الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهوية العراقية ومشروع البديل الوطني (12)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2013 / 4 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تجربة المرور المريرة صوب مرجعية الهوية العراقية.

إن التاريخ لا يخض لقانون صارم، لكنه قادر على البرهنة الدائمة على أن الخروج على الحكمة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الجحيم. وليس هناك من جحيم بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي أقسى من جحيم الانحطاط والتفكك الوطني مع ما يترتب عليه من حتمية مختلف أشكال الصراع والحروب غير العقلانية. وهي نتيجة يؤدي إليها بالضرورة الطائفية السياسية والقومية العرقية. وذلك لأنها تعجز عن صنع الثبات والديمومة على أسس عقلانية عاملة بمعايير المستقبل. مما يجعل منها بالضرورة قوة مغلقة ومنغلقة ومتعصبة وعدائية وقابلة للانحدار صوب التدمير الذاتي. وهي الرؤية التي تعطي لنا إمكانية التفاؤل العقلاني والواقعي، انطلاقا من إدراك خصوصية العراق وقابليته الذاتية، على هزيمة المشروع الطائفي والقومي العرقي. وهي الحالة التي يمكن رؤية معالمها الأولية في فشل المشروع الأمريكي في العراق. وهو فشل محكوم أولا وقبل كل شيء بالحقيقة القائلة، بان مشاريع البدائل الكبرى تفترض المعاناة الذاتية من اجلها. وأنها مشاريع وطنية أولا وقبل كل شيء من حيث القوى والرؤية والأساليب والإمكانيات والغاية.
ذلك يعني، أن فشل المشروع الأمريكي للديمقراطية ليس نتاجا لنية سيئة أو سوء فهم وتقدير أو عدم دراية وجهل وغيرها، بقدر ما انه الخاتمة الطبيعية لكل مشروع خارجي. إن حقيقة البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل. وهو أفق لا علاقة للقوى الأجنبية به إلا بالقدر الذي يستجيب لمصالحها الآنية والبعيدة المدى. بمعنى أن الحوافز الدفينة محكومة بتاريخ خاص. والمشروع الأمريكي محكوم بالتاريخ الأمريكي ومصالحه ومرجعياته. والشيء نفسه عن المشروع العراقي. وفشل المشروع الأمريكي في العراق هو النتاج الطبيعي لهذا الاختلاف والتباين. كما انه يبرهن على جملة حقائق كبرى، وهي:
1. إن نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة
2. إن نجاح أي مشروع كبير مرهون باستشراف المستقبل الذاتي للأمة
3. إن نجاح أي مشروع يفترض المعاناة من اجله
4. إن أجمل وأفضل المشاريع الأجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج
5. إن المشاريع الأجنبية لا يمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الآخرين، وبالأخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام.
6. إن المشاريع الأجنبية هي إما أملاءات وهو الأتعس، وإما سياسة المصالح الضيقة وهي الأكثر تخريبا
7. وأخيرا، إن المشاريع الأجنبية هي مؤشر على خراب ذاتي، ودليل على اختلال في توازن القوى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها.
فقد كان صعود المشروع الأمريكي وهبوطه في العراق دليلا على صعود وسقوط التوتاليتارية والراديكالية، ومؤشرا على خلل القوى السياسية جميعا. وبالتالي، فإن إدراك هذه الحقائق الكبرى يفترض تحويلها إلى بديهيات سياسية عند القوى السياسية من اجل أن تتكامل فعليا بمعايير الرؤية الوطنية وتحقيق مصالحها من خلال مصالح العراق بوصفه صراعا من اجل المستقبل. وهو الأمر الذي يفترض المساهمة العقلانية والواقعية من اجل إفشال المشروع الأمريكي في العراق، بشرط أن يكون البديل ليس رجوعا إلى الوراء وليس ممالأة للقوى السلفية ولا انسياقا وراء مختلف أشكال التجزئة المتخلفة من طائفية وعرقية وجهوية، بل بديلا واقعيا وعقلانيا ومستقبليا. وذلك لان حقيقة المستقبل بالنسبة للعراق مقرونة بالإجماع المتنامي في كل مكونات ومنظومات وجوده على فكرة الاحتمال في البدائل، بمعنى الانهماك في التخطيط المتنوع والمختلف لهوية المستقبل. ويفترض هذا المشروع بدوره مهمة الاجتهاد والجهاد الدائم من اجل تحقيق إستراتيجية بناء الهوية العراقية، والدولة العراقية، والثقافة العراقية، والمجتمع العراقي. وهو مشروع لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. لاسيما وأنه ليس جزء من تصورات الأحزاب وإيديولوجياتها، بل هو المكون التاريخي لتطور المجتمع والبنية الاقتصادية ونظام الدولة السياسي والثقافة العامة والخاصة. وبالتالي، فهو المشروع الأكبر للعملية التاريخية المعقدة التي يتوقف مسارها وسرعتها على طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية وقواها المحركة والفاعلة.
إن مفارقة ومأساة الحياة السياسية الملازمة لمرحلة وحالة الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية في العراق تقوم في توسع وتعمق وترسخ ظاهرة الانتقال من الشكوك العقلانية بالبدائل واحتمالاتها إلى اليقين الطائفي عند اغلب الحركات والأحزاب السياسية. وهي ظاهرة مروعة بالمعنى السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي والوطني. كما أنها تعكس وتعبر عن حالة الانحطاط الشاملة التي يمر بها العراق حاليا. وهي حالة ليست معزولة عما يمكن دعوته بالانفجار الصريح والمخزي لذخائر التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية في "مآثرها" الاجتماعية الخربة والاقتصادية المتخلفة والعلمية المعدومة والسياسية المشوهة. وهو تشوه أخذت ملامحه تتضح على خلفية البروز الناتئ لطبيعة المعارضة السياسية السابقة حالما "ارتقت" إلى سدة الحكم. وهو "ارتقاء" كان من ابرز ملامحه انتشار الفساد الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري.
إننا نكتشف في هذه الظاهرة عن الحالة الطبيعية للفساد السريع المميز "للمعلبات". فالمعلبات تحتوي على حوافظ يمكنها البقاء لفترة معينة سالمة سليمة، ولكنها حالما تصبح جاهزة للاستعمال، أي بعد تعرضها للهواء، فإنها لا تحتمل البقاء طويلا محتفظة بصفاتها المعلبة. وهي ظاهرة ميزت طبيعة ومكونات المعارضة السياسية العراقية التي اجبرها النظام الدكتاتوري، كما اجبر المجتمع عموما، على البقاء في حافظات متنوعة المظاهر والأشكال، ولكنها تشترك في الابتعاد عن الهواء الطلق للحرية والنشاط السياسي الحر والديمقراطي. وهو ثمن لابد للعراق وقواه السياسية من تقديمه لكي تتم عملية الانتقال الواقعي والطبيعي والفعلي من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. من هنا الفساد السريع لأغلب القوى السياسية العراقية المعارضة للسلطة الصدامية حالما خرجت إلى نار العراق من نور المنافي، والى هواءه الساخن من برودة أوربا وأمريكا الحافظة.
غير أن هذا التأويل الموضوعي والمنطقي لا يبرر بأي شكل أو قدر لا منطقية الحركات والأحزاب السياسية ونزوعها الضيق في عراق ما بعد الصدامية بصدد الموقف من القضايا الجوهرية الكبرى للعراق ومصالحه الوطنية والقومية الأساسية. فلكل مرحلة قواها وقيودها وقيمها ومسئوليتها. وذلك لان وعي وإدراك المقدمات التاريخية للفساد القائم في العراق الحالي لا ينفي مسئولية الأحزاب السياسية الحالية فيه. على العكس انه يضعها أمام مسئولية اكبر مما مضى. وذلك لان مهمة المعارضة تقوم في تقديم البدائل الأكثر واقعية وعقلانية وإنسانية. بينما تكشف سنوات ما بعد سقوط الدكتاتورية وحتى الآن عن واقع مرير ومخزي في الوقت نفسه بهذا الصدد. بمعنى إننا نقف أمام انحطاط مادي ومعنوي هائل سواء بمعايير الرؤية النقدية للماضي أو بمعايير الرؤية المستقبلية، أي البدائل. إذ لا شيء يرغم المرء على السقوط إلى الحضيض غير ما فيه، بمعنى استعداده على المضي قدما في دهاليز الرذيلة. والشيء نفسه يمكن قوله عن الحركات والأحزاب السياسية. فالفساد الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري الذي يميز اغلب القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في "القرار السياسي" هو نتاج "إرادتها"، أي نتاج ما تريده لا ما ترغم عليه. وإلا لافترض ذلك غياب أو اضمحلال أو تلاشي كل إرادة فيها. وهي صفة الأموات! لكننا نقف أمام قوى "حية" أو تدعي الحياة والحيوية بينما لا تشكل أفعالها بالمعنى الوطني والسياسي والأخلاقي والإداري سوى التجسيد الأكثر فضاضة للفساد والانحطاط. فإرادتها الإدارية لا تتعدى الوصولية الفجة والتخلف وفقدان الاحتراف والنزاهة. وهي صفات لا يمكنها أن تصنع أخلاقا سياسية سليمة، ومن ثم قادرة على بناء مجتمع حر وديمقراطي ومتمسك بمفهوم الشرعية وحكم القانون. أما النتيجة المعنوية لذلك فهو اضمحلال أخلاق الدولة مع ما يترتب عليه من فساد في الفكرة الوطنية، أو الشعور الوطني، كما نراه بصورة جلية في استفحال الطائفية بمختلف مظاهرها والسياسية منها بالأخص.
فالطائفية السياسية هي النتيجة "المنطقية" للفساد الإداري والأخلاقي والسياسي والوطني. كما انه الاستمرار الطبيعي لنفي فكرة الاحتمال العقلانية والاستخفاف الشامل بها، أي النفي الشامل لفكرة الدولة الشرعية والتعددية الاجتماعية والسياسية الفعلية التي تستمد مقوماتها وفاعليتها من إدراك قيمة البدائل المتنوعة واحتمالاتها غير المتناهية في الإبداع الإنساني. بينما تحصر الطائفية مضمون الإرادة البشرية وأفعالها بغريزة الاستعادة الفجة لقيم وقواعد الانغلاق المتجدد!
بعبارة أخرى، إن الطائفية السياسية لا تصنع في الواقع سوى يقين بلا روح، أي يقين بلا آفاق. وهو واقع يكشف بدوره عن أنها نتاج حركات سياسية تافهة لطائفة مقهورة ومتخلفة (الشيعة)، كما أنها نتاج حركات سياسية شرسة لطائفة أشرس (السّنة)، ونتاج حركات قومية هشة قابلة للتلون بكل الألوان بما في ذلك بالطائفية العرقية (الكردية). مما يجعل منها جميعا قوى خاسرة بالمعنى التاريخي لعملية الانتقال إلى الديمقراطية. ذلك يعني أنها جميعها رهان خاسر وذلك لان صنعتها الممكنة في ظروف العراق الحالية هو مجرد نحت لما فيها، أي للصدامية الجديدة. وهو مسخ لا يمكنه العيش والصمود أمام التيار الآخذ في النمو لفكرة الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والمجتمع المدني.
كل ذلك يضع بالضرورة مهمة بلورة البديل الديمقراطي والعقلاني القادر على تجاوز وتذليل المكونات والأبعاد الخربة والمخربة في الحركات الإسلامية السياسية (الشيعية والسنية) والقومية العرقية (الكردية)، أي بديل قادر على التجسد في حركة اجتماعية سياسية دنيوية (علمانية) شرعية وطنية، أي كل ما يمكنه أن يكون مشروعا ديمقراطيا عراقيا.
فمن الناحية التاريخية لم يجرب العراق مشروعا ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد عانى من اجله طويلا، وتحول من حيث كونه قيمة وغاية إلى جزء جوهري في وعيه السياسي، لكنه لم يتغلغل في وعي الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى ما يمكنه أن يكون مرجعية فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. بعبارة أخرى، إن الديمقراطية من حيث كونها مبدأ وقاعدة وفكرة لم تتحول إلى جزء من تاريخ الدولة. على العكس لقد كانت الدولة في صراع عنيف مع الفكرة الديمقراطية. الأمر الذي جعل منها محل تخوين وتجريم افقدها القدرة على النمو الطبيعي في العراق كما افقد القوى السياسية قدرة استيعاب مضمون الفكرة الديمقراطية بالشكل الذي يجعلها معقولة ومقبولة بالنسبة لمعاصرة المستقبل فيه. وفي هذا يكمن احد الأسباب التاريخية والسياسية والإيديولوجية الكبرى لهزيمة المشروع الديمقراطي في العراق، كما تكمن فيه أيضا مقدمات المعاناة والتعقيد الهائل للانتقال إليها من ضغط الإرث الهائل لتقاليد الخروج على الدولة الشرعية والحق. وليس مصادفة أن تكون قوة التحول من التوتاليتارية إلى الديمقراطية في العراق هي قوة الاحتلال والتدخل الخارجي. فهو المؤشر الدقيق على انحسار القوى الديمقراطية في العراق، وعلى شراسة التخلف الاجتماعي والسياسي والحقوقي الذي لف زمن العراق بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 واستكماله المتكرر في الانقلابات العسكرية وتتويجها بالتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة