الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السوسيولوجيا الكلاسيكية و المسألة الحضرية [4]

يونس بنمورو

2013 / 4 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


 التحليل الحضري عند « جورج زيمل »


لاتزال المدرسة السوسيولوجية الألمانية في علم الإجتماع ، تمثل مكانة مرموقة بين المهتمين عموما بالنظرية السوسيولجية ، سواء أكانت تقليدية أم حديثة معاصرة ، و هذا ما نلاحظه من خلال تحليلنا للثراث السوسيولوجي لنظرية علم الإجتماع الكلاسيكية ، و التي ظهرت معالمها الأولى في أوربا الغربية ؛ و إن كانت الجذور التاريخية للمدرسة السوسيولوجية التقليدية الألمانية ، لم تأت من فراغ بقدر ما ترجع أصولها النظرية الأولى ، إلى علماء و فلاسفة و مفكري عصر النهضة و الإصلاح الأوربي ( ... ) الذين أثروا في الفكر الإجتماعي بالعدديد من الأفكار و التصورات الهامة ، التي غيرت الكثير من ملامح الحياة الثقافية و السياسية الإجتماعية خلال العصر الحديث . و من ثم ، لا يمكن للباحث المبتدئ أو المتخصص في علم الإجتماع عامة و نظرياته خاصة ، أن يتجاهل طبيعة إسهام المدرسة الألمانية السوسيولوجية ، التي أمدت هذا العلم و نظرياته بالكثير من القواعد المنهجية ، و القضايا التصورية المتنوعة حتى الوقت الراهن [ عبد الله محمد عبد الرحمن ] ؛ و لعل إهتمامنا الحالي بالسوسيولوجي « جورج زيمل » يعد دليلا على تمتع المدرسة الألمانية بمكانة متميزة ، فـ « جورج زيمل » كان أولا و قبل كل شيء ، متأثر بالقرن الذي نشأ فيه ، و بالأوساط الثقافية الألمانية الزاخرة آنذاك ، و الضاجة بأسماء فكرية وازنة ؛ إذ درس الفلسفة ـ دافع عن أطروحة حول كانط ـ تكفل في الجامعات بحلقات دراسية قيمة . لكن رغم الحيوية و الذكاء الحاد اللذين قدم البرهان عليهما ، فإنه لم يحصل على منصب رسمي نهائي ؛ كانت كتاباته تنتقص من المعيار الجامعي ، و بإنتقائية قليلة الأكاديمة ؛ أبدى إهتماما بتاريخ الفلسفة ، و بالحيثيات الإجتماعية الأكثر حضورا ( النقود ، الدين ، الثقافة ، النزعة الفردية ... ) ؛ كما بالظواهر التي هي بشكل مسبق أقل أهمية ( جمالية الوجه ، الأطلال ، المغامرة ، سيكولوجيا النساء ... ) Philippe Cabin & Jean-François Dortier ؛ فطبيعة الحياة الإجتماعية و المهنية و التقافية التي عاشها « جورج زيمل » عكست نوعية إهتماماته السوسيولوجية التي إهتم بتحليلها و دراستها بصورة عامة ، فلقد عاش في الفترة ما بين 1858-1918 ، و حرصت أسرته اليهودية التي سكنت مدينة برلين بألمانيا ـ إلى أن تؤهله لدراسة الفلسفة و الإجتماع ، و التاريخ و الدين ، و غير ذلك من العلوم الإنسانية الأخرى ، و لاسيما علم النفس و الإقتصاد ( ... ) [ عبد الله محمد عبد الرحمن ] ؛ كان « جورج زيمل » أحد تلامذة « ماكس فيبر » ، إذ كان له تأثيرا واسعا و ملحوظا على الدراسات الحضرية ، حيث أكدت تحليلاته السوسيولوجية على فهم و تحليل العلاقات الإجتماعية بين الأفراد ، خاصة في مجالات التفاعلات الإنتقالية ، و لعل أهم ما قدمه من أعمال ترتبط بالدراسة الحضرية ، مقاله الشهير The Metropolis and Mental life [ عبد المالك عاشوري ] ؛ حيث كانت الفكرة الأساسية لهذا المقال ، أن الشخصية تتعلم أو تؤقلم نفسها مع المدينة ، مع هذا المنطق فسر « جورج زيمل » خصائص الحياة الحضرية على إنها إستجابة إيجابية من سكان المدينة ، ليديروا ما يواجههم من تعقيدات [ السيد عبد المعطي السيد ] ؛ من هنا كان تطوير العلاقات غير الشخصية و إنقسام الحياة الإجتماعية ، إلى عوالم و مجالات منفصلة مثل عام الأسرة ، و عالم العمل ، و عالم الأصدقاء ، و القدرة على الإندماج في علاقات نفعية زائلة ، و كدفاع ضد تعقيد الحياة الحضرية ، يحاول الناس أن يعيشوا في علاقة غير عاطفية ، و عقلية ، و وظيفية ، مع الآخرين ، و هذا الدفاع يجعل الحياة منفصلة ، و يطبق الضبط على كل واحد على حدة ، و إذا حاول الناس في المدينة أن يعيشوا حياتهم في الأسرة و في العمل و في الصداقة ، فإنهم يتحطمون عن طرق التعقيدات الكامنة في كل من هذه الوقائع التي يعيشونها في الوسط الحضري ، يعد كل ذلك في نظره ـ جورج زيمل ـ بمثابة طرق أو وسائل وظيفية للتكيف مع أحوال المدينة ، و يرى في تحليل هذه الأنماط السلوكية مزيدا من الأمل و الوعي الذاتي الفردي ، أكبر بكثير من ما يمكن أن يوجد في أشكال غير الحضرية للمجتمع ؛ لذا فلقد تمحورت نظرية « جورج زيمل » حول فكرتين أساسيتين : تدور الأولى حول مميزات المدينة ، بينما ترتبط الثانية بإستجابة ساكنيها ، كما أنه يرى أن الصور الحضرية التي توجد في العصر الحديث ، تشير إلى إمكانية ظهور حياة حضرية جديدة و معقدة ؛ بالإضافة لكونه يعتقد أيضا ، أنه يمكن وصف المدن بالإعتماد على النماذج المثالية ، لكن عناصر الوصف يجب أن تكون سيكولوجية أكثر منها بنائية ، كما وصفها « ماكس فيبر » بالنسبة للسرقة و الأسرة و القانون الحضري ، ذلك أن الإنسان في المدينة يشعر بأنه يعيش في حالة ضياع نظرا لتعدد جوانب الحياة فيها [ غريب محمد السيد أحمد ] ؛ في هذه الحالة النفسية ، هي التي تجعل الناس يبتعدون عن الإستجابة العاطفية نتيجة لتعقد الحياة الحضرية ، الأمر التي تصبح معه العلاقات بين الإنسان و أقرانه ، و بينه و بين البيئة عموما ، علاقات جزئية و إنفصالية ، و تعتبر البيروقراطية و الإدارة و إقتصاد السوق ، الميكانيزمات التي تلجأ إليها الحياة الحضرية لكي تواجه حالة التفكك النفسي ؛ كما يعتقد « جورج زيمل » أيضا أن الحياة في الحضر تعلم ساكنيها التخطيط و التنظيم العقلاني للوقت ، و النشاط الذي يعبر عن تقسيم العمل الإقتصادي المتطور ، و الذي يعتبر من أهم سمات تنظيم الحياة الإجتماعية في المدينة ، كما أن إقتصاد النقود يعد مظهرا من مظاهر العقلانية الحضرية ؛ و في هذا الصدد يؤكد « جورج زيمل » أن ساكن المدينة يتعلم بمرور الوقت ، أن يتكيف مع حياتها بتطوير إتجاهات اللامبالاة و الإنعزال و التحفظ الإجتماعي ؛ أي يصبح أكثر عقلانية و واقعية و بعيدا عن العاطفة ، هكذا يمكن القول أن « جورج زيمل » رغم أنه يعارض « ماكس فيبر » في تصوره لنشأة المدن ، إلا أنه إنتهى إلى صورة للحياة الحضرية ، تشبه إلى حد كبير تلك الصورة التي قدمها « ماكس فيبر » لخصائص المدينة الحديثة ، و يكون بذلك قد حدد نقطة بداية لمرحلة لاحقة من مراحل تحليل الحضرية كطريقة في الحياة [ عبد المالك عاشوري ] .

 إستخلاص و تعقيب :

يكشف التحليل المعمق لأفكار المدرسة الكلاسيكية ، على أنها نتاجات للظروف التي أحاطت بالزمن و المكان الذي عاشوا فيه ، لذلك فإنه مع التغيرات الإجتماعية الواسعة النطاق ، و مع تزايد نمو المدينة و إرتفاع معدلات الهجرة الريفية الحضرية ، و ما ترتب عنها من التوترات و المشاكل الإجتماعية العديدة و المتنوعة ، نجد أن ما يمز أفكارهم هو الطابع التشاؤمي الذي سيطر على التفكير هؤلاء الرواد ، بالنظر للمدينة على أنها تهديد للقيم الإنسانية التي إمتدت لفترات زمنية طويلة . و يعتبر إختلاف التفسيرات التي قدمها الرواد ، جليا خاصة بين كل من « كارل ماركس » و « ماكس فيبر » ففي الوقت الذي ذهب فيه الأول ، إلى أن المدينة هي نتاج لتركز السكان و الأدوات و رأس المال و المتع و الحاجات ، فإن « ماكس فيبر » قد بنى تصوره للمدينة انطلاقا من منظور تاريخي مقارن ، بدأ فيه من مدن مصر و ما قبل الميلاد ، إلى المدينة الرومانية و الإسلامية و الآسيوية و الأوربية القرسطوية و الروسية ... ؛ و هكذا ، فرغم أهمية المنظور التاريخ عند « ماكس فيبر » في تناول الظاهرة الحضرية من منظور متعدد الأبعاد ، فإنه بتعريفه النموذجي المثالي للمدينة يسقط في النزعة تمركزية تعطي للمدينة الأوروبية الأفضلية باقي مدن المعمور و خاصة الشرق منها . بينما « إميل دوركايم » يعتبر بأن المدينة و التمدن هو صورة نموذجية للتقدم الإنساني و للحداثة ، حيث يتحقق التضامن العضوي ، المفضي إلى مزيد من التقدم و الحرية و الرخاء ... و عموما ، يمكن القول أن ما يميز التراث السوسيولوجي الكلاسيكي ، هو محاولته الجادة لإكتشاف الخصائص المميزة للمدينة و للحياة الحضرية ، بإعتبارها خصائص تصدق على المدينة ككل ، فضلا عن تعريف ثقافة المدينة كظاهرة حضرية ، لكن على الرغم من إهتمام رواد علم الإجتماع في أوروبا بعدد كبير من الموضوعات الحضرية ، إلا أن ما قدموه من أعمال يفتقر إلى الوحدة النظرية ، على غرار كل الثنائيات التي قدمها « إميل دوركايم » و التي أستخدمت بشكل واسع في تحليل الفروق القروية الحضرية ، ثم جاء « ماكس فيبر » ليقدم خطوة أبعد من ذلك ، بأن قدم نظريات تدور حول كيفية عمل المدينة ؛ هذا من جهة أما من أخرى ؛ فإن المتصل الريفيي- المدينيي و أنماطه المثالية ينطوي على عدد نقاط الضعف ، بوصفه نموذج إعلام المدن ؛ و المشكلة الأولى ، هي أنه كان في الحقيقة مجرد تفرغ ثنائي ، فقد تم على نحو واضح ومعقول ، تمييز النمطيين القطبيين ريفي و مديني ، و لكن المراحل بينهما لم تكن كذلك . فما الذي يحتاجه تغيير مكان لكي يصبح مدينيا في خصائصه الإجتماعية ؟ أو ما عدد عناصر الإختلاف التي يجب تغييرها ؟ إن أسئلة كهذه لم تحظ بإهتمام كبير . و كانت النتيجة أن كان النموذج أساسا عرضا سكونيا ، يمسك في حينه بنقطتين و يوضح قاعدتهما الإجتماعية و الثقافية . و لهذا كان عاجزا عن التعامل مع التغير الإجتماعي . تنشأ هذه الصعوبة جزئيا من التعوييل على الأنمطة المثالية ، و هذه تجريدات من العالم الواقعي ، و غالبا تبسيطات له و تستخدم لدراسة الحالات الواقعية لمعرفة مدى مطابقتها للنموذج ، و تفتقر هذه النماذج إلى عمق تاريخي ، و كثيرا ما تحول دون تحليل التغير ؛ و نقطة الضعف الثانية الرئيسة ، هي الإندماج في تحليل لإنحراف ضمني محاباة للريف . و كان هذا إلى حد بعيد مضادا للمدينة ، و إعتبر المدينة موضعا أصبح فيه المجتمع المحلي مفقودا ، و حيث تتطلب إعادة البناء تدخلا و تنمية مجتمع محلي واعية من قبل المخططين و الآخرين ، أيد هذا الموقف ، المفهوم الخاص للمجتمع المحلي على إعتباره علاقات إجتماعية متكاملة ، تترابط بقيم و تقاليد مشتركة ؛ و رفض إستقصاء أو إختار عدم إستقصاء حقيقة أن البلدات الصغيرة و القرى الريفية ، كانت أيضا مكانا لإجراءات طغيان بسيطة ، و إختلالات في توازن القوة و علاقات غير عادلة [ Dempsy ] ؛ و في أغلب الأحيان لم يكن الإمتثال و الإستقرار نتيجة للإختيار و الإجماع ، بل نتيجة للقوة و القمع . و النقص الثالث ، هو أن النموذج تكون في لحظة خاصة من تطوره ، خارج تجربة مجتمع أوربي في المقام الأول ؛ و لهذا يطرح سؤال حول مدى إمكانية تحويل هذا التحليل ، إلى حالات كانت فيها التجربة التاريخية مختلفة ، إن الإنتقال من مجتمع ريفي ضيق النطاق من الفلاحين ، إلى مجتمع مديني صناعي ، كان بعيدا عن تجربة عامة . و قد حدث عدد من الإختلافات ؛ فعلى سبيل المثال ، إن المدن التي تكونت كجزء من الكولنيالية ، في مناطق من العالم كغرب و جنوب أفريقيا ، كانت في البداية غالبا مدنا إدارية و سياسية ، ذات وظائف تجارية ، فتكون بنيانها ليعكس القوة و القيم الثقافية للنخبة الإستعمارية ، أكثر من كونها نتاجا للتصنيع [ Anthony King ] ؛ فعلاوة على ما سبق ، يمكن الخروج بإستنتاج مفاده ، أن الإهتمام السوسيولوجي الكلاسيكي بالظاهرة الحضرية ، لم يكن إلا عرضا ، ضمن سياقات تحليلية عامة و شاملة ، أي أن المدينة كظاهرة إجتماعية ، و كتيمة سوسيولوجية ، لم تنفرد بمتن تفسيري مدقق بل و حتى مجزئ ، يرنوا نحو صياغة أوعية تحليلية لها ، بمختلف أبعادها ، بل كانت المدينة متضمنة ضمنيا في تلك التحاليل الشمولية ، إنطلاقا من مبدأ مقارن ، ناتج عن تحولات إجتماعية كبرى عرفتها القارة الأوروبية ؛ و بالتالي فالسوسيولوجيا الكلاسيكية بروادها الأوائل ، لم تفلح في تسييج المدينة بمتن سوسيولوجي إبيستيمي ، بقدر ما عكست طابعا تفسيريا ذاتيا شموليا ، ينظر للمدينة على أنها تهديد للقيم الإنسانية التي إمتدت لفترات زمنية طويلة .



إنــتــــهـــى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع