الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-رحلة إلى ملكوت الله-

أوس حسن

2013 / 3 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


رحلة إلى ملكوت الله..
...........................

((شمعة يتيمة في ظلام العبودية))

بشر بعدد ذرات الرمل والهواء، يولدون ويموتون ، تاريخ غارق في الدم والعبودية، أرواح تستشعر الغربة ونفوس تعيش المنفى على هذه الأرض ، أسئلة تولد،أسئلة تموت ، والحقيقة الواحدة تتشظى لتصبح حقائق تلمع كالنجوم ،بينما الحقيقة المطلقة ما زالت في عليائها تعزف لحن الخلود اللانهائي.
ألله هذه الفكرة المتنامية المتطورة، كلما تطور العقل البشري، وارتقى الوعي الإنساني إلى الحرية تصبح أكثر كمالا ً وتجليا ً لتهب ريح من النور تشق عباب الظلمة والسكون الكئيب حاملة معها ذلك الوهج الأزلي المتدثر ببياض الحقيقة ،الحقيقة التي طالما انتظرها المتأملون الغارقون في عمق الوجود لحظة إشراق صوفي كامل.
لو سألت أي ملحد راديكالي عن الله سيجيبك بطريقة مسرحية ساخرة تنم عن خوف ٍ شديد، ما الوجود إلا خديعة كبرى أو رهان بين الله والشيطان، نتيجة لعبة شطرنج على رقعة الحياة،وما الموت إلا أنتصار لأحدهما .
أما لو سألت أحد رجال المعبد الكهنوتي عن الله، ستظهر أمراضه النفسية التي ورثها من الطفولة
وعقد النقص، والغرائز المكبوتة في صورة وحشية وبشعة عن الله ، فالله هو الحاكم والملك الذي
يجلس على عرشه الكبير وهو المنتقم، الماكر،الجبار،وهو صاحب النار الأبدية التي سيعذب بها الثائرون المتمردون على حكمه وقدره ومشيئته، ليثبت لك بطريقة أخرى أن الشيطان هو الثائر المظلوم،وصاحب الحق الضائع وهو نتيجة لمعاناته الوجودية الأزلية كان مبدعا ً فابتكر الشعر والفن والموسيقى والأدب السوريالي والرقص، فتلك الأعمال تظهر حقيقة معاناته، لذلك على الإنسان أن يتجنبها ويستعيذ بالله منه، لتأتي شرطته الحكومية وتلقي القبض على الشيطان أينما كان، هكذا كان رجال الدين دائما ً وسيبقون إلى الأبد يعبدون أنفسهم ، ويلعنون ربهم في قرارة أنفسهم، يصورون الله دائما ً كشيخ ٍ ملتح ٍ يجلس على كرسيه ويلوح بعصاه،يأمر بالقتل والسلب والذبح والإغتصاب،فإن لم يفعلوا ذلك توعدهم بالعذاب الأبدي، فصنعوا من الجريمة دينا ً ونحن بنينا من الخوف إلها ً.
* * * مما لا شك فيه أن أحد خيارات الحرية هي الإرادة وإثارة الشكوك، فالفكر هو الحرية بذاتها،
والفكر ينشأ عن تجارب حسية عقلية تخلق الوعي، وهو جملة من المفاهيم والتصورات والأسئلة
تكونها الذات بذاتها عن العالم الخارجي نتيجة مرحلة معينة من التطور الروحي،(1)
فالتأمل والحيرة والدهشة والسؤال في الظواهر الطبيعية وما ورائها وجدت عند الإنسان البدائي الأول، الذي كان عاجزا ً عن الفكر المستقل السليم، فولدت الأسطورة بتفاصيلها الخرافية،لكنها كانت تعبر عن تطور روحي معين وصيرورة للفكر في انتقاله من مرحلة زمانية مكانية إلى أخرى،فالأسطورة نشأت كرد فعل تلقائي على المثيرات الحسية الناجمة عن العلاقة بين
الإنسان وعالمه واستطاعت الأسطورة ان تنجز مهماتها في التوجيه الذهني الهادف للإنسان ازاء الوجود الخارجي وعلائقه الموضوعية..(2)

إن الإسطورة من نتاج الخيال حقا ً،ولكنها ليست مجرد وهم..الأسطورة الحقيقية تقدم صورها وأبطالها الخياليين لا بعبث الوهم،بل هي تأليف خيالي وضعه الإنسان لتفسير حوادث تاريخية ماضية.
يؤيد ذلك ما وصلنا إليه من أساطير في أشهر ملاحم وأدبيات الشعوب،كل تلك الأساطير تؤكد أنها المحاولات الإنسانية الأولية لرصد الكون والتأمل في قضايا الموت والحياة ونشأة الخليقة.(3)
ومن هنا يمكننا القول أن الأسطورة هي موقف معرفي إلهامي،تفسر الكون اعتمادا ً على الكشف الحلمي لعلاقات الظواهر،الذي يتلقاه الإنسان لدى مجابهته القوى الكونية.بمعنى أنها تتغلب وتسيطر على هذه القوى وتكيفها في الوهم ومن خلاله.وحين تتحول سيطرة الإنسان الحقيقية إلى واقع حي وواسع نسبيا ً حينئذً ٍ تفقد الأسطورة قدرتها ويتلاشى أثرها.(4)


أما ظهور الأديان بشكلها المنتظم أو الغير منتظم في المجتمعات البدائية والمتقدمة كان نتيجة هذا التأمل العميق والقلق الوجودي من العدم والفناء، الذي ما زال يرافق الإنسان في عصرنا الحديث،يقول مارتن هيدغر:" إن الأنسان يقلق وذلك لكونه يدرك أنه محكوم في النهاية بالموت وهو العدم نفسه، وما القلق إلا حالة من الخوف المطلق أمام العراء المطلق حيث القلق هو الذي يأتي( بالأنا ) إلى هذا الوجود، وهذه( الأنا ) في هذا الوجود تستشعر العزلة بصورة قوية وتعايش تفاصيلها،فالقلق الوجودي هو الوجود الأصيل والثابت لدى هايدغر، فالقلق يعري الذات الأنسانية ويساعدها على تأكيد ذاتها في سعيها نحو معرفة الحقيقة والوجود الخاص بها"،(5)
وما الوجود الخاص إلا جزء صغير من الوجود العام المطلق والحقيقة اللا متناهية التي يسعى المتأمل لإدراكها دوما ً. إذن فيمكننا القول أن فكرة الخوف من العدم لو أخذناها على نحو واسع وشامل وعلى مراحل تطور التاريخ البشري، ورقي الوعي والعقل الإنساني سنجد أنها كانت عاملا ً مهما ً ساعد على تطور الحضارات وقيام المجتمعات المدنية الإنسانية وكانت حافزا ًفي مجالات الإبداع، التي تشمل العلوم كافة والأداب كافة كالفن، والشعر، والموسيقى، والفلسفة ،فكل إنسان في جوهر ذاته، يعشق الخلود على فطرته الوجودية البسيطة (حتى الأنسان العادي والبسيط)، فيسعى إلى تحقيقها دوماً بأي شكل من الأشكال الذي يضمن له هذا البقاء والخلود.

أما لو تطرقنا إلى الدين، وهو في نظر أصحابه يقين ميتافيزيقي ثابت، وحقيقة نهائية كلية تضع حدا ً لكل التفسيرات والتأويلات العلمية والفلسفية ولا تقبل معها جدال أو خلاف، "نرى أن البعثات الرسولية تماشت مع تطور العقل البشري، وتسلسل الديانات تزامن مع رقي الوعي الأنساني،وهذا يعكس إرتقاء العقل من ما هوغريزي لدى الإنسان إلى ما هوإنساني معرفي ،ويعني هذا أن عمل العقل انتقل من وظيفته النفعية التي تتحكم فيها الغرائز إلى وظيفة إنسانية يشرف عليها الضمير"(6)، فالقرآن الكريم كان دليلا ًعلى بلوغ العقل البشري اقصى درجات التطور الميتافيزيقي في زمان ومكان محددين، ،وقابل للصيرورة أيضا ً لأنتاج فكرة أكثر تطورا ً وتماشيا ً مع الواقع الأنساني الذي تتلاشى فيه رويدا ً ..رويدا ً فكرة الميتافيزيقيا كعالم منفصل خارجي، وكوجود غيبي لا مكان




له في الخيالات والإعجازات الغيبية، لتصبح جزءاً من الفهم العقلي وعلم كامل بحد ذاته. "إن فكرة هيراقليطس التي اعتبرت أن العقل الكلي او اللوغوس هو الذي يحكم العالم ، تسللت إلى المدارس والتيارات الدينية فكانت حاضرة في المدرسة الإسكندرية مع فيلون، الذي حاول التوفيق مع شريعة موسى والفلسفة ،وبرزت في التيارات الأسلامية، فكان المعتزلة والأشعرية ثم الفلاسفة بعد الفارابي وابن سينا الذين أخضعوا الدين والشريعة للعقل ،وحاولوا الكشف عن طبيعة العلاقات الجدلية بين الدين كجملة من الحقائق وما توصل إليه العلم من النظريات العقلية في ذلك الوقت". ( 7)
"طرح المعتزلة تفسيرا ً عقليا ً للقرآن وقدموه على سواه ، وجعلوا حكم العقل قاضيا ً بصرف نصوص القرآن عن ظواهرها،كلما كانت تلك الظواهر متعارضة مع مبدأ العقل، اي أنهم أوغلوا في إبراز المنهجية العقلية والقدرة الأنسانية على الرغم من أن نظامهم الفكري كان محاطا ً بغلاف سميك من الإيمانية التأملية،فطريقة البحث والحكم على الأمور والمواقف اليومية تنطلقان عندهم من جوهر العقل ،وهذا يعني أنهم وضعوا حاجزا ً بين المعرفة العقلية والأخرى السمعية الأيمانية حتى قالوا ( اذا تعارض العقل والنقل فاتبع العقل)"( 8)
"إن ارتكاز المعتزلة على العقل كأساس للمعرفة دفعهم الى محاربة الخرافات والأساطير وغيرها من الظواهر التي لا تخضع للمنطق العقلي،وطرحوا أيضا ً مسألة الفعل الحر على نحو أنساني،وذلك من موقفهم القائم على وجود العقل الذي يتحكم في الإختيار مما جعلهم يرفضون أي فعل خارجي يؤثر على حرية العمل الأنساني."( 9)
"تضمن هذا الموقف بالنسبة للمعتزلة كفاحا ً ضد كل ما يناقض العقل وتحريرا ً للأنسان من كل أشكال العبودية والتقليد والموروث القديم،وارساء ٍ لمنهج جديد في المعرفة يناهض المنهجية السلفية التي تقول بعجز الأنسان عن بلوغ المعرفة بنفسه أو بعقله.
إن للعقل في نظرية المعرفة الإعتزالية، مجالات تكاد لا تنتهي لا في عالم الطبيعة العياني ولا في العالم المفارق،لأن معرفة الله ليست في متناول العقل وحسب بل هي من أولى مهماته،إذ ليس في العالم ما يمتنع على إدراك العقل البشري،حتى المعرفة الحسية تدخل في نطاق سلطانه،إذ هم يرونها من موضوعات المعرفة العقلية،وقد اهتدوا إلى أن وظيفة الفكر هي تحويل الأدراكات الحسية إلى مفاهيم عقلية،ويعد هذا تطور تاريخي كان له أثر كبير على الفلسفات الغربية اللاحقة في عصر النهضة والتنوير." ( 10)
"أما ( أبو الحسين أحمد بن يحيا بن اسحق الرواندي) من مفكري القرن الثالث الهجري وقف موقفا ً مشابها ً فقد سما بالعقل إلى درجة جعل الإنسان مشرع ذاته ومحدد مصيره من خلال تحكم العقل في السيطرة على أفعاله،بمعنى أن تطور الإنسانية مرهون بتطور العقل واتساع آفاق المعرفة."( 11)
أما ابن رشد فقد قال:.."إن الحكمة هي صاحبة الشريعة،والأخت الرضيعة،وما يقع بينهما من البغضاء والمشاجرة،هما المصطحبتان بالطبع، متحاباتان بالجوهر والغريزة".( 12)
وقال أيضا ً في حالة ظهور خلاف ظاهري بين الشرع والعقل،أو تصادما ً وجب أن نؤول ظاهر النص مع ما يقتضيه العقل الراجح،لنتجاوز ذلك الخلاف، مؤكدا ً أن باطن النص لا يتعارض في أي حال ٍ من الأحوال مع العقل،ومن أهم الشروط التي يجب توافرها في ذلك الخبرة،العلم،وإخراج النص من الدلالة اللفظية المجازية.( 13)





"قام بعد ذلك الأمام الغزالي بفتح سجال فلسفي عنيف حول مواقف بعض الفلاسفة،الذين تطرقوا
إلى مواضيع فلسفية تخص أمور الشريعة،اعتبرها الإمام الغزالي أنها ليست من حقهم،لأنها توقعهم
في الكفر،بالرغم من أن هذه القضايا الفلسفية وردت في الفلسفة اليونانية،وتدور كلها حول الخالق وكيفية الخلق،وقد اختص بها كل من الفارابي وابن سينا، وأظهروها بثياب فلسفية اسلامية جديدة.


هذه الأمور دفعت بالغزالي إلى تقويضها وتكفيرهم في بعض القضايا،وهي خمس في كتابه الشهير
"تهافت الفلاسفة"،كل هذا الجدل الفلسفي قبله ابن رشد،كونه يدخل ضمن النقاش الفلسفي المعرفي،ولكن مالم يقبله ابن رشد من الغزالي ومن المتكلمين أيضا ً هو عندما صرحوا به لعامة الناس التي لا تفقه هذه الأمور،فقاموا بممارسة الخطابات التعبوية،وتجييش الناس لتقويض الفلسفة وهدم أركانها،ورفض كل ما له صلة بالعقل من علوم وفلسفة،بعدما لاقت تصريحاتهم قبولا ً كبيرا ً في أوساط الجمهور على أنه مساس ٌ بالدين والعقيدة،على إثر تلك التصريحات اغلقت كل أبواب الإجتهاد إلى يومنا هذا.

لقد تنبأ ابن رشد بعد تلك التصريحات والحملات المقيتة الفاسدة على الفلسفة،على أنها ستمثل بداية النكسة للحضارة الأسلامية وستنطفىء بعدها شمعة الحضارة،وسيزول نورها وبريقها،فقد صدق ابن رشد حينما تنبأ لما سيحدث لأحفاده، إن لم يتداركوا تلك الأخطاء،و إن استمر إقصاء العقل عن مناحي الحياة،فبعدما أكتفى الجمهور بالخطاب العاطفي الديني،والتحنيط الفكري والقبول بالمسلمات اللامنطقية،حدث على إثره انغلاق ديني في مقابل انحصار المد المعرفي،فتحول مع مرور الزمن إلى زهد،ثم إلى تعصب وأخيرا ً إلى اقتتال وتطرف مثلما يحصل في زماننا هذا." (14)
هذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن العقل العربي المعاصر أو بالأحرى طريقة التفكير السائدة في المجتمعات العربية ما زالت تخضع للسلطتين العشائرية والدينية،بمفاهيمهما التقليدية والموروثة، وهاتين السلطتين في العصر الحديث عصر العولمة هما من يتحكمان بطريقة تفكير العقول بطريقة دوجماطيقية تستعبد حرية الفكر والوعي، عن طريق الدراما ووسائل الأعلام والإنترنت ،وخصوصا بعد عقد التسعينيات وسيطرة النظام الرأسمالي الشمولي، فتحول الإنسان العربي إلى مستهلك منغمس في البحث عن لقمة عيشه ،عندها أصبح العقل ضعيفا ً خاضعا ًللاهواء المادية الزائفة، وهذا أدى به إلى تناقص القدرة التفكيرية والقوة الذهنية الخالصة على انتاج وعي متكامل يسمو للحرية .
لقد أشرنا سابقا ً أن البعثات الرسولية تماشت مع تطور العقل البشري،وتسلسل الديانات السماوية تزامن مع رقي الوعي الإنساني، فالقرآن الكريم كان دليل على بلوغ العقل البشري أقصى درجات التطور، لواقعيته الدينمايكية، واهتمامه بشؤون الإنسان وتنظيم الحياة الأجتماعية آنذاك ومنه انبثقت
العلوم والفلسفات والآداب المختلفة لترتقي بالعقل أكثر فأكثر، أما ظاهرة الميتافيزيقيا وظواهر الإعجاز والغيب التي تدخل ضمن دائرة اللامنطق (دائرة الذاكرة النقلية) فهي فوق مبادىء العقل والمنطق،او نوع من الحقائق ثابت الوجود ذاكراتيا ً،معدوم التجريب عمليا ً،وظاهرة الإعجاز والغيب في أكثر الأحيان تخضع للمنهج الذاكرتي أكثر من المنهج العقلاني،"فالمنهج الذاكرتي يقوم


على الحدس المباشر النابع من أعماق الباطن والوجدان،كان معتمدا ً في أكثر تجارب المتصوفة،وفي فلسفة الغزالي ،وديكارت(الفلسفة الألهية،تأملات ميتافيزيقية)،واسبينوزا في وحدة الوجود".( 15) ،وقد اشار الشاعر الكردي الكبير لطيف هلمت في كتابه " الخروج من الدوائر
المربعة"ص 67 إلى ظاهرة الجوانب العلمية في فلسفة التصوف.."إني أصر وأؤكد بأن معظم العلماء والادباء في المجالات العلمية والأدبية والفنية تعم أنفسهم الإشراقات الصوفية لحظة الإبداع،وفي لحظة تلك الإشراقات يحصدون إبداعاتهم،وأستطيع أن أقول حتى الشهداء يضحون

بأنفسهم في حالة من الحالات الصوفية،وبدون تلك الحالة الروحية لن تكون ثمة أية ابداعات علمية أو ثقافية ،ولن يكون هناك أي شخص مستعد للتضحية بنفسه من أجل أي فكر ٍ أو معتقد."
وهذا ما يفسر أن فكرة الميتافيزيقيا والإله صاحب الكمال المطلق والأوحد،الذي يسعى إليه الإنسان،هي فكرة نمت تدريجيا ً وتطورت مع التطور التاريخي للعقل البشري،لتصبح أكثر أنسنة وواقعية في العصر الحديث، ويمكن تناولها لاحقا ً كأي علم من العلوم وتفسيرها على المنهج العقلاني العلمي وربما هو المنهج الذي أراده الله للإنسان أن يمشي عليه منذ تكوين الوجود ليصل إلى الله والحقيقة المطلقة الأبدية.
أما المنهج الذاكرتي الذي يعتمد على الحدس المباشر النابع من أعماق الباطن والوجدان أو الإحساس الروحي بشيء غامض ينتاب الروح في لحظة إشراقها وشوقها للحقيقة..
كان يختلف من ديانة إلى ديانة،ففي عصر الأساطير مثلا ً نجد أن الآلهة كانت تتجسد بصورة البشر، وتقاتل معهم، وتتزوج منهم وتتدخل في سن وتنظيم القوانين البشرية، وفي بعض الأحيان تبدو
وحشية مخيفة تسلط غضبها وثورتها على الناس كافة وذلك لأسباب تافهة بسيطة تكون مثيرة للضحك أحيانا ً.
أما عندما جاءت الديانات المنظمة وفقا ً لتطور العقل البشري والوعي المرتبط بالتطور الروحي، نجد أن هذه الآلهة لم تعد مقبولة، ولا توافق المنطق والعقل، فكان الله يسن قوانينه السماوية من فوق عن طريق وسطاء كالأنبياء والرسل، ولا يظهر لهم إلا نادرا ً، ليشرع لهم شرائعا ً تنظم حياة الناس الإجتماعية وتذكرهم بالإله الواحد والمعاد الذي ينتظر البشرية، هذه الدائرة الميتافيزيقية كانت ضيقة نسبيا ً في العهد القديم ، لكنها اتسعت أكثر في العهد الجديد بالغة ً مداها في في القرآن الكريم، فقدكان العقل سابقا ً ذا محدودية ضيقة في معرفة الغيبيات ومقارنتها مع الفهم العقلي، أما الآن فإن الغيبيات في العصر الحديث توسع مداها لتعتبر أن الغيبيات في الأديان السماوية كافة خرافات وأساطير وخيالات عاجزة عن الفكر،و إن مفهوم الإله الواحد المطلق صاحب الكمال يتوسع مداه يوما ً بعد يوم مع تطور العقل البشري في التاريخ والتطور الروحي الذي يؤدي للوعي،
فلم يعد مقبولا ً للعقل أن يستوعب إلها كما في الكتاب المقدس مزاجي ومتقلب وعنصري ويمارس عمليات الأبادة الجماعية، ولم يعد مقبولا ًأيضا ً للعقل البشري أن يستوعب إلها ً كما في القرآن الكريم يحمل صفات الملك الطاغية..المنتقم،الجبار،المتكبر،المذل،العنيد،..المستهزىء…الخ كلها صفات بشرية تطلق على الملوك والقياصرة،فنحن الآن لا نستطيع العمل بأغلب هذه القوانين

فمثلا ً رجم الزاني أو الزانية في هذا العصر يعتبر جريمة ضد الإنسانية،وقتل المرتد الكافر يعتبر جريمة نكراء أيضا ً،وفرض الحجاب والنقاب على المرأة خوفا ً من عذاب الله وجهنم الأبدية، هو نوع من العبودية والإذلال التي تمارس بحق الإنسانية،
فيحيا الإنسان قلقا ً،خائفا ً من هذا الرب الذي يتوعده في حال ترك الصلاة والعبادة بالعذاب، فينشأ


عنده الخوف، وينمو مع الزمن، فتصبح كل طقوس العبادة والصلاة لهذا الخوف المزروع في اللاوعي وكذلك الحال بالنسبة للملحدين الذين يمتلكون يقين مادي قطعي،بأنه لا وجود لله ولا للميتافيزقيا،
وإن الذرة لا تفنى ولا يمكن تحويلها،وإن الأنسان وجد بالصدفة نتيجة تحولات المادة.
كل هذه الأمور يقر بها العلم الحديث ويعترف بها،والغريب في الأمر إن بعض الملحدين يتمسكون ببعض الأيدلوجات المغلقة والسطحية، رغم أنهم يمتلكون ثقافة عامة وشاملة تؤهلهم للنقاش والجدال الحر الذي يسمو بالعقل،لكن هذا الإنغلاق الأيدلوجي والنفي القاطع ،ما هو إلا انعكاس لمرآة الخوف الداخلية، التي توجد في أعماق روح اللاشعور لرجال الدين،وهو ايضا ً ردة فعل عكسية لخطابهم


الديني البائس والكئيب الذي يقيد حرية وغرائز الملحدين المادية،فينشأ عندهم تيار أصولي يقابل التيار الديني المتطرف،وهذا التيار يتسم بنفس سمات التيار الديني الدوجماطيقية من الغاء الآخر،وثقافة التسلط،وتوهم الحقيقة الذي يؤدي إلى عمى البصر والبصيرة،"وفي المقابل ليس كل منكر لوجود الله لا يعتقد بوجود الله على نحو الحقيقة، فاكثر المنكرين والملحدين يؤمنون بالله عملياً
وإن انكروه بعقولهم وألسنتهم من حيث ما اُلقي في اذهانهم من أن الله له ابن وانه ثالث ثلاثة كما في الديانة المسيحية، أو أن له جسماً ويدين وعينين ويعاقب عباده على أدنى سهو وخطأ وقد فضل قوم

بني اسرائيل وجعل سائر الناس مسخّرين لهم كما هي عقيدة اليهود بالله. أو أنه سلط حكام الجور على رؤوس الناس وأمرهم بطاعتهم وحرّم عليهم الخروج على هؤلاء الحكام وجعل من طاعتهم طاعته كما هو مذهب بعض الفرق الاسلامية. فالكافر بمثل هذا الاله ليس كافراً على نحو الحقيقة وإن ظهر منه ذلك، فالايمان ليس هو العقيدة الذهنية كما يراه الفلاسفة، بل هو عمل وسلوك وعواطف انسانية ومكارم اخلاقية ومثل نبيلة".( 16) لو سلمنا بأن الوعي أصله مادة وإن طريقة التفكير المتطورة والفعالة منبعها عملية كيميائية تجري في دماغ وجسم الإنسان،فإننا لا نستطيع التسليم بأن الفنون الإنسانية كالشعر،والرسم،والموسيقى في لحظات إشراقها القصوى على النفس البشرية أن أصلها مادي،الموهبة والإبداع،والإبتكار، أشياء خارقة تجتاز النطاق المادي هي طاقات أقوى من المادة ذاتها،هي قوى وطاقات روحية قادرة على تفنيت ذرات المادة،وكذلك الأبداعات والنظريات العلمية،مثل نظريات اينشتاين،وكوبرنيكوس،وغاليلو،وديكارت،أضف إلى ذلك الطاقات الخارقة الاستثنائية التي وجدت عند بعض البشر كالتنبؤ،وعلم الغيب المحدود،والقدرة على رفع سيارة أو شاحنة بيد واحدة،أو قدرة طفل صغير على إجراء عمليات حسابية رياضية بعقله …الخ،كلها طاقات روحية خارقة ترتبط ارتباطا ً وثيقا ًبالمماورائيات،وهي ليست بعيدة عن العلم والتطور العلمي في المستقبل.
إن أهم ما يهدد العقل العربي المعاصرهو التسليم بالمورثات القديمة والمعطيات البديهية التي تحنط الفكر وتجعل من الإنسان آلة تحركها السلطات والعشائر والأديان والايدلوجيات المغلقة،فعندما يتبنى العقل العربي كل هذه المسلمات كيقين ثابت وحقيقة قطعية،يصبح الإلحاد دينا ً متطرفا ً،وقد يصبح الدين إلحاداً ً متطرفا ً،وهنا تستحضرني مقولة مهمة للكاتب البلغاري بافل فيجنوف من روايته الأبعاد:.. "الناس لا منطقيون،متناقضون مع أنفسهم تناقضا ًفظيعا ً.أنا متأكد أن كثيرا ً من الملحدين الراسخين يؤدون فريضة الصلاة سرا ً،في الخفاء.تماما ً مثلما يكره كثير من المؤمنين الراسخين ربهم في قرارة أنفسهم."

إن الأحرار الذين يبحثون عن الحقيقة ويملكون فكرا ً إنسانيا ً ساميا ً،"هم الغرباء الذين عزلهم المجتمع ،هم الإستثنائيون المتحررون من عبودية المال والمنصب والشهرة والمنظومة السائدة، كل هذه الأغلال تقيد الفكر الحر وتمنع الإنسان من رؤية الحقيقة،هؤولاء الغرباء الذين عزلهم المجتمع في زاوية ضيقة وهمش أفكارهم هم سيصنعون سائد الآخرين ولو بعد مئة عام ( 17)"،فالإنسان، إذا أراد أن يكون حرا ً عليه أن يخضع فكره للإرادة والشك،فالفكر هو المعادلة التي تربط الإنسان بالوجود ،وذلك لأن الفكر بذاته قائم وهو موجود،وهذا الفكر يتطور ويستمر عن طريق
الديالكتيك ، "وهو أن كل فكرة في ذاتها لها نفيها الخاص،الذي يجعلها تتحول إلى فكرة أخرى تنفي ذاتها أيضا،عندئذٍ يتبين أن هاتين الفكرتين،ليستا سوى لحظتين لفكرة ثالثة تحتوي الأولى والثانية،بهذا يتحقق التطور الديالكتيكي عن طريق صراع الأضداد والمتناقضات،فالسلب هو القوة المحركة للديالكتيك، والصيرورة هي وحدة الوجود التي خلالها يحصل التطور وصولا ً إلى الفكرة الشاملة المطلقة".( 18)
إن الكون في كينونته هو عبارة عن صراع منتظم من التناقضات،وما الحياة في جوهرها وذاتها إلا تراتيل معبرة عن الخير والجمال والحقيقة،وإن الإنسان هذا الكائن المعقد في الطبيعة،منذ أن ولد السؤال الأول من رحم الوجود إلى يومنا هذا ما زال يعيش هذا الصراع،وما زالت تؤرقه هذه الأسئلة الوجودية اللامتناهية،اينما كان،واينما حل وارتحل،وتغرب في منافي الأرض المختلفة.
* * *
رسالة أخيرة

أيها الإنسان هل جربت أن تتأمل عميقا ً في صمت الحياة،هل سافرت مع شوبان وامتطيت صهوة الغيوم ،هل توشحت ضوء القمر على أنغام بيتهوفن،هل قرأت الشعر وسافرت في مدن الإغريق والأندلس،هل دخلت صحارى العرب،هل اغتسلت يوما ًبدمع العذراء مريم،أو البتول فاطمة،هل شعرت باهتزاز الأرض تحتك وأنت تطالع سيرة جيفارا أوالحسين بن علي،هل رحلت إلى الابدية وأنت تتأمل لوحة فنية لفنان عظيم كسيلفادور دالي مثلا ً..؟هل انتابك ذات يوم شعورٌ غامض يشبه سحر الحنين إلى موطنك الأول؟


هل أحسست بسحر الغربة والمنفى وأنت تتأمل الشمس وهي تنكسر خلف أمواج البحر؟
هل اشتقت لمعانقة ذكرى غامضة من زمن غابر بعيد وأنت تطير في أحلامك التي تراودك كل ليلة ؟ هل أدركت أن الكون في سكونه الأزلي ما هو إلا إيقاع عميق يشبه بحة الناي وصلاة الوتر في العود؟
إذا كنت أحسست بكل تلك الأشياء وأدركتها في جوهرها وذاتها فاعلم أنه قد أتاك قبسٌ من بياض الحقيقة وفيض من نور الله المطلق وقد أدركت الله في عمق ذاتك الباحثة عن الحقيقة والمنتشية بالخير والجمال . إذن فكم جميل ٌ هو الله،الله المحبة والخير والعدالة،كم عظيم هو الله بهذا الإبداع اللامتناهي الذي أودعه روح الإنسان،كم حكيم هو الله،الذي جعل من الفراغ المطلق ومن الصمت الأزلي حكاية للبشرية جمعاء،والبشرية إلى يومنا هذا ما زالت تائهة بين اللابداية واللانهاية،لكنها حكاية جميلة حتما ً سنقرؤها ذات يوم ونحن نرحل إلى الأبدية.
......................................................................................................

الهوامش :
(1).. مونيس بخضرة ...تاريخ الوعي مقاربات فلسفية حول جدلية الإرتقاء بالوعي ص17..ص22 .
(2) مجيد محمود مطلب ..تاريخية المعرفة منذ الأغريق حتى ابن رشد ص7
(3) نفس المصدر السابق ص9

(4) نفس المصدر السابق ص12
(5)..مارتن هايدغر القلق الوجودي الأصيل..ويكبيديا الموسوعة الحرة
(6) مونيس بخضرة تاريخ الوعي مقاربات فلسفية حول جدلية الارتقاء بالوعي ص93..(الدين في ضوء العلم ص23)

) مونيس بخضرة.. تاريخ الوعي مقاربات فلسفية حول جدلية الإرتقاء بالوعي ص887)
مجيد محمود مطلب.. تاريخية المعرفة منذ الأغريق حتى ابن رشد ص1258)
نفس المصدر السابق ص 126 (9)
(10)نفس المصدر السابق ص 130
( 11) نفس المصدر السابق ص132
( 12) مونيس بخضرة.. تاريخ الوعي مقاربات فلسفية حول جدلية الإرتقاء بالوعي ص89
( 13) نفس المصدر السابق ص182
( 14) نفس المصدر السابق ص183
( 15) نفس المصدر السابق ص91..(شايف عكاشة الإعجاز والغيب في ضوء المنهج الذاكرتي- العقل في ضوء النقل- قراءة مفتاحية في القرآن والأنجيل والتوراة ص8-9)

( 16) من محاضرة للمفكر الإسلامي أحمد القبانجي عنوانها التفسير التاريخي لظاهرة الإيمان بالله
( 17) ملخص محاضرة للمفكر الإسلامي عدنان ابراهيم وعنوانها كن مفكرا ً ..كن غريبا ً
( 18) مونيس بخضرة..تاريخ الوعي مقاربات فلسفية حول جدلية الإرتقاء بالوعي ص234








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 3 / 9 - 12:15 )
مقاله , تبيّن عن وجهة نظر الكاتب .
أنظر , الله , ليس فكره كما تعتقد , و إلّا أخبرني كيف ظهر هذا الكون؟... و كيف ظهرت منه هذه الحياه؟ .
تابع هذا الفيديو جيداً , فهو يتحدث عن وجود الله علمياً :
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=0-K62WnjZ1M
و هنا , أدخل هذا الرابط , و اقرأه , ففيه هدماً لأسس الألحاد :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?31706-هدم-أ-ُسس-الإلحاد-!!

اخر الافلام

.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين


.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ




.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح


.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا




.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم