الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحول الديمقراطي واامجتمع المدني- ق2/ المجتمع المدني

عبدالوهاب حميد رشيد

2013 / 4 / 8
المجتمع المدني


القسم الثاني
المجتمع المدني

الفصل الأول- الجوانب الفكرية

خلفية تاريخية
هناك اتفاق عام على أن فكرة المجتمع المدني حديثة نسبياً، خاصة في مجالاتها العملية التي وجدت باكورة تطبيقاتها في العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية) منذ منتصف القرن التاســــع عشر.(75) ويشار إلى الكسيس توكفيل Alexis de Tocaeville (1805- 1859) باعتباره من أوائل المساهمين في هذا المجال. برزت مساهمته في كتابه:الديمقراطية في أمريكا (1835). ورأى أن الحكومة القائمة من قبل الناس تعني أكثر من مجرد المشاركة في الانتخابات. إذ أن هذه المشاركة تأخذ صيغتين: أُولاهما (المجتمع السياسي) عندما ينتظم الناس في الأحزاب السياسية بغية الفوز بالانتخابات وتشكيل الحكومة. وثانيتهما (المجتمع المدني) بدخول المواطنين في عضوية المنظمات المهنية (غير السياسية)، أي التي لا تتعامل مع السياسة مباشرة، بل تعمل على مساعدة الحكومة دون مقابل في مجالات خدمة الناس وبناء خلفية مؤثرة في السياسة لصيانة ودعم وتطوير الحريات والديمقراطية.(76) وهنا يتفق معظم المعنيين حالياً مع توكفيل على أن تقدم العالم المعاصر جاء نتيجة التطورات المؤسسية التي وجدت تعبيرها الأكثر وضوحاً في الاقتصاد الرأسمالي: الديمقراطية السياسية والحريات الفردية وحرية السوق.(77) كان توكفيل من دعاة الفصل بين الدولة (الجمهورية الديمقراطية) وبين المجتمع المدني. وأوضح أن الموضوع الأساس هو تواجد دولة ديمقراطية تتعايش وتتوازن مع مجتمع مدني يكملها في الوقت نفسه (ترابط عضوي)، وأن المجتمع المدني ليس بديلاً عن الديمقراطية بل صمام أمان لها ضد استبداد الدولة.(78) كما لاحظ علاقة انسجام بين المعتقدات الدينية المسيحية وقيم الحرية في العالم الجديد. فالمجتمع الحديث، وفق مفهومه، يجد تفسيره في الديمقراطية التي تتمثل بالمساواة العامة في الشروط الاجتماعية، بمعنى أن كل مواطن يتمتع بفرص متكافئة لشغل الوظائف وحمل الألقاب وحتى الامتيازات. وهذا الرأي يقوم على منظور قابل للمقارنة مع منظور ماكس ويبر عند تفسيره لظاهرة الرأسمالية وربط نشوئها بالمذهب البروتستانتي الداعي إلى تبني أخلاق تقوم على العمل الصارم والزهد في الحياة، مما يوفر فرصاً أكبر لتراكم رأس المال. واستنتج من بحثه التاريخي الرأي القائل: إذا كان بعض الأديان يسهل تطور الرأسمالية فإن بعضها الآخر يُعيق هذا التطور.(79)
يُشير مفهوم المجتمع المدني في أصله اللاتيني إلى مجموعة سياسية خاضعة للقوانين (وجود دولة المدينة) تُشكل مجتمعاً سياسياً يعترف مواطنوه بقوانين الدولة ويتصرفون وفقاً لها. ظهر هذا المفهوم عند ارسطو في كتابه:السياسة. بينما رافق نشوء المجتمع المدني في أوربا الغربية الصناعية ظهور البرجوازية كطبقة صاعدة على أنقاض الإقطاع، بما تضمنتها من تحولات عميقة في بُنية المجتمعات الأوربية منذ الباكورة الأُولى للنهضة والوصول إلى الأشكال المبكرة للديمقراطية الليبرالية التي أنتجت عصراً جديداً في النظر إلى الإنسان باعتباره الكينونة الأُولى في المجتمع.صاحبت هذه التحولات علاقات اجتماعية جديدة ترتب عليها نشوء مؤسسات ومنظمات برز من خلالها ناشطين أفراد في المجال الاجتماعي ممن تجاوزوا مرحلة الانطواء على الفردية واكتشفوا أهميتهم في الحياة العامة والمشاركة الجماعية والمساهمة في بناء رأي مؤثر، وذلك بدءاً بالمرحلة التي طُرِحَتْ فيها قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان.(80)
وهكذا، فمع بداية المرحلة المبكرة للديمقراطية الليبرالية اصبح الإنسان الفرد هو أساس الحداثة في مجالات العمل والتشريع والفكر. وهذا ما أضاف بُعداً جديداً للتفريق بين الدولة والمجتمع المدني. وفي هذا المجال يُشير الفيلسوف الاسكتلندي آدم فرجسون في كتابه: مقال في تاريخ المجتمع المدني (1767) إلى السمات الأساسية عند الانتقال من الأشكال البدائية أو الخشنة للحياة البرية نحو مجتمع متحضر تنتشر فيه المبادلات التجارية في إطار مبدأ تقسيم العمل. كذلك عبّر توماس باين (1791) في كتابه "حقوق الإنسان" عن الفكرة ذاتها. كما تبلور مفهوم المجتمع المدني لدى فلاسفة الثورة الإنكليزية والفرنسية: هوبر، لوك، وروسو في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بوجود هيئة سياسية قائمة على أساس اتفاق تعاقدي، أي وجود المجتمع السياسي المنظم (الدولة الوطنية الموحدة)، حيث تطور مفهوم المجتمع المدني إلى مجتمع قادر على تسيير ذاته خارج إطار الدولة.(81) بينما اتخذ مفهوم المجتمع المدني في ألمانيا صيغة جديدة من خلال مساهمة "هيغل" في كتابه الشهير: مبادئ فلسفة الحق, الذي أعطى أهمية استثنائية للدولة بقصد تدارك ظاهرة التأخر التي كانت تعيشها ألمانيا في تلك الفترة (1821) بالمقارنة مع بريطانيا وفرنسا. وتتجلى الملامح البارزة لكل من الدولة والمجتمع المدني والعلاقة بينهما في ضوء رؤية هيغل بِأن المجتمع المدني يضم كافة الأفراد والطبقات والمؤسسات الاقتصادية التي تنتظم في ظل القانون المدني. وهو مجال تقسيم العمل والتنافس بين المصالح الخاصة المتضاربة. بمعنى أن المجتمع المدني هو حقل تنافس وصراع لتحقيق المصالح الذاتية غير المستقرة التي تشكل تهديداً مستمراً باحتمال الانفجار. عليه فهو هيئة عاجزة تتطلب، حسب مفهومه، المراقبة الدائمة من الدولة لتوفير الغطاء العام المؤهل لبناء الاستقرار بين المصالح الذاتية المتباينة وبما يتوافق مع الصالح العام. من هنا خَلُصَ هيغل أن المجتمع المدني لا يقوم إلا عِبْرَ الدولة المؤهلة لحل إشكالياته الداخلية وتأمين استمراره وتطوره بصورة نمطية. لذلك وجب خضوع المجتمع المدني إلى سلطة الدولة.(82)
أما من وجهة نظر ماركس فإن المجتمع المدني هو الأساس الواقعي للدولة التي تستمد وجودها واستمرارها من ظاهرة انقسام المجتمع إلى طبقات، وأن الدولة هي أداة لتوظيف استمرارية سيطرة الطبقة الاقتصادية الأقوى على المجتمع، وبالتالي فهي تُعبر عن الصراع الطبقي، وتمثل دكتاتورية الطبقة الأقوى. لذلك تقاطع في رؤيته مع فهم هيغل، على أساس أن المجتمع المدني هو سوق اقتصادية للرأسمالية والمجال الذي تتحقق فيه المواجهات بين المصالح الاقتصادية المختلفة. ويتجسد هذا الصراع بقطبيه الأساسيين: الطبقة العمالية (البروليتاريا) والطبقة الرأسمالية (البرجوازية). وأن هدف الاشتراكية هو إلغاء الدور التسلطي للدولة ودمجها بالمجتمع المدني لتكون في خدمته وتحرير المجتمع من الفوارق الطبقية والاستغلال وإطلاق حرية المجتمع وتحقيق العدل الاجتماعي.(83) من هنا طوَّر ماركس مفهوم الديمقراطية والمجتمع المدني ليعني عالم المشاركة association بدلاَ من السيطرة domination والمساواة equality بدلاَ من الطبقات classes.(84)
غاب مفهوم المجتمع المدني في المراحل التالية عقوداَ عديدة، ولم تستقر هذه الفكرة لغاية نهاية الحرب العالمية الثانية وزوال الفاشية المعادية لفكرة الديمقراطية. عاد مفهوم المجتمع المدني إلى دائرة الجدل السياسي، وبخاصة بالعلاقة مع تنظير الفيلسوف والزعيم الشيوعي الإيطالي: انطونيو غرامشي (1891- 1937). وكان السؤال الذي واجهه يتعلق بكيفية وصول الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في المجتمعات ذات التقاليد الديمقراطية البرجوازية إلى السلطة، وإلى أي مدى يمكن أن تتلاءم ستراتيجية الانقلاب- الثورة التي اتبعها البلاشفة في روسيا مع الظروف المتميزة للمجتمع الإيطالي، بل والمجتمع الغربي عموماً؟(85)
لاحظ الفيلسوف الإيطالي تركز القوة في روسيا القيصرية بالدولة المركزية (القيصر) في سياق مجتمع مدني هلامي ضعيف، كما هو حال الشرق عموماً. وعلى خلاف هذا الأمر،تتواجد الدولة اللامركزية في إيطاليا (الغرب) في ظل تجزئة السلطة/ القوة, ووجود مجتمع مدني راسخ (الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والكنيسة والمدارس والصحافة..) حيث تمارس الطبقة الحاكمة من خلالها هيمنتها على الطبقات المحكومة وعلى الحياة العامة الاجتماعية والثقافية. فالدولة الغربية أشبه بقلعة محاطة بنظام دفاعي من الحصون والخنادق التي تمثل مراكز قوة متعددة إلى جانب الحكومة المركزية. بينما في روسيا، تواجد مركز واحد للقوة محصورة بيد شخص واحد (القيصر)، لذلك تحققت عملية الاستيلاء على السلطة في لحظة تاريخية واحدة أو بضربة مفاجئة. لكن البلاد التي فيها مجتمع مدني متطور، مثلما هو الواقع في أوربا الغربية, فإن "حرب الحركة" لا بد أن تخلي الطريق لستراتيجية مختلفة سماها "حرب المواقع". من هنا يتطلب الاستيلاء على السلطة في الغرب تطوير ستراتيجية جديدة مخالفة لستراتيجية البلاشفة الروس بحيث تقوم على استخدام المثقفين الأعضاء في الحزب ومؤسساته ومنظماته.(86)
كما أكد غرامشي على فكرة الهيمنة الثقافية من خلال ربطه مفهوم المجتمع المدني بمفاهيم الدولة والايديولوجية والثقافة والثورة. وبذلك ساهم بتطوير مهم لفكرة المجتمع المدني بنقله لفضاء المفهوم وحيز استخدامه إلى البنية الفوقية للمجتمع وليشير إلى البيئة الثقافية- الايديولوجية ومؤسساتها (الحزب، النقابة، المدرسة، وسائل الإعلام والنشر..). بمعنى أن غرامشي أعطى أهمية خاصة للدور السياسي والثقافي للأحزاب السياسية في تحقيق الهيمنة الثقافية من خلال أعضائها المثقفين بما يملكون من مؤهلات في تحريك آمال وأحلام ومشاعر الجماهير واحتواء ثقافتها وبالتالي توظيفها باتجاه الانتقال نحو بناء مجتمع أفضل. ورغم أنه اعتبر الصراع على الهيمنة الثقافية صراعاً أساسياً في مرحلة ما قبل الثورة والتي يمكن أن تلعب فيها المؤسسات التطوعية دوراً مؤثراًً, إلا انه ركز على دور المثقفين العضويين، أي أعضاء الحزب الاشتراكي ونوادي ومجالس العمال في عملية التغيير وتشكيل نواة الدولة الحديثة. ولأِن غرامشي لم يكن مهتماً إلا بالهيمنة الثقافية الواحدة، لذلك كان يرى أن تنوع المؤسسات المدنية في المجتمع وما يدور بينها من حوار وتبادل الآراء والأفكار، ليست هدفاً بحد ذاته وإنما يجب وضعها ضمن إطار وحدة ثقافية جامعة تتحقق فيها الهيمنة الثقافية الموحدة. ويلاحظ أن مفهوم المجتمع المدني شهد بدايات جديدة مع الاطروحات الفكرية لغرامشي الذي دعا إلى التميز في البنية الاجتماعية ما بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. ورأى أن هذا الأخير يتسم بطابع الهيمنة الثقافية التي تمارسها النخبة المثقفة الواعية في موازاة المجتمع السياسي (القيادة والسيطرة) التي يُعبر عنه من خلال الدولة.(87)
ورغم تفريقه بين المجتمع السياسي (الدولة) بمؤسساتها وأجهزتها (الجيش، الشرطة، القضاء، القانون..) وبين المجتمع المدني الذي يحتوي على الايديولوجيا بمكوناتها المتعددة (الفلسفات، الدين والحس المشترك، الأحزاب السياسية، النقابات، النوادي، الهيئات الثقافية، المدارس..) إلا أنه يشير إلى التداخل والعلاقة التفاعلية بينهما. ففي الوقت الذي يحتضن فيه المجتمع التنظيمات السياسية, تقوم الدولة باحتكار السلطة السياسية. ونتيجة لعلاقة الصراع هذه، وعلى هامشها، تتطور بُنى وهيئات وفئات اجتماعية تحقق استقلالها النسبي وتحصل على مشروعيتها ومن ثم تؤسس سلطتها شبه المستقلة (سلطة المعرفة) التي تربطها بالسلطة الحاكمة علاقة تداخل واختلاف. ولا تتحقق الهيمنة الثقافية والايديولوجية لفئة أو طبقة إلا إذا استطاع مثقفوها الأعضاء الارتقاء بوعي الفئات والطبقات الاجتماعية وإبلاغها درجة أفضل من التجانس من خلال الإصلاح الثقافي باعتماد فلسفة تستند إلى العلم في إطار الحزب وعِبْرَ أعضائها المثقفين.من هنا خصص غرامشي دوراً مركزياً للايديولوجيا واعتبرها البنية الأساسية للتشكيلة الاجتماعية التي تتوسط العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية للمجتمع، وأعطى أهمية مركزية لدور المثقفين الأعضاء في إحداث عملية التغيير الاجتماعي.(88)
وبذلك كان يرى أن المجتمع المدني ساحة للصراع الثقافي داخل المجتمع الرأسمالي، تمارس من خلاله الطبقة البرجوازية هيمنتها الثقافية، إضافة إلى هيمنتها السياسية. أي أن المجتمع المدني عند غرامشي في الأنظمة الرأسمالية ليس حكراً على الايديولوجية البرجوازية، رغم أهميتها، بل هو مجال صراع مختلف الثقافات، مما يوفر ويعزز استقلالية منظمات المجتمع المدني ودوره في حماية الإنسان العادي من سطوة الدولة، وقدرته على ممارسة التضامن الجماعي في مواجهتها، مما يمكنه الضغط عليها والتأثير في السياسات العامة للدولة. وفي محاولته هذه تطوير مفهوم المجتمع المدني في سياق بحثه عن نظرية للاشتراكية في المجتمعات الغربية، أكد غرامشي على مجموعة مفاهيم محورية: المجتمع المدني: ساحة الصراع الثقافي.. الهيمنة: القناعة والإقناع.. المجتمع السياسي: العلاقة القسرية التي تتجسد في المؤسسات المختلفة لسلطة الحكم.. المثقفون: الفئة المفكرة والمنظمة في طبقة اجتماعية معينة ممن يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها عضوياً. وهنا أكد غرامشي على بناء نظام للتحالفات باعتبارها فكرة جوهرية في مفهومه للهيمنة، بقوله "تستطيع الطبقة العاملة أن تصبح طبقة قائدة بقدر ما تنجح في خلق نظام للتحالفات يسمح لها بتعبئة أغلبية الناس ضد الرأسمالية والدولة البرجوازية. وتستطيع الطبقة العاملة أن تتطور إلى طبقة مهيمنة إذا أخذت في الاعتبار مصالح الطبقات والقوى الاجتماعية الأُخرى، واكتشاف طرق الجمع بين مصلحتها وهذه المصالح الأُخرى". إن ستراتيجية بناء كتلة عريضة سماها "الكتلة التاريخية" من قوى اجتماعية متنوعة توحدها رؤية مشتركة للعالم.. هذه الستراتيجية التي تجسد "حرب المواقع" والثورة هي عملية هيمنة موسعة تقودها الطبقة العاملة باتجاه بناء "كتلة تاريخية" وليست قطعا حادا عند لحظة معينة تنتقل بها الدولة من طبقة إلى أُخرى. بمعنى إنها عملية تدريجية نمطية متصاعدة في إطار مرحلة تاريخية. عليه، فالانتقال إلى الاشتراكية لا يتحقق دفعة واحدة ومن خلال مرحلة واحدة، بل من خلال عمليتين متميزتين متداخلتين: هيمنة الطبقة العاملة، والتحول إلى الدولة الاشتراكية. إذن سيطرة الحزب الشيوعي على المجتمع ثقافياً وايديولوجياً وبلوغ سلطة الدولة شرط محوري لبناء الدولة الاشتراكية.(89)
وهكذا، قدمَّ غرامشي أفكاراً تشكل تحولاً خطيراً في الأدبيات الاشتراكية بنقله نضال الطبقة العاملة من حركة تقوم على الثورة العنيفة اللحظية المفاجئة، كما حدث عند البلشفيك الروس، إلى حركة ثورية ثقافية ايديولوجية سلمية تتحقق في ظل مجتمع مدني مفتوح تسوده علنية النضال. وبذلك تُعتبر آراء هذا الفيلسوف والزعيم الشيوعي الإيطالي مساهمة ضخمة وتطور فكري نوعي بالغ الأهمية في إغناء الأفكار والأدبيات الاشتراكية، والتي لا زالت تنتظر معالجة الكثير من الإشكاليات في سياق التنظير الفكري بالعلاقة مع جهود الأحزاب اليسارية.

2- مناقشة مفاهيمية

(1) الشروط والمتطلبات والمواصفات
هناك اتفاق عام على عدد من شروط هذا القطاع: تعددية اجتماعية متقدمة بضمنها تعددية الطبقات الاجتماعية والمجموعات المهنية (في ظروف مستوى عال من التخصص وتقسيم العمل)، قدر معين من الاستقلال الذاتي للمنظمات غير الحكومية، التسامح الاثني وقبول اختلاف الرأي والمعارضة. تم تأكيد وتطوير هذه الشروط بالارتباط مع حرية الروابط والمنظمات، وحق المعارضة السلمية، وفي سياق عملية طويلة من التغيرات الاجتماعية الشاملة التي تسارعت مع انفجار الثورات ضد المؤسسات التي وقفت حائلاً أمام ازدهار المجتمع المدني. ورغم الظروف الخارجية الموائمة للغرب، فإن الشروط الإيجابية لنمو هذا القطاع تولَّدت بدرجة عالية نتيجة التطورات الاجتماعية الداخلية.(90)
تعتمد ديمقراطية المجتمع المدني، في الأمد الطويل، على فضائل الثقافة الحضارية وجهود المنظمات التطوعية الواعية. ومع أن الرابطة التطوعية ضرورية لكنها ليست كافية لضمان الديمقراطية وتطوير مسيرتها. فبنفس الأهمية أن تكون الرابطة التطوعية المنظمة ذاتياً جزءا واسعاً من التعددية السياسية والاجتماعية، وفي إطار حكومة تعمل على بناء التوازن بين القوى والمصالح الاجتماعية، والأكثر أهمية وجود عقد اجتماعي مؤسسي لتوزيع السلطة باتجاه توفير فرص مشاركة متوازنة وفق المبادئ القانونية وبطريقة تحمي كافة الفرقاء. وبدون مثل هذه القوة المتبادلة المتوازنة فإن روابط المجتمع المدني سوف لا تفعل سوى تسهيل حالات التجزئة. كما أن ربط حركة انتعاش منظمات المجتمع المدني ببنية دستورية، ناجم عن عدم قدرتها ممارسة مهامها الاجتماعية بطريقة سوية في ظل الأنظمة الاستبدادية. من هنا تشكل دولة القانون شرطاً مسبقاً ومحورياً لبناء الركائز الصحيحة لمجتمع مدني متطور ومتقدم.(91)
يرتبط نمو وازدهار المجتمع المدني مباشرة بنمو قيم وممارسات الحضارة الحديثة بما في ذلك مبدأ الفردية، أي التعامل مع الفرد كما هو في شخصه بغض النظر عن انتماءاته. علاوة على درجة التحرك الاجتماعي من الأواصر والعلاقات المعنوية المجردة القبلية- العائلية- الدينية إلى العلاقات والأواصر النفعية- المادية- الدنيوية التي تنتجها المدينة الحديثة.ومن العلاقات الشخصية (العائلية- الأبوية) إلى العلاقات الوظيفية. ذلك أن هذا التحرك الاجتماعي يعني التوجه نحو التخلي عن الأوهام القلبية مثل التفوق والتفاخر والنقاء والتحدي والقوة والانتصار والهزيمة، والنظرة الجامدة الساكنة إلى الحياة العامة اليومية والحضارية، ورفض التغيرات الجديدة. والتحول من القيم الأبوية للحاكم السيد أو الراعي- الرعية إلى سيادة الشعب، وبناء نظام متكامل للحياة تتأسس فيه علاقات إنتاج تتجاوز النمط البدائي الذي يخرج من الريف. وهذه كلها تتطلب نمواً في هوية الدولة الوطنية باعتبارها شرطا أولياً لبناء مستلزمات الحضارة المعاصرة. علاوة على أن ضعف أو غياب سلطة الدولة يقود إلى انتشار الأعراف العشائرية وزيادة اعتماد الفرد على جماعته التقليدية وضمور فكرة الدولة بمفهومها الحديث، مما يؤثر على نظام الحكم نفسه ليتحول نحو النظام العشائري القبلي الذي لا يقوم على حدود دستورية بقدر ما يستند إلى القيم والممارسات التقليدية.(92)
يضاف إلى ذلك أن العلاقات بين المجتمع والدولة لا تقتصر على تلك التقليدية، بل تنمو إلى جانبها علاقات مهمة أُخرى تتقدمها فكرة المواطنة (حقوق الإنسان والحقوق المدنية) والانتماء الطبقي والاجتماعي والمهني والفكري، حيث تسود في الدولة الحضارية، لأِن لها قابلية الحركة والنمو لتتجاوز العلاقات الأُخرى مع تقدم حركة المجتمع، واتساع منظمات المجتمع المدني المعاصرة واستمرار ترسخ دولة القانون، لتقود باستمرار إلى التخفيف من آثار العلاقات التقليدية وضمورها في الأمد البعيد. (قارن:سليم مطر,1997، ص398- 399).
تختلف فكرة التنظيم الذاتي للمجتمع المدني عن التنظيم الذاتي القائم في المنظمات التقليدية. فالقبيلة تنظيم عمودي تضم في عضويتها أفراداً متجانسين على أساس العرق (الدم) وترتبط العضوية فيها بالولادة والنسب. بينما تكون العضوية في منظمات المجتمع المدني مفتوحة لكافة المواطنين على أساس قدرات وكفاءات ومهارات مكتسبة. كذلك تختلف المؤسسة الدينية عن المجتمع المدني في كونها تقليدية عمودية تضم عناصر متجانسة (العقيدة) وتقوم عضويتها منذ الولادة. ورغم أن المؤسسة الدينية تشترك مع المجتمع المدني بواحدة من المواصفات الهامة ألا وهي القيم الإنسانية (المحبة والمساعدة والخيرية..)، إلا أن هناك أيضاً اختلافاً جوهرياً في التعامل مع هذه القيم وتفسيرها. إذ هي معنوية "روحية" وتكون محصورة، على الأغلب، في التعامل داخل الجماعة ويمكن أن تقوم على الازدواجية (حب السلام × استخدام العنف)، في حين يتعامل المجتمع المدني مع هذه القيم بمعناها الإيجابي فقط وبصور شمولية وطنياً وعالمياً.(93)
والمجتمع المدني هو مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الحكومة المباشر، يتصف بالاستقلالية والتنظيم التلقائي وروح المبادرة، والعمل التطوعي، والحماسة لخدمة المصلحة العامة، والخيرية في مجال تقديم المساعدة والدفاع عن حقوق الفئات الضعيفة. ورغم أنه يرفع من شأن الفرد ويؤكد على المذهب الفردي، إلا أنه ليس مجتمع الفردية، بل يقوم على التضامن عِبْرَ شبكة واسعة من المنظمات. ومع انه لا يسعى للوصول إلى السلطة, وبالذات ما يتعلق بالمنظمات المهنية، فهي تقوم بدور سياسي فعلاً وواقعا لأِنها تمارس مهمة تنمية ثقافة الحقوق وثقافة المشاركة بما يدعم قيم التحول الديمقراطي، وهي قيم المسؤولية والمحاسبة، فضلاً عن قيامها بدور أساس في تطوير قاعدة راسخة للثقافة الشعبية وبناء المواطنة الحية المشبعة بالوعي السياسي.(94)
من مواصفات المجتمع المدني:التطوعية voluntary, عدم الربحية (النفع العام)، قطاع مستقل (الاستقلال الذاتي)، التوفيق بين المصالح المتباينة من أجل المصلحة العامة، تجسيد الفردية وحقوق المواطنة, المشاركة الجماعية، المحبة (حب البشرية) والخيرية واحترام الآخر وقبول الاختلاف والتنوع والتسامح واللطف والمساعدة المتبادلة.
وحتى تمارس منظمات المجتمع المدني مهامها بحرية وفعالية فهي تتطلب:حيز مدني space لتجميع المواطنين ذوي الاهتمامات والمصالح المشتركة للتعرف على بعضهم الآخر، مع ضمان حرية مواصلة ما يرونه أنه يقع في صالحهم وصالح المجتمع..حرية التعبير متضمناً نقد السلطة..حق الرابطة ممارسة فعل جماعي، بما في ذلك المظاهرات السلمية.. إمكانية دعم القدرة التأثيرية للمواطن في السياسات والبرامج والمواقف العامة.. حكومة فعالة وحساسة ومؤمنة بِأهمية تأثير الناس في القضايا والمواقف العامة. يطور Robert Putman مجموعة خصائص ومعايير لنوع المجال الضروري في هذا السياق:
* الارتباط المدني، توقع أن الأفراد والمجموعات واعين لمصالح بعضهم البعض.
* درجة عالية من المساواة السياسية باعتبارها المحيط الاجتماعي، حيث تسود العلاقات الأُفقية المتبادلة والتعاون مسبقاً ولتتجاوز العلاقات العمودية.
* أن تتصف الأقاليم المدنية بمستويات عالية من التكامل، الثقة، التسامح، المحبة. كما أن تداخل الحياة المشتركة يقود إلى تطوير قيم التعاون.(95)
يتطلب المجتمع المدني في مفهومه المعاصر "مواطنة فعالة" تشكل أساس المشاركة وبناء المجتمع الطيب. يذكر David Mathews "نحن نتصور أن الجمهور معتمد على حكومة طيبة... لكننا نغفل كم أن الحكومة الطيبة بحاجة إلى جمهور طيب". والنقطة المركزية في المجتمع الطيب good society هي إطلاق الحريات العامة في ظل تأكيد دور القانون، وتحسين مستوى الوعي أفقياً وعمودياً من أجل حماية الناس من السيطرة التحكمية والمصالح الراسخة.
إن الاختلاف الرئيس بين الهياكل السياسية المحتكرة للسلطة وبين تلك المتحررة هو وجود روابط/ منظمات تقوم على التعددية والاستقلال الذاتي بحيث تتباين في المقاصد والأغراض ولتغطي كافة المجالات الاجتماعية. وهكذا يخلق المجتمع المدني جدراناً قوية ضد عناصر الاحتكارات السياسية، حيث تتمتع المجموعات اللغوية بحقوق أفضل ومواطنة أكثر مساواة وفعالية. عليه، تتحدد حيوية المجتمع المدني وفعاليته على أساس التناسب المباشر بين درجة مشاركة المواطن وبين تأثيره. وهذا يتطلب توسيع المشاركة ليزداد تأثيره في محيطه ومصيره. إن تعاظم مشاركة المواطن يولد نتائج أكثر لصالح بناء ديمقراطية فعالة تقوم على: مواطنة فعالة، وحكومة فعالة. ذلك أن الحرية والمساواة اللتان تتواجدان بدرجة رئيسة في ظل الديمقراطية، يمكن إحرازهما فقط عندما يشارك كل الناس على قدم المساواة في الحكومة إلى أقصى حد ممكن.
وتبدأ قائمة التزامات المواطنين، في الغالب، مع التصويت. فكلما زاد حضور المواطنين في الانتخابات والنشاطات السياسية عبّر ذلك عن فعالية المواطنة. وكلما زاد عدد من يتركون الساحة منهم قلّت فُرَصْ المجتمع تحسين النظام الديمقراطي. ولن تكون هناك حياة سياسية نشطة أو فعالة، أو مؤسسات حكومية قابلة للحياة، أو وعي بالسيطرة على المصير المشترك، دون أن تتواجد قاعدة إدراك عامة. وجِدَ تسجيل أثيني يقول "سنناضل إلى الأبد من أجل المثل والأفكار المقدسة للمدينة. سنعمل على نقل هذه المدينة، ليس إلى الأسوأ، بل للأعظم، أفضل وأكثر جمالاً مما كانت عند انتقالها إلينا". وفي محاولة متأخرة تمكن Edward Gibson تشخيص أسباب عدم استمرار الأثينيين على ولائهم لتلك المبادئ والأهداف النبيلة، بقوله "وأخيراً، أرادوا الأمن أكثر من الحرية. أرادوا حياة مريحة... فخسروها جميعا: الأمن، الحياة المريحة، الحرية... عندما توقف الأثينيون عن العطاء لمجتمعهم، بل طالبوا المجتمع بمزيد من العطاء، وعندما رغبوا أكثر من أي شيء بالحرية، ولكن حرية التحرر من المسؤولية، عندئذ توقف الاثينيون أن يكونوا أحراراً".(96)
تشكل الدولة الوطنية الصيغة الاجتماعية الرئيسة لتنظيم المجتمع السياسي. وتتجسد المواطنة في حصول الناس، بغض النظر عن الفوارق الطبيعية والمكتسبة، على نفس الفرصة من المساواة في التعامل أمام القانون في ظل الحريات العامة.
وهذه الحريات تتطلب التنوع بغية خلق فرص حياة أفضل للمجتمع. فحرية الصحافة، مثلاً،تبقى بدون معنى إذا اقتصرت على صحيفة واحدة أو مجموعة صحف تُدار من نفس الجهة، سواء كانت حكومية أم أهلية. لذلك تتحد المواطنة في مفهومها القانوني بما يملكه كل الناس من حقوق مشتركة من أجل أن يكونوا أحراراً. وهذا المعنى يرتبط، وفق المفهوم الليبرالي، بالحقوق السياسية فقط التي تؤكدها المقولة التالية "إن الأرضية التي يقف عليها الناس في مجتمع المواطنة تكون مشتركة للجميع، ولكن البناء الذي يعيشون تحت سقفه يتضمن طوابق عديدة وشققاً وأركان متباينة".(97) وبالمقابل فعند بحثه لمفهوم للديمقراطية بالعلاقة مع دعم الاستقلال الذاتي للمواطن في إطار الحرية والمساواة العامة وارتباطاً بقدرة الناس على محاسبة الحكومة وإعادة تنظيم المجتمع المدني من منطلق المشاركة، ربط David Held الحقوق السياسية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مؤكداً أنه "بدون حقوق اجتماعية واقتصادية راسخة بالعلاقة مع الحكومة، لن تتحقق المشاركة الكاملة، وبدو اعتراف الحكومة بهذه الحقوق فإن الأشكال الجديدة من عدم المساواة في القوة- الثروة والمنزلة يمكن أن يُعكر المضامين الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية الليبرالية".(98)
والمواطنة توفر آلية العيش المشترك وسط التنوع والاختلاف، وتولد جانبي الواجبات والحقوق. ولكن يجب أن لا يُنظر إليهما باعتبار كل منهما شرط للآخر، "وإلا انتهى المجتمع إلى الانحراف والفساد"، كما في مقولة "لا تمثيل بدون ضريبة ولا ضريبة بدون تمثيل". من هنا يتحدد مفهوم "المواطنة الفعالة" بالمواطن المشارك في المجتمع السياسي الذي تقوم نظرته إلى الوطن أكثر من مجرد الحصول على ثماره. أي إعطاء وزن أكبر للواجبات والالتزامات من الإصرار على الحقوق فقط. "لا تسأل ماذا يمكن للوطن أن يفعل لك، بل اسأل ماذا تستطيع أنت أن تفعل من أجل الوطن".(99)
يؤكد James Luther Adams على أن تجزئة القوة power، وتوزيع السلطة authority، أي اللا مركزية decentralization، عنصر جوهري في المجتمعات الصحية.(100) إنه المفتاح المركزي للمجتمع الديمقراطي لكونه الآلية التي تحقق وتصون الحرية. لذا وجب تجزئة السلطة على مختلف مستويات المجتمع من الحكومة المركزية والهياكل الحكومية الوسطية ولغاية الحكومات المحلية. إلا أن هذا الأمر يتطلب وعياً وطنياً حضارياً وبناء حكومة قوية بدرجة كافية لحفظ النظام order. إذ أن الأُمنية الكبيرة في هذا الشأن هي خلق التوازن بين الحرية والنظام. إن مشاركة الناس للسلطة توفر قاعدة صلبة للمجتمعات الفعالة. ويقع في صالح الحكومة إيجاد كل وسيلة ممكنة لتحقيق وتطوير هذه المشاركة. لكن نجاح اللامركزية يدعو إلى تطوير الحكومة المحلية (الكوميونة) المنتخبة، وتهيئة المواطن على نحو أكثر وعياً وإدراكاً لتحمل مسؤولية المشاركة.(101)
وبنفس الأهمية، وكما سبق البيان، تتطلب تجزئة السلطة وجود عقد اجتماعي مؤسسي لتوزيع السلطة بحيث توفر المشاركة المتوازنة في إطار المبادئ القانونية وبطريقة تحمي كل الفرقاء. وبدون مثل هذه القوة التبادلية المتوازنة نسبياً ووجود حكومة قوية ووعي"المواطن الفعال"، فإن رابطة المجتمع المدني لن تفعل، في هذه الحالة، سوى تسهيل عملية التجزئة.(102)
إن مسألة تجزئة السلطة والقوة الحكومية وتوزيعها لصالح اللامركزية تتطلب إبداء عدد من الملاحظات والتحذيرات:
* رغم أن المجتمع المدني يقوم أساساً على بناء حكومة أقل مركزية، هناك حاجة اجتماعية مستمرة لوجود عناصر تتحمل أمانة المسؤولية وإمكانية محاسبتها في ظروف تأسيس نظام حكومي قوي بِأجزائه المترابطة والمتكاملة.
* التنسيق بين المسؤوليات العديدة التي تخص الحكومة وتلك التي هي محل مشاركة الحكومة والمجتمع، تتقدمها الخدمات العامة والمساعدات الإنسانية.
* في ضوء مشاركة وتنسيق الحكومات المحلية مع المنظمات غير الربحية، تبقى واحدة من المشكلات المقلقة هي عدم الرضاء بسبب ضعف فعالية الحكومة وحصيلة الديمقراطية. إذ تكون المخاطرة عالية عندما يلمس جمهور الناس أن الديمقراطية تحولت إلى أسعار أعلى، بطالة أوسع، دخول واطئة، وتراكم أرباح الأقلية، إلى جانب الفساد الخلقي وتزييف الانتخابات تحت غطاء التحضر. إذن، لماذا التصويت إذا كانت هذه هي النتيجة؟ بل في الواقع، لماذا الديمقراطية أصلاً؟(103)
كما وأن المجتمع الصحي يخفف بدوره من غُلّة السلطة والقوة، وتحد من شهوة عناصر الحكم تحقيق مزيد من السلطة, وتعمل منظمات المجتمع المدني مع اتساعها في مجال الخدمات العامة والشؤون الاجتماعية على سحب أجزاء متزايدة من سلطة الحكومة، وتوفر في سياق العلاقات الإنسانية والمساعدة المتبادلة ونشر الثقافة الوطنية الواعية وقيم التسامح والمحبة،سياجاً لحماية الوطن والديمقراطية.(104)
والمجتمع المدني يتصف بالاستقلال الذاتي، لكن ذلك لا يدعو إلى اعتبار منظمات هذا القطاع في خصومة مع الحكومة، بل أن التعاون وبناء الثقة مسألة مطلوبة لسلامة أداء هذه المنظمات وكسب مزيد من السلطة والقوة. يضاف إلى ذلك أهمية عدم التصرف بما يشين سمعة هذه المنظمات في ممارساتها وسجلاتها. "هؤلاء الذين يفترضون أنهم يخدمون الصالح العام، المطلوب منهم كسب ثقة جمهور الناس".(105) كما وتتطلب ديمقراطية المجتمع المدني حكومة معاصرة لأِن الديمقراطية في شكلها المعاصر تعتمد أفكاراً وقيماً حضارية تقوم على الحرية والمساواة بين المواطنين. وحتى تستمر هذه الأفكار متطورة فهي تتطلب أن تعيش في ظل مواطنة واعية وحكومة قادرة على حماية الحقوق بالعلاقة مع كافة أجزاء الدولة- المجتمع.(106) وهنا تقدم تُقدم الاقتصادية الاجتماعية Estelle James في بحثها أربعة شروط للمجتمعات التعددية بالعلاقة مع درجة قوة وسلوك المجتمع المدني:
* تواجد العديد من الديانات المختلفة مع توفر حرية تعبير دينية مستقلة وفرص للمجموعات الصغيرة الالتقاء وتبادل الأفكار.
* التباين السكاني متضمناً العديد من الأصول الاثنية المختلفة، مما يخلق احتمال النظر إلى القضايا المجتمعية من وجهات نظر مختلفة.
* حكومة لا مركزية تقوم على تجزئة السلطة/ القوة بين المستويات الحكومية المحلية والحكومة المركزية.
* أصحاب الثروة ليسوا أنفسهم المسيطرين على الحكومة. أي استقلال السياسة عن المال باتجاه العمل الحكومي بعيدا عن التأثر بالمصالح الراسخة للأقلية الغنية على حساب الصالح العام.(107) وهو أمر ينكره واقع الأنظمة الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، كما سيتبين لاحقاً.
(2) الأهمية والأهداف والوظائف
يهدف المجتمع المدني إلى تطوير مشاركة المواطن في الرقابة على شؤون الحكومة, ليس فقط أثناء الانتخابات العامة الدورية, بل أن تكون المشاركة يومية مستمرة. يقول توماس جيفرسون: أين كل مواطن مشارك في شؤون الحكومة, ليس فقط في الانتخابات ليوم واحد في السنة, بل كل يوم..."المواطن المستعد لأنِ، يتمزق قلبه, على أن تُسلب منه سلطته من قبل قيصر أو بونابرت".(108) يضاف إلى ذلك تعزيز مصالح المجتمع في مواجهة المصالح الراسخة والعلاقات الشخصية الموجهة لدعم الظهر على حساب المصلحة العامة. كما ويهدف إلى نشر قيم المحبة "حب البشرية" philanthropy من خلال الفعل المشترك وتقديم خدمات النفع العام. علاوة على تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم، وكذلك دوره في نشر ثقافة المبادرات الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، وثقافة الإعلاء من شأن المواطن والتأكيد على بناء إرادة الناس وجذبهم إلى ساحة الحياة العامة والمشاركة الجادة في صنع القرار.
من هنا تبلورت مجموعة واسعة من الوظائف لهذا القطاع في سياق تطوير الحريات العامة ومسيرة الديمقراطية وتعميق النسيج الاجتماعي, تم تلخيصها في خمس مجموعات: تجميع المصالح والتوفيق بينها ببلورة مواقف جماعية من القضايا التي تواجه أعضائها وتمكنهم من التحرك لحل مشكلاتهم الجماعية من خلال منظماتهم المهنية.. مواجهة الصراعات بالبحث الجماعي عن حلول توفيقية لمعالجة النزاعات الداخلية بين أعضائها بوسائل سليمة وتجنب اللجوء إلى المؤسسات الحكومية المعنية، وتوفير الوقت والتكاليف.. تعزيز التنمية المجتمعية من خلال المساهمة الفعالة ببناء رأس المال الاجتماعي، علاوة على نشاطاته التعاونية.. إفراز القيادات الجديدة بالعلاقة مع نشاطاتها الديمقراطية.. نشر ثقافة حضارية. وهي في مجملها تجعل من المجتمع المدني مفتاح الديمقراطية ومدرستها .(109)
ما هي علاقة المجتمع المدني بالمجتمع الرأسمالي؟
تنطلق فكرة المجتمع المدني من أن النظام الاقتصادي الرأسمالي المعاصر لا يضمن مجتماً إنسانياً يقوم على المحبة واللطف والتعاضد، بل ينتج ما هو مصطلح عليه بلغة ماركس"الاستغلال" المولد للحقد والتنافر والتناقض والصراع. من هنا يوفر المجتمع المدني مجالاً سلمياً لتقليص الفجوة بين المساوئ التي تتولد عن هذا النظام وبين العلاقات الإنسانية للتحضر (التمدن). عليه، فرغم النظر إلى المجتمع المدني كونه ملاصقاً بشكل اوتوماتيكي لمنطق النظام الرأسمالي إلا أنه ليست هناك علاقة ملازمة بالضرورة بين الرأسمالية والتمدن. الأكثر من ذلك أن المجتمع المدني لا يعني بذاته الحرية والديمقراطية، بل أنه مجتمع إنساني حضاري يرنو إلى أن يجعل من الحرية والديمقراطية أمراً واقعاً ونافعاً ومرغوبا في إطار المعاصرة. من هنا يعتبر المجتمع المدني قيمة عليا مؤهلة لتجسيد المجتمع الإنساني المتحضر.(110)
ومن هنا أيضاً أصبح المجتمع المدني في عناصره وأهميته وأهدافه حاضنة واسعة للحياة الاجتماعية بمختلف هيئاتها وفروعها وممارساتها. ومن المسائل التي تجد اتفاقا واسعاً هي أن المجتمع المدني يمثل محاولة للاقتراب من بناء التوازنات بين المصالح الخاصة المتباينة وبين المصلحة العامة.(111) ويخلق الفرص أمام الفرد لتجسيد ذاته. وهذا يعني أن يكون متطوعاً مشاركاً متفاعلاً في حياته الاجتماعية. ويرتبط بذلك أن المجتمع المدني هو المجال الذي يسمح ويقبل، بل ويشجع على الاختلاف ويوفر للفرد العيش وسط التنوع وحل التناقضات سلمياً، على خلاف الأنظمة الاستبدادية التي تعمق التناقضات الاجتماعية في ظروف احتكارها لمنظمات المجتمع المدني أو تصفيتها.(112) كما ويمارس هذا القطاع دوراً رقابيا على مسيرة الحريات وضمان صيانتها وتطويرها، ويعمل على ضبط ممارسات الحكومة وتحمل مسئوليتها القانونية في إطار من التعاون والثقة. ومن جهة أُخرى يوفر قاعدة ثقافية سياسية حضارية. من هنا فإن تنمية المجتمع المدني هو مفتاح بناء النظام الديمقراطي. وباعتباره مفتاح الديمقراطية فهو يوفر أفضل طريق لنشر المحبة والتعاطف والمساعدة المتبادلة والخيرية وتقديم الخدمات العامة وتنمية النواميس والقيم الحضارية في مجال العلاقات الإنسانية، ويوفر أساسا ثقافياً لبنية المنظمات الديمقراطية. يناقش Putman ذلك باعتبار أن مشاركة المواطنين في المجموعات المؤسسية تولد علاقات التعاضد وحل معضلات العمل الجماعي وتجسيد وتوسيع الكينونات الاجتماعية لتساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تعزيز النسيج الاجتماعي social cohension والتحول الديمقراطي.(113)
يذكر أحد أنصار المجتمع المدني بقوله: عند معرفة المساهمة التي قدمها المجتمع المدني لأمريكا خلال تاريخها، يكون من الصعب عدم القناعة بِأن بناء المجتمع المدني مهمة تستحق الإنجاز. وبذلك يحتل المجتمع المدني أهمية جوهرية لبناء قيم التمدن بالعمل مع خلق ظروف تحقق الديمقراطية من خلالها وظائفها بطريقة صحيحة.(114)
وتنتشر أعداد منظمات المجتمع المدني بالآلاف والملايين في البلدان الغربية وتقوم على التمويل الذاتي أساسا. والجدير بالإشارة هنا، تتواجد في السويد ما لا يقل عن ثلاثين ألف صندوق معونة خيرية أهلية تغطي مختلف جوانب حياة المجتمع. هذا عدا آلاف الروابط والمنظمات والصحف والمجلات في حين أن سكان السويد بحدود التسعة ملايين نسمة. يضاف إلى ذلك أن إنشاء منظمة نفع عام- مهنية أو سياسية- يمكن أن يتحقق باتفاق خمسة أشخاص.
تشير أحداث "ضريبة الرأس" Poll Tax التي تفجرت في بريطانيا وأثارت عاصفة واسعة من الاحتجاجات، إلى الدور المؤثر لهذه المنظمات. إذ كانت هذه الضريبة تدفع للبلدية على أساس حجم البيت، بمعنى كلما كان البيت كبيراً زادت الضريبة. وفي عهد حكومة "تاتشر" تم تعديل القانون متضمناً ربط وعاء الضريبة بعدد الساكنين في البيت بدلاً من حجمه. وهذا ما أدى إلى تحويل عبء الضريبة من أصحاب الدخول العالية إلى أصحاب الدخول الواطئة.هنا برزت منظمات المجتمع المدني في بريطانيا ومارست دوراً محورياً في تحريك جمهور الناس من خلال إصداراتها وتجمعاتها ومظاهراتها وتنفيذها العصيان المدني بعدم تنفيذ القانون الجديد. وهذه الممارسات خلقت ضغوطاً ثقيلة على الحكومة بحيث أجبرتها على تعديل القانون المذكور مرة أُخرى من قبل البرلمان بالعودة تقريباً إلى نفس القانون القديم.(115)
ما هي العلاقة بين الديمقراطية وبين المجتمع المدني؟ هل أنهما مترادفان؟ وهل يعيش أحدهما في غياب الآخر؟ أم أنهما وجهان لعملة واحدة؟
رغم ضرورة المجتمع المدني للديمقراطية إلا أنه ليس مرادفاً لها. الأمر المهم هو الديمقراطية أولاً ثم المجتمع المدني،مع ملاحظة أن قدرة المجتمع المدني أكثر تأثيراً وفعالية في خلق الازدهار وتطوير الديمقراطية والعكس صحيح. أي علاقة متبادلة دون أن يتحمل أحدهما إلغاء الآخر. بكلمات أُخرى إنهما متكاملان وليسا متنافسين. وتأتي أولوية الديمقراطية في كونها توفر البيئة المؤسسية (الحكومة الدستورية- الديمقراطية) لبناء المجتمع المدني المعاصر. من جهة أُخرى فإن وجود منظمات المجتمع المدني ليس دليلاً على وجود أو عدم وجود الديمقراطية. ففي السعودية مثلاً تنمو هذه المؤسسات (عند اعتبار مؤسسات الأعمال جزءاً منه) في غياب الديمقراطية، بينما تتصف الديمقراطية في اليابان بضعف منظمات المجتمع المدني. المهم، أن وجود النظام الديمقراطي شرط لبناء الأُسس المؤسسية الدستورية التي تشكل الأرضية الأساسية لازدهار المجتمع المدني. لكن الديمقراطية في غياب المجتمع المدني تقوم على خط واحد من القمة إلى القاعدة top- down. وفي وجود المجتمع المدني عندئذ يتحقق بناء الخط الآخر من الأسفل إلى القمة bottom-up, وبذلك تسير عملية التحول الديمقراطي وفق خطين متوازيين متكاملين.(116)
تتجسد علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية في مجالات عديدة ، فالديمقراطية تتطلب المشاركة المنظمة الواعية المستمرة، يضاف إلى ذلك أن الحاجة الاجتماعية تتطلب توجيه وتسيير مؤشرات الديمقراطية من القاعدة إلى القمة بدلاً من اقتصارها على خط واحد (من الأعلى إلى الأسفل). هذه الحركة التصاعدية التي تقترن بمنظمات المجتمع المدني. من هنا حق القول: أن تنمية المجتمع المدني هو محور بناء الديمقراطية. وتظهر هذه العلاقة أيضاً في أحد الأركان الرئيسة للمجتمع المدني:حق الاختلاف في الآراء والعيش وسط التنوع، أي التعددية التي هي في ذاتها إحدى الأعمدة المركزية للديمقراطية بما توفرها من آلية سلمية لإدارة الخلافات والصراعات المجتمعية بكافة أشكالها. يضاف إلى ذلك، وارتباطاً بالحياة الديمقراطية الداخلية لمنظمات المجتمع المدني فهي تمارس دور مدارس سياسية للتنشئة على الديمقراطية، وحاضنة للديمقراطية، وهيئات تثقيفية وتدريبية، ومخزناً لا ينضب للقيم الديمقراطية المغذية للمجتمع وتوفير أجيال من العناصر القيادية لمختلف الهيئات المؤسسية في الساحة السياسية بما فيها الأحزاب والحكومات المحلية (الكوميونات) وهيئات الحكم (البرلمان). من هنا حق النظر إلى المجتمع المدني كونه دعامة underpinning الديمقراطية.(117)
(3) مفهوم المجتمع المدني
بدأت فكرة المجتمع المدني نسمة سياسية حضارية منعشة اتُخِذت من قبل النشيطين أنصار الحرية شعاراً للديمقراطية والحقوق المدنية، واحتُضِنَت من قبل المفكرين والمجموعات السياسية المختلفة، واعتُبِرَت في أوربا الأكثر ملائمة لليسار، حيث حاول الماركسيون بناء نظرية اجتماعية حركية (ديناميكية) لليسار من خلال هذا المفهوم. واستُخدِمت في الولايات المتحدة من قبل السياسيين لتحسين برامجهم الانتخابية، وبالنسبة إلى المفكرين من اليمين والليبراليين، وحسب F.Hayck، أصبح المجتمع المدني يعني شرعية تقليص أجزاء من سلطة الحكومة وتعويضها بمؤسسات وسطية تقوم على التطوعية الاجتماعية، وارتبطت بالنسبة إلى العديد من الليبراليين بالحركات الاجتماعية خارج إطار الحكومة. وكل هؤلاء تعاملوا مع الفكرة وفق مفاهيمهم وتفسيراتهم المتباينة واستثمروها بما يتفق مع أفكارهم ومعتقداتهم ومصالحهم وخرجوا منها حسبما يرغبون ويشتهون. لقد فُسِّر مفهوم المجتمع المدني بالعلاقة مع كل شيء بدءاً بالتعددية الاجتماعية- السياسية وحقوق الإنسان والتطوعية والخدمة العامة ولغاية الفردية والحيوية الاجتماعية والمواطنة الفعالة وتجزئة السلطة والمشاركة الاجتماعية- السياسية.. وبذلك اتخذ هذا المفهوم عِبْرَ مسار تطوره دلالات مختلفة وصوراً ومعاني متباينة وفق المنظور الفلسفي والفكري والعقائدي والذاتي الذي عومل به وفُسِّر على أساسه.(118) وهنا يتساءل البعض: هل كانت الفكرة أصلاً مثالية نبيلة أم إمكانية واقعية؟ وهل كانت ضرورية؟ وهل تضمنت أي جديد أبعد مما هو متداول في حقل الحرية والديمقراطية؟(119) وهكذا، فرغم أن المجتمع المدني أصبح فكرة واسعة الانتشار إلا أنه لا زال ضبابياً.(120) بل وحسب Benjamin Barbar، كلما زاد استخدام لفظة المجتمع المدني في السنوات الحديثة، أصبح أقل وضوحاً.(121) من هنا يصعب الوقوف عند تعريف محدد يحظى بالاتفاق العام.
والمجتمع المدني ليس مفهوما معيارياً "ليست هناك قوة منطقية في مفهوم المجتمع المدني". والأكثر من ذلك أن هذا القطاع لا يطرح أي دور محدد أو يرسم علاقة معينة مع الحكومة. إنه مستقل عن الحكومة ولكنه يمكن أن يتداخل معها أو يعتمد عليها. وهذا المفهوم الفضفاض يبدو واسعاً ويدفع البعض إلى الحكم بِأنه غير مؤهل كقاعدة ديمقراطية. مسألة خلافية أُخرى تتمثل في علاقة المجتمع المدني بالمجتمع السياسي (الأحزاب السياسية والمجموعات الأُخرى التي تحاول بوضوح كسب السيطرة على السلطة الحكومية). هناك من يرى أن الخط الفاصل بين المفهومين غير واضح. ويرى آخرون أن الحركات والمجموعات السياسية تشكل جزءاً من المجتمع المدني لأِنها تلعب دوراً فعالاً في دعم الديمقراطية، حيث يعمل المجتمع المدني بنفس الخط. يُضاف إلى ذلك أن اعتبار المنظمات السياسية جزءاً من المجتمع المدني، على الأقل، في بلدان الوطن العربي كجزء من العالم الثالث، يستمد مبرراته من إنها محرومة من تداول السلطة فيها. كذلك يتساءل عدد من الكتاب العرب عن مدى ملاءمة المفاهيم الغربية المطروحة لتحديد هذا المفهوم، خاصة ما تعلق باستبعاد المؤسسات الدينية والمجموعات القبلية والاثنية، رغم أنها أعمدة رئيسة في المجتمعات العربية وعامة دول العالم الثالث.(122)
تُعرِّف أغلب المدارس المجتمع المدني كونه حيزاً أو فضاءً يقع وسطاً بين الحكومة والأفراد، يطل ويراقب الدور الرئيس الذي تمارسه الحكومة لصيانة الحقوق والحريات الأساسية. كما أضاف عدد من الكتاب قطاع الأعمال والمشروع الحر لكونه عنصراً حيوياً في تنمية وتفعيل المجتمع المدني.(123) والمجتمع المدني شبكة منظمات مستقلة ذاتياً تتواجد على المستويات المحلية والوطنية والدولية، تمارس دوراً كبيراً في ضمان السلام والأمن بمفهومه الواسع.(124) وتشكل منظماته حلقات وصل بين العائلة والحكومة، وتوفر للمواطن فرص بناء الديمقراطية وتعزيز العلاقات الإنسانية ودعم الحوافز الاجتماعية والاقتصادية، وبذلك فهي مفتاح تحقيق التوازن بين المصالح الخاصة والدعم الاجتماعي.(125) والمجتمع المدني يشير إلى المنظمات المنشأة ذاتياً التي تغطي المجال العام للمجتمع، ملتزمة بمجموعة قيم ونواميس مشتركة تشكل منطلقاً للأفراد والجماعات في متابعة المصالح المتنوعة. وهذه المنظمات تقوم في إطار قاعدة قانونية تنظم المصالح المتداخلة. ويتضمن هذا التعريف أن المجتمع المدني يقوم على قواعد مؤسسية منظمة اجتماعياً، وهو يوفر ناد مستقر للتعبير عن المصالح المختلفة والتوفيق بينها.(126)
وهناك من يأخذ في اعتباره المنظمات التقليدية والحديثة في تحديده لمفهوم المجتمع المدني بكونه "مجموعة مؤشرات وعناصر مترابطة ومتبلورة في علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ناجمة عن تفاعل قوى ومكونات المجتمع التي تقوم إما على أُسس موروثة كمعايير القرابة (الأُسرة, العشيرة, القبيلة) أو على معايير الأصل والعرق (السلالة والعنصر) أو معايير دينية (المذهب، الطائفة، الطريقة) أو أُسس انجازية وفق معايير القدرات والمهارات والتعليم والدخل والإنتاج".(127) أما أهم مؤشرات اعتبار هذه القوى من مقومات المجتمع المدني, وفق هذا التعريف, فهو درجة وعي أعضائها ووضوح الأهداف والأساليب المستخدمة لبلورتها، إضافة إلى التجانس والتضامن الداخلي وتبني الوسائل السلمية لحل الصراعات والتناقضات (الوعي بالديمقراطية). وأن عملية بناء المجتمع المدني ترتبط بخصوصيات بنيته السياسية والاجتماعية والثقافية.(128)
وأخيراً،فإن واحداً من المساهمين البارزين في أدبيات الديمقراطية والحريات العامة في الوطن العربي، وهو الدكتور سعدالدين ابراهيم- الذي نزل (ضيفاً) في سجون (النظام الديمقراطي المصري), يحدد مفهوم المجتمع المدني كونه "مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأُسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف". وتشمل هذه التنظيمات كلاً من الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية والتعاونيات، بمعنى كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي (وراثي). وهذا التعريف يتضمن ثلاث مقومات (أركان) محورية: الفعل الإرادي، التنظيم الجماعي، الركن الأخلاقي أو السلوكي. فالمجتمع المدني يتكون بالإرادة الحرة لإفراده، وهو غير الجماعة القرابية مثل الأُسرة والعشيرة والقبيلة، حيث لا دخل للفرد في عضوية هذه المنظمات، لكونها مفروضة عليه بحكم المولد أو الإرث. وهو غير الدولة التي تفرض جنسيتها أو سيادتها وقوانينها على من يولدون و/ أو يعيشون في أرضها. فهو تنظيم جماعي يضم أفراداً اختاروا عضويتهم بمحض إرادتهم. إنه الأجزاء المنظمة من المجتمع. وهو مجتمع العضوية: أحزاب، نقابات، اتحادات، غرف تجارية وصناعية وتجارية، تعاونيات، جمعيات وروابط.(129)
والخلاصة، فإن مفهوم المجتمع المدني، كما هو حال مفهوم الديمقراطية، ليس مصطلحاً علمياً يمكن بالتالي تعريفه بصورة منهجية، بل هو مجرد تعبير لغوي. وحتى في هذه الحالة، يكتنفه الكثير من الغموض من حيث شموليته وشروطه ومتطلباته وأهدافه ووظائفه الشاملة وغير المحدودة. وبالنتيجة فهو قابل لتفسيرات مختلفة حسب وجهة نظر الباحث وارتباطاته الفكرية والفئوية والطبقية. من جهة أخرى، فإن كل مجتمع يمتلك قدراً من القيم والتقاليد بالعلاقة مع قيم المجتمع المدني والديمقراطية والتي يمكن تطويرها وتهذيبها باتجاه التحديث والمعاصرة. والمسألة الثالثة هي أن المجتمع المدني ليس قالباً جاهزاً يمكن استيراده وإقامته، بل أنه جملة أفكار وقيم وممارسات قائمة في كل مجتمع حسب مرحلة تطوره، وهي تتطلب إنهاضها وفق بنية مؤسسية دستورية- قانونية متوافقة مع ظروف المجتمع ليُصار إلى تطويرها بالتوافق مع المسيرة الديمقراطية في سياق عملية ممتدة. والمسألة الرابعة أن المجتمع المدني ليس حكراً على الدول الرأسمالية المتقدمة، أو الديمقراطيات الليبرالية الغربية، بل هي آلية يمكن أن تجد تطبيقاتها في الأنظمة الاجتماعية المختلفة، كل حسب ظروفه ومرحلة تطوره، ومستوى تطبيقاته المؤسسية.
عليه، فليس هناك من مبرر لتجريد المجتمع المدني من مهامه الاقتصادية والتعامل معه من وجهة نظر سياسية عارية فقط. فحتى في الظروف الاعتيادية لممارسات منظمات المجتمع المدني، فهي تغطي جوانب اقتصادية عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: مراقبة الأسعار وحماية المستهلك وتشجيع الإنتاج الوطني.. مراقبة قوانين الضمان الاجتماعي والعمل على تطويرها.. بناء ونشر التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية.. العمل المتواصل من أجل تقليص فجوة الدخل- الثروة..
من هنا يمكن النظر إلى المجتمع المدني في مفهومه المعاصر ومواصفاته وأهدافه بِأنه يعبر عن رسالة اجتماعية من القيم والأفكار والممارسات الحضارية المساهمة في البنية التحتية للمسيرة الديمقراطية، ويقوم على مبادئ التطوعية والاستقلال الذاتي والمواطنة الفعالة والمشاركة العاملة على التوفيق بين المصالح الخاصة المتباينة من أجل الصالح العام، وفي ظل حكومة عصرية ديمقراطية لا مركزية تتحمل المسؤولية والمحاسبة. وبما يؤدي إلى بناء وتحسين رأس المال الاجتماعي. وفي سياق إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية على أساس الالتزام بالعلنية والقناعة النسبية والتعددية الاجتماعية والتعامل السلمي. ويضم مجموعات من منظمات النفع العام التي تقوم العضوية فيها أُفقياً.
المجتمع المدني وفق هذا التوصيف لا يعني كل أفراد المجتمع من العناصر المدنية، بل ينحصر فقط في العناصر الواعية الفعالة المنظمة من المواطنين. وينقسم إلى جزئين : أولهما المجتمع المدني المهني بما يضم من روابط ومنظمات لا تتعامل مع السياسة مباشرة، وتشكل الجزء الأكثر التصاقاً مع مفهوم ووظائف المجتمع المدني.. وثانيهما المجتمع المدني السياسي الذي ينحصر في المنظمات السياسية الهادفة إلى كسب السيطرة على الحكومة أو المشاركة فيها أو ممارسة دور المعارضة. ولا تدخل في منظمات المجتمع المدني تلك التي تقوم العضوية فيها وفق أسس تقليدية عمودية مثل العشيرة- القبيلة، الطائفة- المذهب، والمنظمة الدينية. رغم أن هذا لا يعني إهمالها أو محاربتها، طالما تشكل الأغلبية في المجتمعات التقليدية، بل الاعتراف بها ورعايتها ونشر القيم ولأفكار والممارسات الحضارية بينها على طريق تحييدها وتطويرها لتتحول تدريجياً من منظمات طاردة للقيم والأفكار الحضارية إلى حاضنة لها أو متعايشة ومتكيفة معها، على الأقل.

(4) هيكل المجتمع المدني
يوصَف المجال الذي يغطيه المجتمع المدني بٍأنه يقع ما بين الحكومة والفرد، أو ميدان مشاركة وسطية بين الحكومة والعائلة، متضمناً كافة المنظمات التي لا تستهدف الربح. لكن هناك من يرى أن هذا الوصف يعجز عن توضيح مرض لدور المواطنين بالعلاقة مع الحكومة، ودور الحكومة في تعزيز الحريات، وكذلك مثل هذا الدور لحل الغموض المتعلق برجال الأعمال.(130)
يضم مجال المجتمع المدني مجموعة هياكل مؤسسية محورية تساهم بمجموعها في إدارة شؤون الناس من واجبات وحقوق اجتماعية بمعناها الشامل. فهل هناك قطاع معين يمكن اعتباره ممثلاً للمجتمع المدني؟ أم أن كافة القطاعات تُساهم، كل حسب موقعه، في بناء المجتمع المدني؟ وهل أن المجتمع المدني مجرد مؤسسات ومنظمات و/ أو حيز وفضاء؟ أم قيم اجتماعية حضارية؟
يُصنف هيكل المجتمع المدني إلى مجموعة هياكل فرعية تتمثل في:(131)
* الفرد،يبدأ المجتمع المدني مع الفرد باعتباره الكينونة الأصيلة في المجتمع. ضرورة التأكيد على التوازن بين الواجبات والحقوق، والاعتراف بمصالح الأفراد والجماعات قبل التحرك نحو المصلحة العامة. وتتلخص السمات الفردية في: الذات، الحياة الشخصية، المجال، المعتقدات، تنوير ثقافي للمصلحة الذاتية الذي يقود إلى الاعتبارات والأفعال والممارسات المشتركة، التعامل المتحضر مع الذات والآخرين وتوقع التعامل المماثل من الغير.
* الكوميونة، لها علاقة ملاصقة بحياة الفرد. ذلك أن عناصر الحياة الخاصة في الديمقراطيات الليبرالية الغربية تعتمد على بيئة خدمات شاملة تهم حياة الفرد (النوادي، المتحف، المدارس، المستشفيات، الروابط..)، ترتبط بالكوميونة وتعتمد على الأداء الجماعي. فهي تتعامل يومياً مع القضايا الحياتية لمجتمعها المحلي: تقديم خدمات أساسية، التأهيل وإعادة التأهيل، التعامل بلطف واحترام ومحبة وكياسة، حماية الفرد، توفير فرص التنمية البشرية, توجيه الفرد بناء شخصيته المستقلة. بل أن الأهداف والممارسات الاجتماعية للكوميونة تتقاطع مع كل الجوانب المتعلقة بحياة مواطنيها من المهد إلى اللحد. وهذه بعض سمات الكوميونة: العائلة ،الجيران، الحضانة والطفل والأُم، المدارس، المستشفيات، المنظمات والروابط، البطالة والتشغيل،المرض والشفاء والاستجمام، الثقافة والفنون، التعامل المتحضر وحب البشرية.
* الحكومة، وهي العنصر الثالث المكون لهيكل المجتمع المدني، طالما هناك اتفاق عام على اعتباره الحيز/ الفضاء القائم بين الفرد/ العائلة وبين الحكومة. ويجد هذا تبريره في أن أي تطوير للمجتمع المدني وممارساته لا بُدَّ أن يتضمن المشاركة الفعالة للمواطنين في الحكومة الديمقراطية، والدور الأساس للحكومة في توفير وحماية هذه المشاركة. ورغم أن غالبية الممارسات الحكومية لا تدخل في مواقع المجتمع المدني مثل الجيش والسياسة الخارجية.. إلا أنه حتى هذه الوظائف هي في النهاية مرتبطة بالحرية وتكافؤ الفرص. من هنا تلعب الحكومة دوراً جوهرياً في وجود ونوعية المجتمع المدني لكونها مسؤولة عن توفير وضمان الحريات والخدمات العامة وحمايتها وتطويرها. وهذه بعض جوانب الممارسات الحكومية في هذا المجال: المواطنة، الحرية، الحقوق، المحاكم، الأمن، التعليم، الاقتراع، الانتماء إلى الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية، إطاعة القوانين (ضبط النظام)، دفع الضرائب، الكياسة في التعامل مع المواطن.
* قطاع الأعمالBusiness، يشكل شريكاً آخر في هيكل المجتمع المدني ويمكن أن يكون أحد المصادر المهمة لتغذيته بالتبرعات (الأعمال الخيرية) التي تؤدي، على الأقل، وظيفتين: تعظيم الإمكانات الاجتماعية، ومساعدة الناس المعوزين. كما أن العلاقة بين المؤسسة التجارية والمستهلك (المواطن) تتطلب بالدرجة الأوُلى ممارسة الكياسة، أي التعامل المتحضر مع الزبون (اللطف والاحترام والمحبة والثقة) إذا ما أرادت تحقيق نجاح تجاري طويل الأمد. وهذه بعض سمات قطاع الأعمال التي تشارك المجتمع المدني: المشروع الحر، توفير العمل، التأثير في السوق وحرية الاختيار، اتحادات مهنية، المسؤولية الاجتماعية، الأعمال الخيرية، التعامل المتحضر.
*القطاع التطوعي، يحتل القطاع المستقل ذاتياً عن الحكومة وغير الهادف للربح المكانة الأكثر مركزية في تحديد مفهوم المجتمع المدني ووظيفته وهيكله. ومع ذلك فليس كل شيء في عالم القطاع المستقل هو جزء من المجتمع المدني. بل وليست منظمات القطاع التطوعي كلها صحية، فهناك منظمات تخدم أفكاراً لا إنسانية (العنصرية، الإرهاب، العنف..). وعموماً يتميز القطاع التطوعي عن بقية المؤسسات بِأنه الأكثر تمثيلاً للمجتمع المدني. وحسب Franklin تستحق الروابط التطوعية أن تسمى بـ "القطاع الأول" لكونها جوهرية في نشر القيم الحضارية للمجتمع المدني, وخلق قوة مدنية سلمية من خلال المشاركة. ويقول Alinsky "يتحقق التغيير من خلال القوة، والقوة تأتي من التنظيم. ومن أجل المباشرة بالفعل يجب على الناس أن يتجمعوا مع بعضهم". وهذه بعض سمات القطاع التطوعي بالعلاقة مع المجتمع المدني: المتطوعون، روابط ومنظمات النفع العام, النوادي، مجالس المدارس والمستشفيات، المنظمات والهيئات الخيرية (مثل الهلال الأحمر)، والحركات الإنسانية (مثل مراكز حقوق الإنسان)، التعامل المتحضر.
أين موقع المجتمع المدني في هذه الهياكل الاجتماعية؟
إذا قبلنا بتحديد المجتمع المدني على أساس مؤسسي، فإن منظمات القطاع التطوعي هو الأكثر قُرباً لهذا المجتمع. لكن المجتمع المدني، من زاوية أُخرى، ليس مجرد بنية مؤسسية، بل والأكثر أهمية وجوهرية أنه يقترن بمجموعة قيم وممارسات حضارية تشكل الدعامة والقاعدة في مجال التعامل المجتمعي في ظل الحريات والديمقراطية. باختصار، أن المجتمع المدني هو في جوهره رسالة اجتماعية أكثر من كونه حيزاً أو فضاءً أو منظمات في مساحة محدودة من المجتمع.(132) من هذه الزاوية يمكن تصور المجتمع المدني نقطة وسطية تشكل بؤرة مركزية لتقاطع مختلف الهياكل المؤسسية في المجتمع بما فيها الكوميونات والحكومة وقطاع الأعمال والقطاع التطوعي المستقل ذاتياً. حيث تتجمع هذه المؤسسات مع بعضها لاحتضان وحماية الفرد وضمان الفرص المتساوية للحريات العامة للأفراد الذين يعملون في نفس الوقت من أجل حماية هذه الفرص والدفاع عنها وتطويرها.
عليه، يمكن تمثيل هيكل المجتمع المدني بنجمة تتولد من وضع كافة القطاعات في حاضنة مشتركة. وتعبر النقاط (قيم المجتمع المدني) عن إشعاعات ناجمة عن تأثيرات المواطنين على كافة أجزاء المجتمع. وتكون هذه التأثيرات متبادلة ومتفاعلة ومتطورة وبما يؤدي إلى تحسين ممارسات الحكومة والأفراد وكافة الهيئات الاجتماعية. وهو ما يُطلق عليه"شؤون حقوق المواطنين" أو "شؤون الحقوق المدنية للمواطنين".(133)


(5) مشكلات المجتمع المدني
ظاهرة اتساع هذا القطاع ليكون مجالاً لكافة المواطنين، وليغطي في وظائفه وأهدافه كافة القطاعات والمؤسسات المجتمعية، وليشمل في قيمه وأفكاره وممارساته كل مناحي الحياة، في حين أنه يتسم بصغر حجمه ورخاوته vulnerable حتى في أكثر البلدان الديمقراطية الليبرالية المتقدمة.. هذه الظروف تضعه أمام مشكلات جمة. وتجعله القطاع الأكثر سهولة أمام السلطة الحكومية تقويضه وتدميره بدلاً من بنائه وتطويره. يضاف إلى ذلك مواجهته لمشكلات صعبة حتى في تلك البلدان التي ولد وترعرع في أحضانها، كما سيتبين لاحقاً.
كما أن مشكلات المجتمع المدني تأخذ أشكالا مختلفة في مجتمعات مختلفة. ففي المجتمعات التقليدية ذات الأنظمة السياسية السلطوية تبرز مشكلة المركزية وغياب أو ضعف المشاركة المنظمة المستقلة التي تشكل المصدر الوحيد لتوليد هياكل هذا القطاع، حيث يقوم النظام نفسه باستئصالها. كما يمكن أن تلجأ السلطة الاستبدادية إلى بناء هذه الهياكل لترتبط بها وتوفر لها شرعية وجودها واستمرارها. وفي البلدان المتقدمة هناك مشكلات الأجهزة البيروقراطية وضعف الوعي بأهمية المجتمع المدني, بل ولا تغيب ظاهرة عدم الرغبة في التخلي عن بعض أجزاء السلطة لصالح هذا القطاع. علاوة على تزايد الفجوة بين من يملك وبين من لا يملك. يضاف إلى ذلك وجود منظمات تطوعية تتصف بممارسات غير صحية: العنصرية، العنف، السوق السوداء..
كذلك فإن العملية الاجتماعية باتجاه تنمية قيم المجتمع المدني لا تسير بصورة طبيعية أو حتمية، بل تتطلب جهوداً واعية لتحريكها والحفاظ على مسيرتها. كما أن المفكرين والمعنيين بقضايا المجتمع المدني مطالبون بالرجوع إلى تاريخ مجتمعاتهم للوقوف عند خبراتها الماضية وقيمها القديمة بالعلاقة مع الحرية والمشاركة والتقاليد الاجتماعية من إيجابية وسلبية لتعزيز القيم الإيجابية وتخفيف تلك السلبية.(134)
من الأمور المقلقة في تجربة المجتمع المدني والديمقراطية انتشار قيم الأنانية والنفور والسخرية وعدم الرغبة في المشاركة، لأِسباب تتراوح بين الحرص على المصلحة الذاتية وبين الخوف من فقدان الاستقلال الفردي، علاوة على عدم الرضاء عن حصيلة العملية التعاونية. من هنا تظهر الحاجة إلى توليد طاقة حافزة لتحريك الناس باتجاه الطريق الصعب rough path. وحتى تكون هذه الطاقة فعالة فهي تتطلب أن تتولد من داخل الناس أنفسهم. وبغية شق هذا الطريق فالمطلوب: مناخ مفتوح لاختلاف الرأي، تطوير مستمر للمواطنة الواعية، حقوق غير قابلة للتحويل، إلغاء العلاقات الشخصية ودعم الظهر عند التعامل مع القضايا العامة. كما أن مشكلة ضآلة فهم عامة الجمهور للمجتمع المدني وقلة الأدبيات التعليمية والثقافية العامة لتحسين فهم عامة الناس ووعيهم تتطلب من هذه المنظمات والمفكرين المعنيين والصحافة الحرة توفير مساحات مناسبة لجهودهم لنشر هذه الثقافة الشعبية القاعدية بالعلاقة مع الثقافة الديمقراطية.
تعتمد حرية المجتمع على الدرجة التي يرغب فيها المواطنون أن يكون لهم أثر ودور في شؤون مجتمعهم، ومدى ممارسة هذا التأثير أو السلطة. يقول Saul Alinsky "لا يستطيع الناس نيل حريتهم ما لم يرغبوا بالتضحية ببعض مصالحهم الذاتية لضمان حرية الآخرين... إن مشاركة المواطن تولد قوة ومعنوية عالية في مجتمع يقوم على إرادة التطوعية".(135)
من الأمور المقلقة الأخرى في تجربة المجتمع المدني: أخذ مسألة الحرية على أنها معطاة، القيود الحكومية على مشاركة المواطن في ظروف صراع التوازن بين الحرية والنظام، غياب التسامح والقدرة على الاحتمال وانتشار عوامل اليأس والسلبية بين الناس، الفظاظة في التعامل مع الآخرين، انتشار مظاهر الانحراف السياسي والفساد الاقتصادي. ويبقى الخطر الأكبر عدم المبالاة، وعدم المشاركة والاختفاء البائس وراء الذرائع pragmatism والانغماس في الذات self-induglence. هذه الظاهرة التي تقبع في المجتمعات التقليدية, بخاصة, وتجسد أولئك المواطنين ممن ينظرون إلى الامتيازات والحقوق دون ممارسة مسؤولياتهم لحمايتها. يقول Fredrick Douglass "هؤلاء الذين يدعون أنهم مناصرون للحرية، وفي نفس الوقت يرفضون الاقتراب منه، هم أناس يريدون أن يستأثروا بالمحصول دون أن يساهموا في حرث الأرض. إنهم يرغبون في عبور المحيط ولكن دون أن يتعرضوا لهديره المرعب".(136)
بالإضافة إلى جدار السلطة الحكومية والمواقف البيروقراطية، تظهر مشكلة بروز المصالح الخاصة الراسخة التي يمثلها أصحاب المال ويشكلون مجموعات من اللوبي أو جماعات الضغط يقبعون في الخلف ويحركون آليات وأدوات السياسة وفق مصالحهم، بما فيها التأثير في الانتخابات، والتي تجد لها مثالاً بارزاً في الولايات المتحدة. وهناك دعوات بضرورة إبعاد المال عن السياسة قبل أن يطرد المال السياسة. لكن هذه الدعوات تبقي مجر لفظة كلامية في غياب إجراءات حقيقة لتقليص فجوة الدخل- الثروة. يضاف إلى ذلك تقييد وتحديد المصروفات الانتخابية وربطها بالخزينة العامة.
ومن المخاطر الجسيمة التي ترافق حركة المجتمع المدني في المرحلة الانتقالية، بخاصة، هي عندما تتحول مسيرة الديمقراطية إلى صعوبات اقتصادية في مواجهة معيشة الناس.. هذه الظروف تدفعهم التوجه نحو المنظمات التقليدية ليسقطوا في التنبؤات الغيبية والعصبية المتخلفة ويملئوا عقولهم وقلوبهم بالكراهية تجاه الآخرين باسم تقرير المصير. وهذا ما حدث في عدد من بلدان أوربا الشرقية بعد انهيار أنظمتها السابقة. وفي مثل هذه الظروف يمكن أن تفرز المنظمات المدنية "شياطين الانشقاق" evils faction.(137)
كذلك من المسائل الحساسة والخطيرة تجاه منظمات المجتمع المدني هي علاقاتها المستمرة مع السلطات والمؤسسات الحكومية. فمن جانب ترنو هذه المنظمات إلى المزيد من التوسع في التعامل مع الفرد واحتوائه لصالح العملية الديمقراطية, ومن جانب آخر تخشى الحكومة، بعامة، من الفوضى وتخلخل التوازن بين النظام والحرية. هذه العلاقة الجدلية التي تعني الكثير.. وهنا يتوجب على منظمات المجتمع المدني عدم التعامل مع الحكومة باعتبارها خصماً، بل على أساس بناء الثقة والتعاون وجدارة أدائها لمهامها، بحيث تدرك الحكومة وتقتنع أن الديمقراطية تعتمد على جاذبية المجتمع المدني، ومن ثم تعي وتحرص على أهمية الحريات العامة والمنظمات المدنية.
إن تكنولوجيا الاتصالات الحديثة مثل التلفزيون والكومبيوتر- الانترنيت، تُقدم فرصة ضخمة لتطوير أدب التحضر. وهناك مثل رائع لاستخدام هذه التكنولوجيا في معركة تحريم الألغام الأرضية land mines، يتعلق بالفائزة المشاركة لجائزة نوبل للسلام Jody Williams، التي بدأت هدفها بجهاز كومبيوتر- انترنيت لوحدها بتحريك هذه المشكلة على نطاق العالم. وبعد ثلاث سنوات نجحت في محاولتها الفردية لغاية توقيع اتفاقية دولية بتحريمها.
لكن هذه الإيجابيات ترافقها سلبيات ناجمة عن سوء الاستخدام. وهذا يتطلب ضرورة الانتباه وعدم السماح بإغراق أفكار الشباب وقتل أوقاتهم في أشياء جانبية. إن ظاهرة سوء استخدام التكنولوجيا الحديثة، خاصة بالنسبة للأطفال والشباب، مثل التلفزيون، دفعت البعض إلى القول بِِِأن أضخم المعوقات التي تواجه مهمة مشاركة لناس في قضايا المجتمع، هو الانغماس الفائق في متابعة برامج التلفزيون. وهنا يصرخ Robert Putman بقوله: أن "المجرم هو التلفزيون" الذي يسبب أضراراً برأس المال الاجتماعي نتيجة "قتل الوقت" لدى الكثيرين من الشباب والأطفال وغيرهم. وهناك من يؤكد على أهمية تنمية إرادة الإنسان human will، ذلك أن العلم- التكنولوجيا لا يُعيد صنع عقل الإنسان. من هنا وجب عدم السكوت أو السماح لسيطرة التكنولوجيا على عقله، لأِن تبعية إرادة الإنسان للتكنولوجيا يمكن أن تقود إلى مخاطر تدميرية بشرية ومادية.(138)
تزداد فرص الشباب مستقبلاً لبناء مواطنتهم الفعالة والمساهمة في تحمل المسؤوليات المشتركة كلما عاشوا في بيئة عائلية قريبة من المجتمع المدني. لوحظ مثلاً أن الطفل الذي يعيش في عائلة من أبوين متطوعين في منظمات المجتمع المدني، ترتفع احتمالات مشاركته التطوعية مستقبلاً إلى 75%، وتصبح هذه النسبة 65% إذا كان أحد الأبوين متطوعاً، وتنخفض إلى 40% إذا لم يكن أي منهما مساهماً في أعمال التطوع.(139)
وعموماً، سواء كان المرء متشائماً أو متفائلاً بشأن مسيرة الديمقراطية ومؤسساتها البنيوية في المجتمع المدني، فإن واجبه الوطني تجاه مجتمعه يحتم عليه المساهمة في تعزيزها ودعمها. وهنا يشكل التعليم والثقافة بدءاً من رياض الأطفال والصفوف الدراسية الأولى واستمراراً مع التعليم الجامعي والتعليم المستمر مدى الحياة، قاعدة مركزية لبناء أسس الفضائل والوجدان (رقة العواطف) والمعرفة والمهارات والواجبات والحقوق، وبناء المواطن الجيد لتحمل حصته في تقدم مجتمعه ومواصلة مسيرته. ومن الأمثلة المفيدة في هذا المجال، يلاحظ في الولايات المتحدة أن ستمائة جامعة وكلية تحركت نحو ربط قضايا المجتمع المدني بالتعليم الجامعي. وبادرت حوالي خمسين كلية إلى إنشاء مراكز أكاديمية مكرسة للمجتمع المدني أو جوانب منها مثل الأعمال الخيرية. كما أن المدارس الابتدائية والإعدادية التي تنمو باستمرار في ظل الكوميونات توفر مجالات حيوية لتشجيع وتطوير قيم التطوعية والمشاركة. وتشكل فكرة التعليم المستمر مدى الحياة وتطبيقاته، الآلية الأفضل ملاءمة لبناء المواطنة الفعالة في سياق بناء"التعليم لأِغراض الحياة العامة": تعليم التحضر، توسيع طاقة الناس على التفكير الشامل دون قيود وحدود ومحرمات.. وبذلك تصبح السياسة التعليمية واحدة من الآليات النوعية الأكثر حسماً لبناء المواطن الصحي في تفكيره والواعي لمسؤولية المشاركة.(140)
وفي ختام هذه المناقشة تبقى مشكلة اجتماعية خطيرة مؤثرة سلبياً في حركة الديمقراطية والمجتمع المدني، بل وفي مسيرة المجتمع الحضارية، وبالذات في المجتمعات التقليدية، ألا وهي مشكلة التميز ضد المرأة. هذه المشكلة التي تجعل من نصف المجتمع مشلولاً، بل وتجعل من كافة الحلول المقترحة لتحسين تنشئة الأجيال المستقبلية، حلولاً ناقصة أو غير ذات جدوى. وهذه المعضلة وحلولها كما في بقية المعضلات الاجتماعية الخاضعة للعادة والقيم والتقاليد البالية، ليست حصيلة لحظية، بل لها عمقها التاريخي، وتتطلب معالجة نمطية باتجاه تطوير الثقافة والقيم والنواميس المجتمعية. لكن المساواة القانونية وإعادة الاعتبار الإنساني للمرأة يجب أن لا تنتظر أو تراوح في مكانها!(141)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بريطانيا.. اشتباكات واعتقالات خلال احتجاج لمنع توقيف مهاجرين


.. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: ارتفاع معدل الفقر في




.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال


.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال




.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار