الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم القيامة

الناصر لعماري

2013 / 3 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لو أن قاضي محكمة ما كلما تلقى قضية جديدة قام بوضعها في درج مكتبه وأجل النظر فيها إلى موعد يكون بعد موت المختصمين، حتى تراكمت القضايا بكثرة هائلة دون أن يفصل فيها..بينما الحقوق مهدورة والمجرمون طلقاء، بماذا سوف نصف هذا القاضي؟، لن نقول عنه أنه كسول أو غير عادل فحسب بل سنعتبره عالة على مؤسسة القضاء بأكملها ويجب عزله ومحاسبته.

الآن ماذا عن الله..أليس يفعل بالضبط ما يفعله ذلك القاضي؟، إنه يراقب كل هذه الحروب والجوع والمرض والتسلط والنهب والأكاذيب..كل هذه المآسي التي تحدث يومياً وتمزق قلب حتى الحيوان دون أن يحرك ساكناً بدعوى أن يوم المحاكمة لم يحن بعد!
وضع الله المزري هذا تسبب فيه الأنبياء المزعومين عندما كانوا يرون الناس تموت وتتحلل أجسادهم في صمت فكيف يمكن الادعاء أنهم يلاقون حساباً عما فعلوا؟، لا مهرب من هذه الورطة إلا الإدعاء بأن الله يؤجل الفصل إلى يوم مشهود، يؤجل بلايين القضايا ويراكمها إلى أن تحين ساعة لا يعلمها سواه _حتى لا يحرجه أحد _ويقول على لسان أنبيائه أنها قريبة وإنما تزداد بعداً، ولهذا اتبعت الأديان الإبراهيمية خطى الفراعنة بالإدعاء أن الجثث هذه التي نراها تذوي وتتغذى عليها دواب الأرض سوف تعاد إليها الحياة مجدداً يوماً ما قريباً، لكن بقدرة الله الخيالية ودون حاجة إلى تحنيط هذه المرة.

الأديان توارثت ذات الفكرة وروج الأنبياء أو تم الترويج على لسانهم أن هذا اليوم قريب، فنجد في الإنجيل مثلاً:(الحق أقول لكم أن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته).
وفي الإسلام يظل يوم القيامة قريباً:(حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قائمة قال ويلك وما أعددت لها قال ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله قال إنك مع من أحببت فقلنا ونحن كذلك قال نعم ففرحنا يومئذ فرحا شديدا فمر غلام للمغيرة وكان من أقراني فقال إن أُخِّر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة )
وواضح من هذا الحديث أن محمد كان حريصاً على إقناع أتباعه أن يوم القيامة قريب جداً، وهو بهذا التصرف يضمن إرعابهم من يوم مستطير آتٍ لا محالة، فيكونوا بين خيارين إما أن يكذبوه ويعرضوا أنفسهم لمخاطرة وجود ذلك اليوم فعلاً وإما أن يصدقوه وبهذا يؤمّنوا أنفسهم احتياطياً.
ولقد نجحت هذه الحيلة ولازالت تنجح، فيوم القيامة فضلاً عن حالة التهديد التي يحيط بها المؤمنين يجعلهم راضين قانعين متبعين لا يعرفوا للتمرد طريقاً، ومهما رأوا من مظالم وطغيان تأتي فكرة القيامة لتزودهم بأمل في عدالة قريبة سوف تعيد الحقوق وتعذب المخطئين وتمكن المسحوقين من التشفي في الجميع:بدءً بالمتجبرين ومروراً بالظالمين ووصولاً إلى المتحررين من خرافات الأديان!

وإذا أردنا أن نبحث عن تاريخية المسألة نجد أن الأمر مغرق في القدم وطبعاً تطل الحضارة الفرعونية العظيمة برأسها كما تقدم، وكلنا نعلم ما امتازت به هذه الحضارة من حرص على ترميم جثث موتاها لاستقبال يوم القيامة وتزويد القبر بكل ما سوف يحتاجه الميت فور يقظته من حاجيات مع جسد جاهز لمواصلة حياة الخلود!، ومع أن المؤمنين اليوم يسخرون من هذه الفكرة لا ينتبهوا أن يوم قيامتهم الذي يؤمنون به أدعى للضحك والسخرية بكثير، وقبل أن يستنفر المؤمن دفاعاته ويسلقني بلسانه، فليتسائل معي بهدوء:
لماذا يؤمن أن للقيامة علامات قبل حدوثها، مرّ علينا حديث محمد وهو يقول عن شاب أنه لن يموت حتى تحصل القيامة فأين كانت تلك العلامات آنذاك؟! الأدهى أنه يرد في القرآن أن القيامة تأتي بشكل مفاجيء وبغتة..فهل يضع علامات وأشراط من يريد أن يباغت ويفاجيء؟!
ثم لماذا يحدث يوم القيامة بكل هذا القدر العالي من الضجة والأهوال والتدمير؟، الإنسان ضعيف أمام الطبيعة خصوصاً في الفترات التي نشأت فيها الأديان ولهذا هو يشعر بالعجز أمامها وربما الغضب من قسوتها..ويتمنى أن يراها منتهية وأن ينهار المعبد على رأس شمشون الذي لطالما طغى وتجبر.
يستطيع الله أن ينهي الوجود بلحظة وفي صمت كأن يعيد الزمن في أذهاننا مثلاً أو يقول كن وكفى.. بحيث يتصرف بوقار ولا يستعرض بهذا الشكل الذي نجده في القرآن وكأنه يقول عندما يحين الوقت سوف أهدم وأزلزل وأسحق ثم يُنفخ في الأبواق مثلما كان الفراعنة يفعلون يوم النيل وحينها أظهر للعوام.

محمد وأتباعه لم يفوتوا الفرصة بحيث يحصلوا على امتياز خاص يوم القيامة، فبعد المرويات التي تجعل محمد هو النبي الوحيد الذي سيتمكن من التصرف يوم القيامة ومخاطبة الله حتى يبدأ النشاطات ذلك اليوم..سيكون هو الشفيع الوحيد بحيث يتوسط لأتباعه فقط عند الله من أجل تخفيف الأحكام واستصدار الإعفاءات، وإني لأعجب كيف تكون محاكمة عادلة وتحتمل الوساطة والمحسوبية لفئة معينة دون باقي الحاضرين!
الله سوف يحاسبنا مجتمعين، أي مليارات البشر في وقت يبدأ يوم القيامة ولا ندري متى ينتهي، أيعجز الله أن يحاسب كل شخص حال مماته بدلاً من تضييع كل هذا الوقت؟
من هنا جاءت فكرة عذاب القبر للتسويف، وكأن الله لن يكتفي بالتأجيل بل سوف يتسلى على الميت قليلاً خلال وجوده في قبره وحتى ذلك الموعد دون أن يعفيه هذا من المحاسبة المحسومة النتيجة سلفاً، وعلينا في هذا الصدد أن ننتبه إلى أن تحول القبر إلى نعيم أو عذاب يجعل من محاكمة يوم القيامة مجرد مهرجان احتفالي حيث أن كل شخص قد عرف مصيره وهو في قبره، دون محاكمة ولا سجلات ولا ميزان!
ثم لماذا يجب أن ينتهي الوجود في ساعة محددة تسمى يوم القيامة؟ هل فشل الله في صنع كون يستمر إلى الأبد؟..أم هو التفكير البشري القاصر الذي يظن أنه مركز الوجود وكل شيء معد من أجلنا خصيصاً وهو قد اعتاد على أن لكل شيء بداية ونهاية وبالتالي يجب أن يكون للكون عمر افتراضي.

مواقف القيامة نفسها مضحكة، فمثلاً هناك الميزان، لوزن الأعمال،ويفترض أن يكون ميزاناً حساساً ورقمياً بحيث يحسب الأعشار تماشياً مع العدل الإلهي لكن محمد يفاجؤنا أن الميزان ذو كفتين وكأن الله يبيع خضروات في حارة:
(إِنَّ الله سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاً، كُلُ سِجِلٍ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ "تحتاج وقت لقراءتها كلها" ثُمَ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئَاً ؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحافِظُونَ ؟ فيَقُولُ: لا يَا رَب "لم يستطع قراءتها كلها"، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَب، فَيَقُولُ: بَلَى، إنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً "مفاجأة" فَإِنَهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ بِطَاقَةٌ "كرت" فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا الله وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَب مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَع هَذِهِ السِجِلاتُ ؟ فَقَالَ: فَإِنَكَ لا تُظْلَمُ، قالَ:فَتُوْضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ وَالِبطَاقَةُ في كِفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاتُ "من الكفة الأخرى" وَثَقُلَت البِطَاقَةُ، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ الله شَيْءٌ)

وهذا ينقلنا إلى مسألة السجلات التي دونتها الملائكة خلال عيش المرء في الدنيا، يمكن لله أن يعتمد على ذاكرته الإلهية ودون الحاجة إلى ملائكة لتدوين الأعمال، ولكنه هنا كأي قاضي بحاجة إلى مستندات يتم إعدادها أول بأول وذلك حتى يلزم الحجة! و عند التمعن نجد أن المسألة برمتها صورية فالله هو القاضي والمحامي والجلاد في نفس الوقت، ولو أنكر أحدنا فقرة معينة في أحد السجلات الطويلة تلك طاعناً الملائكة بالتزوير مثلاً أو طالب بإعادة الصياغة لأنه أسيء فهمه فلن يهتم به الله لأنه يثق في ملائكته ونظام التوثيق الذي أسسه، وبالتالي فحكاية عرض السجلات مثل عدمها، طالما أن كل ما سوف يسجل كعامل إدانة غير قابل للنقض من أي جهة.

إن الإنسان يتوق إلى العدل الشامل رغم أنه أداة الظلم الأولى، ولكي يعالج هذا التناقض الذي يعيشه ابتدع إلهاً ألصق به تهمة خلق البشر والفصل في كافة نزاعاتهم وسلوكياتهم بقوانين متضادة، ولم يلحظ مدى الغباء في أن يُؤجل الله المحاكمة إلى موعد غير محدد يدعي أنه سوف يفني فيه كافة ما اجتهد في خلقه وابتكاره ثم يقيم المحاكمة في ذلك الموعد ويقسم البشر بين الجنة والنار ليعود إلى عرشه وحيداً بدون خلق وتسبيح وتمجيد وثناء وابتهالات، تماماً مثل قاضينا الذي كان يؤجل نظر القضايا فتراكمت والناس تصدق أنه حدد يوماً للمحاكمة بعد أن يموت الخصوم حتى أفلت من المحاسبة والعزل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أكثر من رائع !
ماجد جمال الدين ( 2013 / 3 / 23 - 18:33 )
الأخ الناصر لعماري !
منذ فترة طويلة لم أقرأ في نقد الفكر الديني مقالا بمثل جمال الفكرة هنا !
شكرا لك !
بالمناسبة حول الميزان ليس المهم أنه قبان او ذو كفتين أو رقمي أو يقيس وزن الألكترون والنيوترينو .. ألمهم كيف وماذا يقيس . وهل العمل الصالح والطالح يمكن أن يخضع لمفهوم الوزن .. وخذ لك مني كيلو ونصف بركة !
تحياتي


2 - أتفق
عدلي جندي ( 2013 / 3 / 23 - 23:20 )
أتفق وأشارك الأستاذ ماجد في كل ما كتبه.. تحياتي

اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah