الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة: اهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية

صبري المقدسي

2013 / 4 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اللغة:
أهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية
من الاختلافات الكبرى بين الانسان والحيوان، قابلية الانسان على التكلم والتخاطب بلغة، بعكس الحيوانات التي تتصل أو تتفاهم فيما بينها من خلال الإيماءات والاشارات، وإدراك حالات الاهتياج والانفعال، وإصدار أصوات معيّنة للعثور على مكان أصلح للإنتقال اليه. وقد تكون الإشارات والأصوات التي تبديها الحيوانات مثيرة للإعجاب والذهول، ولكنها لا ترقى الى مستوى اللغات التي نطق بها الانسان، والتي ميّزته عن جميع الكائنات الحيّة الأخرى.
ومع كثير من الوقت والتضحيّات الجسيمة وعلى فترات طويلة من الزمن، استطاع الإنسان، البقاء والتكاثر حتى ملأ ظهر الأرض بوجوده ونسله. وسيّطر على كل الحيوانات وسماها بأسمائها كما جاء في التوراة: ((هكذا أعطى آدم أسماء على كل الطيور والحيوانات والبهائم)) تك 2/20. ولم يكن تفوّق الانسان ونُصرته على الكائنات الحيّة الاخرى، إلا بقدرته العقلية والغريزية والنطقية، التي جعلته يجوب الأرض أكثر من مليون عام، وهو يلتقط الثمار ويصطاد الحيوانات. ولكن شيئا فشيئا إستطاع أن يُسيطر على الطبيعة المُحيطة به، ويُكيّفها لمصلحته، ويَتكيّف معها.
وتذكر الأبحاث العلمية والمُكتشفات الأثرية، أن الشعوب البدائية، مارست التنقل والرعي، ولم يكن يتوفر لديها الوقت الكافي لتقوم بتطوير أي شىء، بإستثناء عدد ضئيل من العناصر، لكي تؤمن الاتصال فيما بينها. وعندما إستقرت، مارست الزراعة والتدجين وحراثة الارض وجني المحاصيل الزراعية. فإنخفضت نسبة الترحال لديها، وبدأت لغتها تتطور وتنمو بالتدريج.
وتتميز منطقة وادي الرافدين بكونها الموطن الجغرافي الأول للإنسان المُتحضر، الذي بدأ بتأسيس حضارته وثقافته، حينما صنع أدواته الحجرية والخشبية والمعدنية، التي استعملها بذكاء في آثاره الفنية والدينية والثقافية، وأظهر من خلالها انفعالاته وعواطفه وتأملاته في الكون والوجود والحياة.
وحَقق الانسان العراقي الرافديني القديم تطوّرا كبيرا في بُنيته الحضارية، عندما إستطاع صنع أدواته بتقنية أكثر تطوراً جيلاً بعد جيل. وأزداد تناسله وتوطد رخاؤه الاقتصادي، حينما إتقن الري والزراعة. وتجلت حاجته الى تسجيل نشاطاته الدينية والتجارية والزراعية.
فالزراعة إذا لعبت دورا بالغ الأهمية في حياة الانسان الحضارية والثقافية، لأنها أدت الى ظهور الفاعليات التجارية، بالاضافة الى ظهور الحاجة الماسة الى الكتابة والتدوين، بإستخدام الأشكال الطينية والرقيمية لتوصيف منتجات الزراعة من حبوب وفاكهة وزيوت، وغير ذلك من العمليات التجارية المتعلقة بها.
وتمركزت الكتابة السومرية التي يُطلق عليها المسماريةCuneiform ، في الهلال الخصيب، منذ قرابة 5500 سنة. وبدأت كحاجة مجتمعية، ومن ثمّ حاجة انسانية عامة، انعكست على تطوّر المجتمعات البشرية إيجابيا، وشكلت طفرة حضارية وثقافية هامة جدا في التاريخ البشري، أدت الى توثيق التقدم في كل مجالات تطوّره، عبر تحريك الكلام من العالم السمعي والشفهي، الى العالم الحسيّ والمدّون.
ولما كان حُب الاستطلاع، وإكتشاف المجهول، والتفكير المنطقي، من أهم خواص الجنس البشري. فمن الممكن إعتبار التدوين بحسب العلماء والمختصين، إنجازا كبيرا أبدع فيه الانسان، فأصبح كنزا وذخرا أبديا، أوصل البشرية الى عصر الصناعة والالكترون والفضاء والثورة المعلوماتية والاتصالاتية.
وقد اكتشفت أقدم وثيقة تتضمن كتابة صورية في مدينة أوروك (الوركاء) العراقية، التي تعود إلى نهاية الإلف الرابع ق. م. ولم ينفرد أهل ما بين النهرين في هذا المجال، إذ بَرع المصريون أيضا، وإستخدموا الكتابات والنقوش التي تشمل السلطة والدين والزراعة والتجارة والفلك والعلاقات الاجتماعية. ولابد من تقديم الشكر الجزيل للعالم الفرنسي (جان فرانسوا شامبليون) الذي إستطاع بخبرته وجهوده العلمية، فك رموز اللغة المصرية الهيروغليفية التي تتكون من الرموز Logographic ، وهي بحسب علماء اللغة، تتكون من عدد كبير من النقوش والصور الرمزية Pictograms .
فالحضارة السومرية، والحضارة المصرية الفرعونية، لهما الفضل الكبير إذن في نقل البشرية من ظلام الأمية الى نور المعرفة بأنواعها المختلفة، وفي الكشف عن نمط حياة وتفكير أجدادنا، وفي تقديم الدلالات الاولى لبداءة نشوء الحضارة على إختلاف أنماطها الاقتصادية والدينية والثقافية والتشريعية.
ولم تكتفِ الحضارة السومرية بإكتشاف الكتابة، بل دعت الى دراستها وتعلمها وتدوينها، وأسست مدارس خاصة لتعلمها وتدريسها ونشرها. وكان التعليم في تلك المدارس يشمل فروعاً من العلوم والمعارف الاخرى، كالرياضيات والفلك والطب والأدب والموسيقى وغيرها من العلوم. وإهتم السومريون أيضا بتأسيس المكتبات لحفظ المدوّنات، كما هي الحال في مكتبة آشور بانيبال التي تعد من أهم وأكبر المكتبات التي عرفها التاريخ البشري القديم.
وكان التدوين ضرورة تاريخية وحضارية لا مثل لها. ولهذا يشير البعض من المؤرخين على أن: التاريخ بدأ حينما بدأ الانسان بالتدوين. ويؤكد معظم العلماء والآثاريين في الغرب، ومنهم المؤرخ (توينبي) والعالم الفرنسي (جورج تات) والعالم (ج والتر أونج) من أن الكتابة حققت التواصل الفكري بين البشر، وأظهرت قدرة الانسان على الخلق، وأدت الى تغيير في الوعي الانساني أكثر من أي إختراع آخر.
وبالرغم من قدم اللغة المدوّنة، إلا أنها تعتبر حديثة العهد بالنسبة الى اللغة المنطوقة، التي كانت وما تزال، الوسيلة الأهم في تسهيل أمور الناس، ومساعدتهم في التواصل والتخاطب، وفي نقل الثقافة والحضارة من جيل الى آخر. وفي خلق الروابط الاجتماعية بين أفرد المجتمع الواحد، من أجل تيسير الحياة الجماعية التي يستحيل بدونها قيام العمل الاجتماعي الموحد.
ولذلك أصبحت اللغة برموزها اللغوية المرتبة والمنظمة، من أهم الوسائل للتخاطب والتواصل البشري، وفي انتقال الحضارة والاكتشافات والاختراعات البشرية من جيل الى آخر، ومن منطقة الى أخرى. وقد دأب البشر منذ القدم الى تعلم اللغة وتدريسها، والإستفادة منها في حوارهم مع الآخرين، وفي تبادلهم الحضاري مع الثقافات الاخرى. وكان التواصل يتم في حالتين، الحالة المنطوقة والحالة المكتوبة. واحتلت الحالة المنطوقة المكانة الاولى دائما، وتلتها الحالة المكتوبة التي أوثقت تراث وتقاليد وتواريخ وفعاليات البشر.
وتبقى اللغة، العامل الأهم في نقل الرموز والألفاظ والكلمات، والوسيلة الحضارية الرائعة لنشر الأفكار وتسهيل الحياة، وإيجاد الروابط الضرورية بين أفرد المجتمع الواحد. وهي قديمة قدم الإنسان، وقدم حضارته. لولاها لما أستطاع الإنسان أن يسود على كل ما حوله، ولما كان في مقدوره صنع حضاراته وثقافاته التي توارثناها من جيل إلى جيل.
ويؤكد المؤرخ (وول ديورانت) في قصة الحضارة الجزء الاول والثاني، على أن العلوم البابلية انتقلت الى اليونان وروما وباقي دول العالم. وما أسماء المعادن وأبراج النجوم والموازين والمقاييس والآلات الموسيقية والكثير من العقاقير، إلا تراجم لأسمائها السومرية والبابلية.
ويؤكد العلماء والانثروبولوجيون أيضا على أن اللغة هي مجموعة من الرموز والحركات أو مجموعة من الصور الذهنية التي ترتسم في عقولنا وتطبع فيها آثارا تبقى الى يوم إنتقالنا من هذه الحياة. فهي إثبات لوجود الانسان، لأنها تخصه دون سواه من باقي المخلوقات، وتميزه عن الكائنات الحيّة الاخرى. وفي تعريف معظم الباحثين اللغويين حول اللغة بأنها: نتاج اجتماعي لملكة اللسان ولمجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما لكي يساعد افراده على ممارسة هذه الملكة. ولكن عملية النطق لا تتم باللسان بل بالفكر لأن المقاطع التي ينطق بها المرء انما هي انطباعات صوتية تدركها الأذن. وليس لهذه الأصوات وجود لولا أعضاء النطق كما تؤكد العلوم اللغوية(علم اللغة العام تأليف: فرديناند دي سوسور: ترجمة د. يوئيل عزيز ص28 ).
وكان العالم القديم يشهد صعوبة كبيرة في نقل الكلمة عن طريق الرسائل عبر البحار والجبال الشاهقة قديما، إلا أن اليوم وبفضل الطائرات والسفن والهوائيات الشاهقة والالكترونيات، حُلت تلك المشاكل القديمة الى حد كبير. إذ بوسع الانسان اليوم نقل الكلمات عبر الحدود في غاية اليسر والسهولة. وتلعب وسائل الاعلام دورا عظيما في ذلك. وما نتمناه أن يكون الاعلام أكثر إيجابية في نشر الثقافة والمعرفة والسلام والتقارب والمحبة والتسامح.
فاللغات هي المظهر الأكثر أهمية في أي حضارة، لأنها تتشكل من الدلائل للمعاني الحيّة التي تحمل النبض والمعنى والحركة. واللفظة التي ينطق بها الانسان هي الواسطة الشاملة الوحيدة للإتصال والتفاهم. إذ يجتاز الكلام الناتج عن الانسان كل العقبات ومن دون خط اتصال مع السامع، ومن دون الحاجة الى الضوء، كما تعتمد الاشارات البصرية.
ومن الواضح جدا أن العلاقة بين اللفظ والمعنى وثيقة جداً، بحيث لا يمكن لإحداها أن تتبلور وتعيش إلا في كنف الاخرى. ولذلك تبقى الكلمة روحاً حيّة متحركة، تحمل أوجها متعددة تنبض بالحياة أبداً. ومع كل ذلك فإن الكلمة بمفردها لا قيمة لها، لأن الكلمة المفردة تذبل وتموت مثل أوراق الخريف، إذا ما لم تأخذ موقعها في الصيغة والجملة. ولذلك فالكلمات المرتبة بصيغ جميلة لها وقعها الرائع والحسن في القلوب. فإذا تحرّكت، حرّكت معها الأفراد والشعوب والأمم والجبال والسيوف والعواطف والمشاعر والهمم. فهي القوة التي تحرك الجبال من مكانها وتشعل الحروب وتطيب الخواطر وتلهب المشاعر وتصنع المعجزات.
وهذا يدل على أن المجتمع البشري يلتحم باللغة إلتحاما عميقا، إذ ليس ثمة انسان اعتيادي مجرّد من هذه القابلية التي ما أن تحل عليه حتى تصاحبه بصورة دائمية، وتظهر من خلال سلوكه وتصرفاته اليومية. فلا يستطيع المرء من خلالها، التعبير عن نفسه، والتفكير مع نفسه، والابداع في الاشياء التي يصنعها أو يخترعها والامور التي ينتجها أو يكتبها. ولذلك تصرف الدول أموالا طائلة لتشجيع أبناءها في تَعلم اللغات الأجنبية.
ونستنتج من كل ذلك أن اللغة كانت وما تزال، أهم ركيزة لتحصين الثقافة والهوية والذات والشخصية. فهي مليئة بوقائع الحياة وتجارب الماضي وتخيّلات المستقبل. وتعتبر اللغة بحسب ما تثبته الدلائل التاريخية والثقافية بكونها الوسيلة الوحيدة للتفكير والتعبير عن الأمور الخارجية والداخلية للإنسان، وعن مشاعره الجياشة، وحُبه ولوعته، وغضبه وكرهه، وميوله وطموحاته.
وتدل الدراسات العلمية على أن اللغات في العالم يتجاوز عددها 10000 لغة. وبالرغم من ضخامة هذا العدد، إلا أنها تنقسم بدورها الى لغات أو لهجات فرعية عديدة. وهي تتألف من مجاميع لغوية كبيرة ترتبط بالمجموعات العرقية في حُقب تاريخية بعيدة.
وتعاني عدد كبير من اللغات اليوم من محنة البقاء والاستمرار، بسبب العولمة التي من الممكن أن تقضي عليها بالفناء والموت المحتوم. إذ تشير التقارير العلمية الصادرة عن الباحث الفرنسي في اللغات (كلود هاغيج) بأن: العولمة تسبب في موت 25 لغة من لغات العالم كل عام. وفي نهاية القرن 21 سيختفي نصف لغات العالم إضافة الى ما تجريه وسائل الاتصال الحديثة من تسريع في ذلك.
وما نأسف له حقيقة هو ضياع واندثار عدد كبير من هذه اللغات التي تشكل خسارة كبيرة للثقافات البشرية. إلا أن قانون الغاب أو بالاحرى قانون البقاء للأصلح، قد بدأ يظهر مفعوله وعمله في غربلة اللغات، لإبقاء الأصلح منها في المستقبل. وعلى لغاتنا المحلية أن تأخذ حذرها واحتياطاتها الضرورية في كيفية صيانة وتطوير لغاتها قبل أن يفوت الأوان.
ولهذا تحتاج اللغات الى التطوير والتجديد حتى يكون في مقدورها مقاومة التطورات الجارية في العالم. ولا يتم ذلك إلا من خلال تنشيط الثقافة اللغوية الايجابية، وإحداث تغيير جذري في الخطاب الديني والثقافي والسياسي، واستكمال المعرفة اللغوية، وتقدير مستواها وقابليتها لقبول المفردات الجديدة، وتشجيع البحوث اللغوية ورعايتها بإصدار المجلات والدراسات المهتمّة بمدى مقاومتها للظروف والتحديّات الجديدة.
فعلى المهتمين باللغات إذا مسؤولية كبيرة، وخاصة في سياق التحوّلات المعاصرة والتحديّات الجديدة، التي تفرض علينا واقعا جديدا من فرض نموذج ثقافي مهيّمن، إن قبلنا به بكل جزئياته ومدلولانه ومعانيه ومضامينه، فسوف تنطبق علينا مقولة (ابن خلدون)، عن ولع المغلوب بتقليد الغالب. وحينها نقرأ السلام على لغاتنا وثقافاتنا، ولا يكون لها وجود إلا بقاءها محجوزة ومخزونة في المعاجم والمخطوطات والمتاحف.
صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما مدى أهمية تأثير أصوات أصحاب البشرة السمراء في نتائج الانت


.. سعيد زياد: إسرائيل خلقت نمطا جديدا في علم الحروب والمجازر وا




.. ماذا لو تعادلت الأصوات في المجمع الانتخابي بين دونالد ترمب و


.. الدفاعات الجوية الإسرائيلية تعترض 3 مسيّرات في سماء إيلات جن




.. فوضى عارمة وسيارات مكدسة بعد فيضانات كارثية في منطقة فالنسيا