغيرة وحمية الإيمان التقليدي.
إننا نعرف جيدا بأن الأحداث الدموية لا تنشأ عن فراغ. بل يمكننا القول، بأنها التعبير النموذجي عن خلل هائل أما في بنية الدولة أو العلاقات الاجتماعية أو الأخلاق أو الفكر أو في جميعهم. وإذا كانت الطبيعة لا تحب الفراغ، فان الفراغ الذي صنعته السلفية على امتداد قرون عديدة يشير إلى طبيعة الخلل الهائل في بنية الفكرة الإسلامية وتقاليدها ككل. وقد برزت هذه التقاليد بكامل قوتها التخريبية في العقود الأخيرة، بعد أن تمازجت مختلف تياراتها الراديكالية في سبيكة يصعب تحديدها بشكل دقيق، إلا أنها تتميز بصعود متنام لنفسية الإرهاب والعداء الشامل لكل ما لا يستجيب لتصوراتها وأحكامها، أي لعقائدها الخاصة.
فالعناصر الجزئية للعقلانية والليبرالية التي تراكمت في مجرى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في الحركات الإسلامية قد أخذت بالاندثار شبه الشامل والتام مع صعود السلفيات السياسية المتشددة. ولعل من أهم مفارقات هذه "السلفية" (الأصولية) هو فقدانها للأصول بالمعنى الفلسفي والفقهي والسياسي. الأمر الذي جعل من تصوراتها في الأغلب نسيجا خشنا من العقائد والأحكام الفقهية المرتبطة بعقائد الإيمان الرتيب والسلوك المناسب له.
لقد كانت هذه الأصوليات المتشددة ردا مباشرا على هزيمة الأصوليات الدنيوية (التوتاليتارية) واستكمالا لها. وفي هذا الواقع نستطيع العثور على استعادة حية للفكرة التي بلورها ابن خلدون قبل ألف عام عن خصوصية الانتقال من البداوة إلى التمدن. إلا أن هذه الخصوصية تكشف لنا في الوقت نفسه عن بعد آخر لم يتطرق إليه، ألا وهو طبيعة الارتباط العضوي بين البداوة والسلفية الذي عادة ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفسية الاستبداد وفكرته السياسية في «الدولة». وهي حقيقة يمكن تأملها على أمثلة التاريخ الإسلامي ككل. فقد كانت جميع مراحل انحطاطه الثقافي مرتبطة بصعود التيار السلفي. وليس اعتباطا ألا تنتج السلفية أية منظومات فكرية فلسفية. كما انه ليس اعتباطا أن تناهض الفلسفة العقلانية والتصوف والتشيع ومختلف المدارس الإنسانية الإسلامية الكبرى من خوارج ومعتزلة وغيرهم. بمعنى سلوكها التاريخي المتأصل في العداء لإبداع العقل الرفيع والروح المتسامي والوجدان الخالص. وليس اعتباطا ألا تتعدى التصورات والأحكام العقائدية المميزة للأصوليات السلفية المتشددة القديمة والمعاصرة أكثر من اجترار جزئي لمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الموضوعة (الكاذبة). إضافة إلى أن اغلبها لا علاقة له بالحياة ومتطلباتها. إذ لا يتعدى أقصى اهتمامها متطلبات الجسد والماورائيات الغارقة بزبد التمنيات والعجائب. وهي صفات يمكن فهمها على أنها النتاج الملازم لنفسية البداوة والاستبداد.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة