الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور التربية في بناء المجتمع وتنظيمه وقيادته

صبري المقدسي

2013 / 4 / 14
التربية والتعليم والبحث العلمي


دور التربية
في بناء المجتمع وتنظيمه وقيادته
يحتاج الوليد البشري الى من يقوم بتربيته وتكوينه وتشكيله، من الناحية الجسمية والنفسية والاجتماعية. لأنه يتميز عند ولادته بعجز كبير، ولا نجد لعجزه مثيلا في الكائنات الحيوانية الأخرى. ولهذا فإن التربية ضرورية لبقاء الفرد وإستمراره، بل هي وسيلة نموّه وتقدمه وتطوّره، لولاها لعاش الانسان قريبا من المرحلة البهيمية، ولتأخر المجتمع البشري، وإندثرت معه الحضارات والثقافات إندثارا كبيرا.
ويؤكد معظم علماء التربية، على أن التربية بدأت بدورها منذ أن وعى الانسان بدوره الانساني، ومنذ أن وجد آباء وأمهات رعوا أبناءهم، وكوّنوا أسرهم وتجمعاتهم البشرية. ونقلوا عبر التربية مجموع المعايير الاجتماعية والثقافية التي تؤمن التضامن بين أعضاء المجتمع. ولما كانت الحياة الانسانية قصيرة جدا، كان على الجيل القديم أن يصل أسباب بقائه واستمراره ببقاء قيّمه وعاداته، ونظمه السياسية والاجتماعية وغيرها.
ولعبت الكتابة والتدوين دورا كبيرا في تنمية الوسائل التربوية الأكثر تهذيبا ودقة، والتي ساعدت الإنسان على ممارسة سيّطرته على البيئة والطبيعة، والانتقال من ثقافة بدائية الى ثقافة حضارية متقدمة ومتمدنة. مع أن المعرفة كانت امتيازا لفئة صغيرة حاولت المحافظة عليها بشتى الطرق والوسائل. ولكن تلك المعارف أصبحت اليوم ملكا للجميع، وساهمت في تطور البشرية وتقدمها الكبير. ويعتقد الدكتور (عبدالله عبد الدائم) في كتابه التربية عبر التاريخ ص 8 : "بأن الاتجاهات التربوية الحديثة تتم عن طريق وسائل المجتمع وثقافته في شتى أبعادها ... فالتربية عرفت أشكالا أخرى أكثر مرونة وأرحب مجالا .. وتهدف التربية أولا وآخرا الى دمج الفرد بعادات مجتمعه وتقاليده وقيّمه وأساليبه".
ولذلك يعرّف معظم العلماء والمختصين بأن التربية: عملية يقوم بها المجتمع لتربية أبنائه ولتمييزهم عن غيرهم بصفات معينة، وذلك باكسابهم معارف ومعلومات معيّنة تمكنهم من إدراك المفاهيم التربوية واكسابهم المهارات المختلفة، الوجدانية والإجتماعية والإقتصادية والسلوكية.
ففي دراسة قام به العالم (أميل دوركهايم) عن الأقوام البشرية البدائية، كشف فيها بوضوح، على أن الشعوب القديمة، علمت أبناءها ودربتهم على أعمال الخدمة المنزلية وصناعة الادوات الضرورية، وحياكة الأقمشة المختلفة، والتمرس بالصيد والتدرب على أمور الحرب، ورعي الماشية والقيام بالأعمال الزراعية والتجارية، بالاضافة الى المأكل والملبس والمأوى وإقامة الطقوس الدينية، والتكلم بلغة الأم. وتؤكد تلك الدراسة: على أن التربية التي عرفتها تلك الشعوب، تحمل في حقيقة الأمر، سمات وخصائص شبيهة جدا في أنواع التربية التي تمارسها شعوبنا في أكثر مراحلها نموا وتطورا.
وهذا يدل على أن البشرية سارت على نهج بعضها بعضا في سياق التربية، مع إختلاف الأفكار والأماكن والتضاريس والمعتقدات. وتؤثر هذه الظواهر في الفرد تأثيرا كبيرا، وتكسبه طابعا خاصا. فالجماعة التي تعيش في الصحراء وفي السهل وفي الساحل وعلى الجبل، لها كلها سمات خاصة تميزها عن غيرها، تبعا للمحيط الذي تعيش فيه. ولكن الشىء الذي لا يمكن الخلاف بشأنه، هو السمات الانسانية التي وكلت الى بني الانسان في كل العصور. فهي من المهام الضرورية والأساسية، كالشعور الخلقي القائم على التمييز بين الخير والشر، والحرية والعدالة والمساواة، وتكوين الأسرة، والعادات والتقاليد، والمساهمة في بقاء الجماعة وإستمرارها.
ولم يبق مفهوم التربية جامدا عبر التاريخ، إذ تطور وتغير من عصر الى آخر، مع نمو وتطور الأبحاث التربوية، حتى بلغ اليوم حدا عاليا من النضج، مما جعله من العلوم المنتشرة والمتطورة في خطوات ثابتة مع الابقاء على المُثل العليا القديمة وتطويرها بما يلائم العصر.
وتأخذ الوظيفة التربوية في المجتمع دورها الهام بتطبيق العلوم التربوية والمنهجية، لكي تكمل ما تعلمه الفرد من والديه، ومن البيئة المحيطة به. ولهذا فالوظيفة التربوية لها مكانة مرموقة في كل المجتمعات البشرية. ويبقى دورها نافذا وفعالا في شرح المراحل التربوية للأفراد مع زرع القيّم والأخلاق.
وأما الغاية الرئيسية من التربية فهي لتشكيل الفرد والمجتمع تشكيلا إنسانيا، وتطويره خلقيا، لغرض بقاء المجتمع الانساني وإستمراره. وتلعب الثقافة دورا كبيرا في هذا التشكيل، لأنها تجمع كل المكوّنات من اللغة والعادات والتقاليد والتراث والسلوك الاجتماعي والديني التي تستند عليها التربية.
فالتربية الصحيحة إذن ليست إرغام العقل غير المستعد وغير الواعي على قبول التعليم. بل هي إيقاظ قوى العقل وإثارة الإهتمام من خلال الفعل التربوي الصحيح. ولذلك تلعب الاسرة دورا مميزا في تزويد الاطفال بالمعرفه الثقافية، بدءاً باللغة ومعاني المفردات والكلمات والرموز والاشارات والممارسات اليومية لشؤون الحياة إلى الحكم على الأشياء بالصواب والخطأ وتنمية الأبعاد الانسانية فيهم. حتى يصلون الى أقصى حد لهم من النمو والنضوج، كما يُقال قديما: "ان حضن الأم هو المدرسة الأولى". وبالتالي فإن الاسرة هي أول موقع لتربية الانسان ونضجه. فعلى الوالدين تعليم أطفالهم منذ الصغر دروسا في الاحترام والإتيكيت، بالاضافة الى الطريقة المناسبة لإرتداء الثياب، والاسلوب المناسب في الأكل والشرب، ونظافة الجسم، مع إعطائهم دروسا سهلة وبسيطة عن مبادىء الفسيولوجيا وعلم الصحة الجسدية.
ولعل من أبرز جوانب التربية الخلقية هي القدوة، والتي تمتد من مرحلة الحمل الى مرحلة النضوج والثبات. ويكون الاطفال أكثر تأثراً بالقدوة. إذ يقلد الطفل في سنواته الأولى كل ما يفعله الكبار. ويعتقد الاطفال أن ما يفعله الكبار صحيح، وبأن آباءهم أكمل الناس وأفضلهم. لهذا فهم يقلدونهم ويقتدون بهم. وعلى الوالدين مسؤولية جسيمة تقوم بمساعدة أبناءهم في النمو والنضوج، ومحاولة زرع الثقة في أنفسهم لتجاوز الصعوبات والعقبات، وتجنب تثبيط همتهم بالضرب والتوبيخ والكلام الجارح.
ويعتبر المختصون الوظيفة التربوية بداية وأساس الوظائف التي تؤديها المؤسسات المجتمعية الأخرى عامة، والمدرسية بصورة خاصة. فإذا أنشئت الأسرة على أسس وقواعد ثابتة راسخة من القيّم والفضائل، فإنها بذلك تبني المجتمعات بلبنات قوية متماسكة، لا تؤثر فيها عواصف الزمن، ولا متغيرات الأحداث. أما إذا أهملت الأسرة دورها في التربية والتقويم، فإن أفراداً في المجتمع يتخرجون من هذه الأسرة، قد لا يستطيعون المساهمة في بنائه بل يكونون عوامل هدم وتخريب له.
وتلعب البيئة الاجتماعية أيضا دورها الكبير في تنشئة ونمو الفرد. وتختلف البيئة في طبيعة الحال من منطقة الى أخرى. فالبيئة المتفتحة والقابلة للتجديد، تخلق شعبا متفتحا ومسؤولا، يتقدم في كل مناحي الحياة. ولكن البيئة المتحجرة والجامدة، فهي البيئة السيئة التي تقف بالمرصاد من كل أنواع التطوّر والتحديث.
ولم تأخذ المدرسة دورها الطليعي في التربية إلا متأخرا. ففي زمن الأقوام البدائية، إقتصرت التربية على التقليد والتدريب، التي كانت تمارس في القبيلة للنشء الجديد، خاصة في إرواء الحاجات المادية من مأكل وملبس ومأوى، بالاضافة الى أعمال الخدمة المنزلية، وصناعة الأدوات الضرورية، وحياكة الأقمشة، والتدرب على السلاح، ورعي الماشية والأعمال الزراعية المختلفة.
فالمدرسة هي من المواقع المميزة للتثقيف ولنقل الثقافة. إذ تتحمل بجميع مستوياتها، القسط الأكبر من هذه المسؤولية لتكمل المشوار الذي بدأته الأسرة في التربية، وذلك لمساعدة الطلاب والطالبات في كافة مستوياتهم على التفكير في ذواتهم، وجعلهم قادرين على التفكير في مجتمعهم، وتحمّل مسؤولياتهم اليومية والمستقبلية. ولهذا يجب الحرص على ضرورة إختيار مدرسين مؤهلين أكفاء لهذه المسؤولية، ولكي يجعلوا من هذه المؤسسات مراكز تثقيفية وتعليمية وتربوية.
ففي المدرسة إذن تتم التنشئة الحقيقية لتشكيل الافراد وتمكينهم من المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة. لأن المدرسة وجدت أساسا لتكمل دور المنزل والعائلة، وذلك للقيام بوظائف تربوية لم يستطع المنزل إكمالها، من تعليم النشء مبادىء القراءة والكتابة والعلوم، ونقل التراث الثقافي، وإكتساب الخبرة والمعرفة، والتدريب على المنهج الصحيح في التفكير، وحل المشكلات، وتجاوز العقبات المختلفة، وإكتشاف وتنمية القدرات العقلية المختلفة، والمساعدة على تحقيق الطموحات، مع توفير بيئة اجتماعية متزنة يتفاعل الفرد معها لضمان استمرار ثقافة المجتمع واتساقها والمحافظة على الهوية الثقافية.
ومن هنا نقول أن على المربين في المدارس، إحترام الطلاب والطالبات، لكونهم في حالة تحوّل ونمو في جميع المجالات. وتُثبت النظريات العلمية الحديثة بأن التهكم الهدام، والمزاح السمج، والأحكام الفجة، التي يصدرها بعض المعلمين والمربين، توقف تقدم الطلاب والطالبات، وتثير عدوانيتهم، وتهبط من عزائمهم. فهم بحاجة ماسة في تلك المرحلة إلى مد يد العون لهم، ومساعدتهم على الإنفتاح على الآخر، وإقامة علاقات ثقة معهم لإكتشاف ذواتهم. وتنظيم أسلوب حياتهم ومنحهم منظومة من المعايير والقيم الصالحة، وحثهم على العلم والتعلم والتعليم، لكي يكون لديهم القدرة على مواجهة التغييرات والتحديّات المعاصرة.
ويبدو تأثير العولمة والإعلام والمدارس التربوية الحديثة أوضح على الفرد والمجتمع مما كان في الماضي. وهي تأثيرات إيجابية في بعض جوانبها، وسلبية في جوانب أخرى كثيرة. فلابد من اشتراك الدولة مع المدرسة والأسرة في إرشاد النشء الجديد، والتمييز بين ما هو صالح، وما هو طالح، وما يمكن قبوله والبناء عليه، وما يجب نبذه وعدم القبول به.
وتلعب الوسائل الاعلامية المختلفة من المرئية والسمعية والالكترونية، دورا كبيرا أيضا في المجال التربوي، وفي توجيه الأفراد والجماعات. ويتجاوز ذلك الدور اليوم، إذ يشمل القضاء على الأمية والجهل، ومكافحة التخلف الثقافي، وتطوير مهارات الأساتذة والطلاب والطالبات، والعاملين في جميع المؤسسات التربوية.
وتشغل الوسائل التقنية الحديثة وأجهزتها المتنوعة حيزاً كبيراً في حياة الناس، ويكاد لا يخلو منها بيت أو مقهى، أو متجر، لما تشتمل عليه من تقنية متطوّرة، وجاذبية فائقة. إذ أصبحت في نزاع مع المؤسسات الاجتماعية في دورها التربوي، وجعلت من دور الاسرة والمدرسة في معظم الدول، يكاد يقتصر على الاشراف والتوجيه فقط.
وللأديان أيضا دور كبير في تنشئة الأجيال وتدريبها على الجوانب الخلقية، وخاصة في موضوع التمييز بين الخير والشر، والتفريق بين العالم المرئي والعالم الغير المرئي، والشعور بالخضوع لعالم أعلى، والتوعية في خصوص الخطيئة، التي تعاقب عليها سلطة غير مرئية أو ممثلو هذه السلطة، مع تنظيم العبادات كالصلاة والذبيحة وسواها. إذ قدرت الأديان بدورها المعرفة العلمية والعلوم الادبية تقديرا عاليا عبر التاريخ، وشجعت على الإستزادة من العلم والمعرفة، ولكنها ركزت على الأعمال الصالحة والسلوك والأخلاق، أكثر من المعلومات والعلوم والمعارف والتكنولوجيات المتطورة.
ونشهد في أيامنا هذه ثورة تربوية جذرية تحاول أن تعيد النظر في الإرث التربوي كله، وتتجه الى مراحل العمر كله، وتستمر من المهد الى اللحد. ولا تقتصر التربية على فئة معيّنة دون الاخرى، بل تشمل المجتمع بكامله. فالتربية إذن وثيقة الصلة بالثقافة التي يكتسبها الانسان منذ مولده عن طريق الخبرة الشخصية، وعن طريق المجتمع الذي يعيش فيه منذ الصغر.
ويؤكد العلماء والمختصون بأن الطفل يستطيع التقاط ثقافة أي مجتمع، اذا عاش فيه فترة زمنية كافية. وتؤكد تلك الدراسات أيضا بأن التربية هي الميدان الذي يتم من خلاله صياغة الشخصية الإنسانية بكل مقوماتها الأخلاقية والسلوكية، والتي تؤثر على الانسان وتجعله قادرا على إنشاء العلاقات الضرورية مع محيطه المادي والاجتماعي والفكري، وتحدد علاقته بأخيه الانسان، وبمحيطه وبالبيئة التي يعيش فيها.
صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا