الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضارة المعاصرة: وليدة الحضارات القديمة مجتمعة

صبري المقدسي

2013 / 4 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الحضارة المعاصرة
وليدة الحضارات القديمة مجتمعة
حاول الانسان منذ بداية وجوده بتطوير قابلياته وإمكانياته وذلك باستخدام ما توفره الطبيعة من الماء والهواء والنار والتراب. ولا شك في أن الانسان إحتاج الى مستوى معيّن من النظام، أينما عاش، وفي أي مجتمع أو بقعة جغرافية. وتثبت الدلائل التاريخية على وجود نوع من أنواع الحضارة لدى الانسان القديم، ونوع من أنواع الضوابط والتشريعات.
ولهذا نستطيع القول بأن الحضارة الانسانية الحديثة، إنما تعود بجذورها وأصولها الى ما قام به الانسان القديم من إكتشافات للنار بإستعماله للتدفئة والطبخ، وإكتشاف الحديد وتصهيره، وإكتشاف الري والزراعة، وإختراع الحروف الأبجدية، وغيرها من الاكتشافات والاختراعات الأولية التي بنى عليها الإنسان حضارته البدائية، وطوّرها إلى أن قادته الى التمدّن الذي نشاهده اليوم.
وقد أثارت الحضارات القديمة، الرغبة الشديدة ولقرون عديدة خلت، في معرفة الصورة الوافية للثقافات الاولى، التي كانت تمارس فيها حياة القنص وجمع الغذاء، وتدجين النباتات، بفضل الري والزراعة، والقدرة على إنتاج كميّات أكبر من الطعام مع بذل جهد أقل، مقارنة بالجهد الذي كان يبذله الانسان القديم.
وكانت الثورة الزراعية المرحلة الجديدة والمهمّة في حياة الانسان، لأنها بيّنت قدرته على صنع الثقافة الخاصة به، وما يتبعها من صنع المكائن، وترويض الحيوانات، وتأسيس المدن، واختراع الوسائل المختلفة، من فنية وصناعية واقتصادية، واختراع اللوازم الضرورية لإسعاد الفرد والمجتمع، عن طريق سلسلة من المراحل التي بدأت بتطويّر الاقتصاد، وتطوير العلم والأخلاق، وتحقيق الذات الفردية والاجتماعية، والنضال من أجل الكرامة والحرية والاستقلال.
ويكفي الانسان فخرا واعتزازا، بكونه صانع كل تلك المدنيّات ومهندسها المُبدع، الذي ناضل منذ بدايات العصر الحجري القديم، للتكيّف مع البيئة المُعقدة والمُعادية، محاولا إكتشاف ذاته عبر تصرفاتها القاسية. ولكنه إعتبرها مع ذلك الأم التي تعطي الحياة، وتعامل معها بالطرق الملائمة أحيانا لترضية طموحاته اللامتناهية، وبالطرق العنيفة والقاسية أحيانا أخرى، بسبب سلوكها القاسي والمُدمّر.
بالرغم من أن الثورات الزراعية والصناعية والتكنولوجية، ساهمت في تطوير قابليات البشر وتمدنهم، إلا أنها أثرت تأثيرا سلبيا وبالغا على البيئة والطبيعة والمناخ. إذ قضى الانسان على ملايين الدونمات من الغابات والأراضي الزراعية، وحولها الى مشاريع سكنية وعمرانية لتدر له ربحا أكثر غزارة. وقضى الانسان كذلك على عدد كبير من الطيور والحيوانات والحشرات والنباتات النادرة. وأدت تصرفاته العشوائية والغير المسؤولة الى انتشار مساحات الصحراء في كثير من البلدان والمناطق الجغرافية، والى نضوب المياه الجوفية والأنهار والبحيرات، وإتساع ثقب الأوزون في طبقات الجو، وإرتفاع مناسيب المياه في البحار والمحيطات.
فالحضارة Civilization التي نتنعم من خيراتها وانجازاتها العظيمة اليوم هي إذا نتيجة جهاد طويل وشاق جدا. بدأت مع بداية الانسان في تكوينه الحضاري، عندما استخدم الأيدي في الحصول على الغذاء، وإستعمل الحجارة للدفاع عن نفسه. وتعلم كيفية الربط بين النظر وقذف الحجر، وكيفية تشكيل الحجر وشظفه وقطعه، مع استخدامه للأدوات الاخرى، من مواد هالكة كالأخشاب والعظام، كسهام وحراب ذات النصال الحجرية.
وجدير بالاشارة أن الصناعات الحجرية وصناعة إبرة الخياطة من العظام الدقيقة لعمل الملابس والقوس والسهم، تمثل مرحلة متطوّرة ومهمّة بالنسبة الى الانسان القديم في تأسيسه للحضارة. وتشهد تلك الفترة أيضا استخدام الانسان للكهوف، كمساكن وأضرحة ومدافن لموتاه.
ويظهر من خلال التاريخ أن الانسان في تلك الحُقب الجيولوجية السحيقة، هو الانسان الحيوان أو الانسان الشبيه بالبشر. وتسمى مرحلته الحياتية بالمرحلة الوحشية. وتلتها المرحلة البربرية وهي الفترة التي بدأ فيها الانسان بإستئناس الحيوانات، وإستخدام الارض للزراعة، ولكن من دون أن يعرف فيها أية لغة مكتوبة، فيما عدا بعض الرسومات البدائية في الكهوف والمغاور.
وتلتها بعد ذلك، المرحلة المدنية. وهي مرحلة إكتشاف المعادن كالنحاس والبرونز والحديد وصهرها واستخلاصها، واكتشاف الأحرف الأبجدية، وإنتقال الانسان من طور القنص والصيد، الى طور الفلاحة والزراعة التي إعتمدت على الري للحصول على القوت اليومي. وكانت تلك الفترة مظهرا من مظاهر التمدّن والازدهار البشري، إذ بدأ الانسان بزرع كميّات تزيد عن حاجته المعاشية، فصار يخزن الغلة، ويحافظ عليها، كمصدر مُهم للرزق والثروة. ومن هنا بدأ الفكر التجاري يُسيطر على عقله، وبدأ يَطمح بالحصول على الاراضي الشاسعة للزراعة، سواء بشراءها أو بالاستيلاء عليها عن طريق القوّة أو شن الحروب.
ومع أن الكيانات الحضارية القديمة، قدمت خدمات جليلة للبشرية في تلك الفترة، إلا أن روحا إستبدادية وطاغية كانت تهيّمن عليها، مما جعلتها في تنافس وصراع شديدين فيما بينها لغرض السيطرة على بعضها البعض. ولم يكن غرضها يوما خدمة الشعوب المغلوبة، بقدر ما كان غرضها إتساع رقعتها الجغرافية، وتأمين المنافع الجزيلة لنفسها، وبسط سيطرتها على تلك الشعوب والأمم.
وبالرغم من كل الشرور والسلبيات التي نتجت عن الحروب والغزوات والفتوحات، إلا أن الحضارات القديمة ساهمت في الحقيقة على الصعيد التاريخي، بنقل الصور المُتعددة من التفاعل الحضاري والثقافي والتي تطورت الى تحقيق الحضارة الانسانية التي تجمع في طيّاتها كل الأفعال والنشاطات والفعاليات الشعبية والفكرية والثقافية والدينية والفنية. مع تطوّرات أخرى كثيرة أدت الى إخراج الكثير من الشعوب البشرية من المرحلة الوحشية والبربرية، الى المرحلة المتمدّنة، وبصورة تدريجية.
فالمفهوم (الحضارة Civilization ) مع أنه بدا واضحا وجليّا لدى معظم علماء الاجتماع اليوم، إلا أنه لا يزال يثير اختلافات كثيرة من حيث التعريف والتحديد مقارنة مع المصطلحات الأخرى كالثقافة والسياسة والآيديولوجية. والمعنى الحرفي لكلمة الحضارة يعني (ساكن المدينة Civilitiesـ Cities)، أي الاقامة في الحضر أو المدن بخلاف الريف والبداوة. ولذلك يطلق مفهوم الحضارة على مظاهر التقدم والرقي في جميع الميادين الثقافية والعلمية. فهو مرادف لمفهوم الثقافة Culture ، ويشمل كل مظاهر الحياة في المجتمع، مع جميع التجارب الاجتماعية والسياسية والفكرية للفرد والجماعة، وكل أبعاد التقدم والابداع، ومن جميع الجوانب الثقافية والاجتماعية والفنية والعمرانية والقانونية والروحية.
وقد يكون الجواب صعبا وغامضا في بعض الأحيان وخاصة عندما يكون السؤال عن الفرق بين الحضارة والثقافة، وبين الحضارة والآيديولوجيا كمفاهيم ومصطلحات وذلك بسبب التداخل العميق في مفهوم تلك المصطلحات. ولعل الفرق الرئيسي والواضح يكمن في إطلاق مصطلح الثقافة على الطابع الفردي وعلى النشاط العقلي والنتاج الروحي للفرد، والذي يشمل مختلف صنوف الإبداع والفكر السياسي والفلسفي والديني مع التراكمات الثقافية من الادب والفنون والموسيقى. وبينما يطلق مفهوم الحضارة على جميع المظاهر والاتجاهات والمجالات من الآثار المادية لأمة من الأمم كوسائل الانتاج والتكنولوجيا والعمارة والملبس.
ويرى العلماء من خلال هذه النظرة بأن مفهوم الحضارة أعم وأشمل من مفهوم الثقافة. ويشيرون الى أن في كل حضارة جانبين، جانب مادي وجانب لامادي. في حين أن الثقافة تشمل فقط الجانب اللامادي. ولذلك تبقى الثقافة مظهرا من مظاهر الوعي الحضاري الذي يستوعب الإنسان من خلالها كل ما يدور في العالم، وتؤهله لكي يكون منسجما مع الواقع، وشفافا في التعامل مع الآخر، ومتفهما معه بالرغم من اختلافه في أمور كثيرة.
ومن الطرق المهمة جدا في انتقال الثقافة والحضارة من جيل إلى جيل، هي التنشئة الاجتماعية التي يتم من خلالها تشكيل الأفراد منذ طفولتهم لتمكينهم من المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة. وبذلك تضمن الثقافة استمرار حضارة المجتمع، وصيانة قيمها وتقاليدها، وكافة أنماط السلوك والعناصر الثقافية فيها.
وجدير بالانتباه إن الكثير من العلماء والباحثين يميزون بين الحضارة والثقافة إلا أن البعض منهم يرفضون التمييز، ويعتبرونه جهدا مصطنعا سببه الترجمة من اللغات الاجنبية. وأن اللفظتين (الحضارة والثقافة) بحسب رأيهم، هما بمعنى واحد. ويؤكدون على أننا لا نستطيع أن ننظر الى حضارة مادية وحدها، مجرّدة مما لها من الآداب والفنون والتراث والفلسفة. ولهذا فإن البعض من العلماء، يجيزون تعريف الحضارة بإسلوب يجمع بينها وبين الثقافة.
فالحضارة إذن هي الثقافة (Culture) بالمعنى الواسع للكلمة. ولكن مع وجود تمييز واختلاف بينهما فيما يتعلق بالأمور الذهنية بالنسبة الى الثقافة. وبالأمور المادية بالنسبة الى الحضارة. ولهذا غالبا ما تعرّف الحضارة على أنها: الإطار العام الذي تشترك فيه الثقافات المختلفة، وجميع مكوناتها من اللغة والعادات والتقاليد والفنون والفلكلور والأفعال والامكانات الاجتماعية التي يستحصلها الانسان من خلال امتلاكه لكل الوسائل التي تكوّن الوجود المستمر لأمة ما أو لشعب من الشعوب. أو هي بحسب علم الاجتماع: المُركب المتجانس من الذكريّات والتطوّرات والقيّم والرموز والمتغيّرات والإبداعات التي تحتفظ بها الجماعة البشرية بهويّتها الحضارية في إطار ما نعرفه من تطوّرات بفعل ديناميكيتها الداخلية، وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء.
ولذلك فالحضارة بكل مكوناتها وفعالياتها، بحسب معظم الباحثين والمختصين هي الثقافة الديناميكية الحيّة التي يجب أن يظل مشعلها مضيئًا في كلِّ العصور والاجيال. وتستمد تطورها وإبداعها من الديناميكية ذاتها، على نحو يُحافظ على خصوصيتها. وقد اعتمدت كل حضارة عبر التاريخ على غيرها من الحضارات كما حدث في الماضي مع الحضارة العربية الاسلامية، التي اعتمدث كثيرا على الحضارات الاخرى كاليهودية والفارسية والاغريقية والسريانية في نمط البناء والفنون والأحرف الابجدية. وكما حدث أيضا في القرن العشرين بالنسبة الى الحضارات في الصين أو اليابان أو كوريا الجنوبية التي إعتمدت على غيرها من الثقافات والحضارات، وقلدتها في كثير من الأمور الصناعية والفنية والاقتصادية والاجتماعية مع احتفاظها بخصوصيتها وتقاليدها ومقدساتها.
وقد اعتمدت التعريفات القديمة للحضارة، كثيرا على المفاهيم المحلية والضيّقة. ومنها تعريف (رالف بيدينغتون) الذي وصف الحضارة: بأنها مجموعة من الادوات المادية والفكرية التي يستطيع بها ذلك الشعب، اشباع حاجاته الحيوية والاجتماعية ويُكيف نفسه لبيئته. وكذلك تعريف (ادوارد تايلور) الذي وصفها أو عرّفها: بأنها ذلك الكل المركب الذي يحتوي على المعلومات والمعتقدات والفنون. وكذلك تعريف (وول ديورانت) مؤلف (قصة الحضارة)، الذي عرّف الحضارة بأنها: نظام اجتماعي يُعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون. وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين استخدموا المفردات المختلفة للتعبير عن معنى الحضارة، ولكنهم يجمعون على رأي واحد مع الاختلاف في استعمال المفردات.
وجدير بالاشارة أن ما يتركز عليه مفهوم أي حضارة في العالم هو الطاقة البشرية الفاعلة، وذلك بالمثابِرة المستمرة للقدرات العقلية والفكرية والنفسية. فالعقل النيّر هو الاساس والمقياس الحقيقي لبناء ونشوء الحضارات، مع فتح الآفاق العلمية التي أدت الى ممارسة القابليات الذهنية في عملية التعلم والتعليم. وأما المقومات المادية والطبيعية كالماء الوفير والمناخ المعتدل والأرض الزراعية الخصبة التي اعتمد عليها الانسان، واستخدمها في تحقيق النمو الاقتصادي والنهضة الصناعية والتقنيات التكنولوجية، فلها ضرورتها وأهميتها أيضا، ولكن ليس بالاهمية نفسها كالقابليات العقلية والفكرية. إذ نجد كثيرا من البلدان التي تتوفر فيها كل هذه المعطيّات المادية والطبيعية، ومع ذلك يصيبها التخلف والخمول في كل شىء. بينما تفتقر بعض الدول الى تلك المصادر، ومع ذلك تتطور في جميع الميادين العلمية والتقنية.
ولهذا فإن الانفتاح الفكري والثقافي، هو ضرورة حتمية لأي تطور ونهضة في المجتمعات البشرية. إذ يحث المجتمع ويدفعه الى البناء والتقدم والازدهار، على مستوى الفرد والجماعة. ولكن الانغلاق الفكري، وبفعل التطوّر السريع في جميع الميادين، أصبح اليوم أمرا مرفوضا وغير مقبول. لأنه يقيّد الفرد والمجتمع، ويُبقيه متخلفا، حتى ولو إمتلك كل الموارد الطبيعية والبشرية.
ولعل من أهداف الحضارة الانسانية المعاصرة الجوهرية والمهمّة، ايجاد السُبل الكفيلة لإيصال التقنيات التكنولوجية الى أكبر عدد ممكن من البشر، سواء عن طريق الانترنيت أو الشبكات الفضائية أو الاتصالاتية. ومما ساعد على تحقيق هذا الهدف، هو التقريب في المسافات، وإزالة الحواجز العرقية والدينية والجغرافية بين الأفراد والشعوب والدول.
فالحضارات السابقة كانت إما زراعية ترتكز على تربية المواشي وجمع الطعام وزرع البذور والحبوب والأشجار بأنواعها. أو كانت تدعو الى الصراع والحروب والسيطرة على مقدرات الشعوب الاخرى. أو كانت مُشبعة بالأفكار السياسية والآيديولوجية، كما شهد القرن العشرين، نشوء المعسكر الغربي الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والمعسكر الشرقي الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الوسط المسمى بمعسكر عدم الانحياز. والتي أدت الى نشوء معسكرات اقتصادية وسياسية متنافسة، أوصلت البشرية الى فترات حرجة جدا، كادت تقضي على وجود الجنس البشري بأكمله.
ومن الأسباب والعوامل التي أوصلت البشرية الى تلك المرحلة الحرجة، إهمال الآخر كفرد، وإعتباره وسيلة للوصول الى المُثل العليا، وليس كغاية له قيمته وكرامته. بالإضافة إلى ذهنية العدوان والكراهية ضد الآخر كوسيلة لضمان المصلحة الذاتية. وعقلية النهب والسلب لخيرات الشعوب المغلوبة ومحاولة طمس حضاراتها وثقافاتها العريقة.
ولم تؤدي تلك العوامل كما هو واضح من خلال التاريخ، سوى الى دورة متواصلة من العنف والكراهية التي لا تنتهي إلا بالإعتراف بالآخر، وبوجوده وبآراءه وأفكاره. وتأسيس الاحترام الانساني المتبادل بمعزل عن الأنا والكبرياء والقناعات الذاتية المفرطة. مع تأسيس الفهم الانساني القائم على الحوار والتواصل الحضاري مع الآخر، والذي يحول دون الصدام والتضارب.
فكل الحضارات التي سلبت الحرية الفردية وطعنت في حقوق الانسان، وعملت على سحق الفرد على حساب الدولة والمجتمع والدين، كانت في الحقيقة حضارات استبدادية فاشلة. وثبت التاريخ والواقع فشلها وتحقيق إندثارها.
وما لم تستطع كل تلك الحضارات القديمة النجاح فيه، نجحت فيه الحضارة المعاصرة التي تختلف في فعالياتها ومفاهيمها وممارساتها عن الحضارات السابقة في الفكر والاتجاه والنظرة الى الآخر. وتبدو الحضارة المعاصرة راسخة الدعائم، وثيقة البناء، أكثر من أي وقت آخر. وإن بدت لا دينية المظهر في تطبيقاتها وممارساتها، الا انها ليست بعيدة عن الدين بروحها وارثها وخصائصها. إذ أن الحضارة المعاصرة تشترك مع معظم الأديان في الغاية الرئيسية، والنظرة المستقبلية البعيدة، وذلك بجمع شمل الأجناس البشرية، وانجازاتها المختلفة في مضلة كونية واحدة، تتجاوز حدود الأعراق والأديان والثقافات.
وما يدعونا للفخر والاعتزاز اليوم هو توفر هذه الأجواء في جميع الثقافات والأقطار للعيش في بيئة حضارية واحدة، من أقصى الشرق في اليابان الى أقصى الغرب في الولايات المتحدة، ولتحقيق كيان بشري واحد، عوضا عن بشريات متعددة. وحضارة انسانية واحدة بدلا عن حضارات متعددة منفصلة، كما كان في السابق. ومن الممكن تحقيق هذا المفهوم، بالرغم من الخلافات والاختلافات في القيّم والمعتقدات، وبالرغم من البحار والمحيطات التي تفصل بين الدول والقارات، والتعقيدات الكبيرة في مستوى الفهم والادراك، والتوترات العميقة في العلاقات الدينية، وضعف الحوار بين الاديان والثقافات.
فالمفهوم الجديد للحضارة المعاصرة، يُركز على كل الثقافات والأديان والتقاليد الشعبية، بالاضافة الى القدرات الذهنية والفكرية لكل الأجناس البشرية، وذلك بتوحيد العالم عبر السوق والتقنية، وخلق التجانس الثقافي والحضاري، وتحرير المجتمعات البشرية من الجهل والتخلف، وقيادتها عن طريق سلسلة من المراحل، يتداخل فيها تطور الاقتصاد مع تطور الفكر والعلم والتقنية الحديثة، وإجتماع كل الأعراق البشرية في أسرة واحدة، من دون تمييز في اللون والعرق والجنس والمذهب. وتشكيل الحضارة الكونية الواحدة التي مجالها الكرة الارضية، بحيث تكون نتاجا متجانسا لكل الحضارات الانسانية القديمة.
ولا نستغرب من الانتقادات اللاذعة التي توجه دائما من قبل بعض المتدينين ورجال الدين، مع كثير من المثقفين التقليديين بسبب الجوانب السلبية الواضحة للحضارة الانسانية المعاصرة، ولاسيما في الجوانب الروحية والاخلاقية أو الجوانب اللامادية. إذ تتهم الحضارة الحديثة بكونها إلحادية الإتجاه والهدف، غايتها التسلل الى عقول وقلوب البشر من دون استئذان، ولا رقيب دولي. تنحو بإتجاه محو ذاكرة الشعوب، وإفراغها من انتماءاتها وأصالتها وانظمتها الاجتماعية والدينية. وما نشاهده من انتشار اللامبالات والفتور الروحي، في كثير من الاوساط البشرية في أوروبا والبلدان العلمانية الاخرى، دليل وبرهان على ذلك(بحسب رأيهم).
وكان البابا الراحل (يوحنا بولس الثاني)، من هؤلاء المتشائمين، خاصة في القضايا الاخلاقية، وممارسات الحضارة المعاصرة، وتشجيعها لحالات الاجهاض، وقتل مئات الآلآف من الاطفال غير المولودين كل سنة، ونشر ثقافة الموت الرحيم الذي يتسبب في قتل الحياة قبل أوانها، بحجة إراحة المريض. وانتشار الاسلحة النووية والبايولوجية في كثير من دول العالم. بالاضافة الى الفساد الخلقي، والانتهاكات الصارخة ضد قوانين الله والطبيعة. وإدخال الجينات الغريبة في الارث الجيني للإنسان، وإنتشار الامراض الاجتماعية والنفسية، والانحرافات الجنسيّة والتشرّد والتسكع في الشوارع، والفقر والحرمان بأنواعه المختلفة.
ويرى الذين ينطلقون من المنظور الايجابي، عكس ذلك، إذ ينظرون نظرة متجهة نحو التعاون والتفكير بالآخر، الموجودة في الحضارة المعاصرة. ويدّعون بأن الكوارث الطبيعية التي تحدث في العالم اليوم، لها آذان صاغية، أكثر من قبل. وخير دليل على ذلك ما حدث في البوسنة والهرسك ومقاطعة كوسوفو الصربية، من مذابح جماعية، لم تستطع الشعوب البشرية السكوت عنها. ناهيك عن الفقر والمجاعة في إفريقيا، إذ تحاول الدول الغنية مساعدة شعوبها المنكوبة بكل الطرق والوسائل. والمثال الأقوى على ذلك هو الزلزال الذي ضرب دولة هايتي، وأدى إلى دمار شامل لتلك الدولة، وقضى على بنيتها التحتية، وأدى إلى موت مئات الآلاف من البشر. وما قدمته الكثير من الدول والشعوب لهايتي من مساعدة ومساندة وحملات التعمير وإعادة البناء لهو دليل آخر، يثبت الشعور الأخوي النابع من البشر، والذي يدل على التقارب بين الشعوب، والتجاوب مع آلام وعذابات الذين يقعون فريسة الكوارث الطبيعية والانسانية.
صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز