الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النسبى والمطلق وجدتى الريفية

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2013 / 4 / 7
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات



تصحو مشرقة فى الصباح، يغسلها النوم ودموعها من أحزانها، كما تغسل الأمطار وجه القمر والنجوم وأوراق الشجر، لم تملك جدتى من الدنيا إلا قطعة حجر تشق بها السحب تهتك الستائر والحجب، لم تجرؤ الشمس ولا القمر على الغياب إلا بعد غيابها.

أقسمت بأمها أن يعيش ابنها ويكبر رغم أنياب القدر والقضا، كانت المواليد تموت كالكتاكيت، شدت جدتى الحزام حول بطنها قهرت القهر والجوع والضنا، أدخلت أبى المدرسة ليقرأ الفلسفة وقالت له بملء صدرها: لا تتخفى يا ابنى لا تطاطى، ارفع رأسك بصوتك العالى، لا يرهبك العمدة ولا الملك والإنجليز أمك هزمتهم، الإنس والجن والشياطين.

التخفى والسرية والستر كلمات يرضعها الابن والابنة من الجدة المقهورة والأم المكسورة القلب، منذ وقفت التفاحة فى حلق آدم تم قهر الأم بقانون الأب، اختفت الحقيقة وراء عمود من الدخان فى الهواء، أصبح الخوف يقتضى التخفى والستر والسرية، ترضعه الجدات والأمهات، للبنات والأبناء والأحفاد، خوفاً من بطش الجد والأب والرب، كان ملك مصر هو الرب فى السماء والأرض، مينا وآمون وفؤاد وفاروق والسيد الرئيس، الذى كان ويكون. تخرجت أمى فى المدرسة عام ١٩٢٨، قرأت العربية والفرنسية، عرفت ابن رشد ومدام كيورى وألبير كامو، تقول لأبى حين يخفى الحقيقة: الشجاع مالوش أسرار، جدتى الريفية (لم تدخل مدرسة) تقول للعمدة حين يكذب عليها: الكلمة شرف يا عمدة مش الورقة المختومة؟

قتل خفراء العمدة أمها بعد أن شهدت بالحق ضده، وكانت جدتى تشتهى الحق كالموت، مثل أمها المقتولة، لم تكن أمى تهتف فى المدرسة «الله الملك الوطن»، كانت تخرج مع التلاميذ فى المظاهرات ضد القصر والإنجليز، قبض عليها رجال البوليس، دخلت السجن فى الخامسة عشرة من عمرها، دفع أبوها خمسين قرشا غرامة ليطلق سراحها، وخمسة وعشرين قرشا مهراً لأبى لتدخل قفص الزوجية، كانت أمى تحلم باكتشاف دواء جديد مثل مدام كورى أو تصبح كاتبة مبدعة مثل ألبير كامو،

تردد عبارته: لو خيرونى بين أمى أو أقول الحقيقة فسوف أختار أمى، يفسر أبى هذه العبارة الواضحة بأسلوب فلسفى غامض ويقول «الحقيقة ليست المطلق بل النسبى المادى» تحملق جدتى فى وجه ابنها بعينيها الواسعتين يشع بريقهما وهجا أسود: هو ده الى اخدتوه من المدارس، لا شغل ولا مشغلة، كلام فى كلام وخلاص. ترن كلمة «خلاص» فى طفولتى غامضة فأسألها: يعنى إيه خلاص؟ تضحك جدتى حتى تدمع عيناها: آه يا بنت ابنى، ثم تمسك بيدها رأسى وتقول «راسك هى خلاصك». رسخت كلماتها فى عقلى منذ الطفولة، أدركت أن رأسى هى التى تخلصنى من حيرتى حين تغيب الحقيقة، أو تصبح عمود دخان أو بليغ الكلام. علوم الطب لم تعلمنى قول الحق، دربتنى على علاج الأمراض بالمشرط والعقاقير، علوم الفلسفة لم ترشدنى إلى الحقيقة، دربتنى على النسبى والمطلق وإقناع الآخرين بالشىء ونقيضه، وظلت جدتى هى الحقيقة مثل جسد أمى.





التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي


التعليقات

1 - مقال متميـّز
محمد بن عبد الله ( 2013 / 4 / 7 - 12:15 )
من أروع وأصدق وأقوى ما كتبت الدكتورة نوال السعداوي

يستحق هذا المقال أن يترجم إلى كل لغات البشر.. لا يتناول السياسة الحالية ولا الأمور الآنية ولا نظريات الحكم التي نجتمع ونختلف حولها بل يخاطب الانسان فينا

2 - نعم عقولنا هي خلاصنا الوحيد
فؤاده العراقيه ( 2013 / 4 / 7 - 16:49 )
الغريب في كتاباتكِ كونها عميقة وتحرك العقول وفي نفس الوقت ممتعة لأنها تحاكي احاسيس الأنسان ومكنونات نفسه
هذه قوة المرأة التي ليس لها حدود والتي ارادوا لها القمع من خلال اذلالها بطرق كثيرة منها محاولاتهم لأخفائها كما يخفون ويخافون من البوح بأفكارهم ,
هكذا رضع ذكورنا فكرهم من أجدادهم وهكذا رضعت نساؤنا الذل والهوان من اجدادهن وجداتهن بفعل الموروث الذي لا نجرؤ نقاشه
محيطنا يتعجب من كل من يلهث لتطوير عقله بحثا عن الحقيقة ... حيث يقولون ماذا سينفعنا تطوير عقولونا وأرهاق أعيننا وكل شيء يأتينا جاهز من بلاد الغرب !! , علينا ان نرتاح ونريح اعيننا لتحتفظ ببريقها الى آخر يوم لنا , نأخذها معنا للقبر صافية جميلة , لم يدركوا بأن قولهم هذا هو سبب مشاكلهم التي يغرقون بها , ولم يدركوا بأن العقل هو الوحيد القادرعلى ان يحفظ لهم بريق اعينهم وصفائها
كل الود والأعجاب والتقدير لما تتحفينا به

3 - النسبي
ناس حدهوم أحمد ( 2013 / 5 / 1 - 17:29 )
علاقتك ياسيدتي بوالدك وبجدتك علاقة خصوصية
هذه العلاقة الفريدة من نوعها تعتمد على نبوغ والدك ونبوغ جدتك
رغم أنها كانت أمية وكذلك أنت بصفتك حجر الأساس لهذه العلاقة
ولهذا أنت أصبحت مبدعة
وعظيمة أيضا لأن ليس كل المصريات مثلك
فأنت تعلمت أولا وفي صغرك على يد مدرسة جدتك ووالدك
فكنت محظوظة
وها أنت الآن مربية أجيال و أنا أول المعجبين بك
أتمنى لهذه الأمة أن تحظى ولو بسيدة واحدة في مثل جرأتك ونبلك
وإخلاصك ونبوغك
كما أتمنى لهذه الأمة أيضا جدات عديدات كجدتك لتعطينا نساءا في
مثل معدنك

اخر الافلام

.. الطبيب العام محمد الأيوبي: الرجال هم أكثر إصابة بمرض باركنسو

.. -تشديد العزلة على القائد عبد الله أوجلان استمرار للمؤامرة ال



.. اللبنانية ريم صايغ فراشة الغوص الحر


.. أخصائية التونسيات تعانين من نقص الوعي وغياب الثقافة الصحية




.. أقوال المرأة خالدة في ذاكرة التاريخ