الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار أملاه الحاضر 14 الشريعة وتطبيق الحدود ...حد الجنايات 4 حد الحرابة 3 مذبحة كربلاء

عبد المجيد حمدان

2013 / 4 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


حوار أملاه الحاضر 14
الشريعة وتطبيق الحدود .....حد الجنايات 4 حد الحرابة 3 مذبحة كربلاء
بادرني محدثي متسائلا : لماذا اختيار معركة كربلاء ، من بين معارك كثيرة أكبر وأهم كثيرا ، موضوعا لحوارنا ؟ قلت : أولا هي مذبحة ولم تكن معركة . وثانيا نحن نستأنف حديثا عن موقف النظام الإسلامي ، والأدق النظم الإسلامية ، من مسألة الصراع السياسي ، إدارته وآليات وأدوات التعامل معه ، وهي ، إدارة الصراع السياسي وحله ، أحد أعمدة الديموقراطية الآن . وثالثا نستأنف الحديث عن مواقف النظم الإسلامية من حقوق الإنسان ، عمود آخر من أعمدة الديموقراطية ، وحيث التباهي بأن الإسلام سبق الجميع في هذا الشأن ، يحتاج إلى سند ودعم تاريخي . قال : ولكن ما علاقة كربلاء ، المعركة كما أقول والمذبحة كما تقول بكل ذلك ؟ قلت : لأنها كما أرى ، وكما سنرى معا ، غنية ، كاشفة وواضحة جدا ، بأمثلة الصراع السياسي ، إدارته وأدواته وآلياته ، وأيضا بنماذج للتعامل مع حقوق الإنسان ، وقبل هذا وذاك بحقيقة أخلاقيات الناس ، والتي توصف بالأخلاقيات الإسلامية ، ويجري تقديمها باعتبارها نموذجا فريدا ، بين النماذج الإنسانية ، من حيث الرقي والأصالة والعراقة . قال ساخرا : أفيها كل ذلك ؟ على بركة الله يا سيدي ،علَّنا ننتفع ببعض علمك .
الأمر لمن غلب :
قلت : تعال نعود قليلا إلى وراء ، باحثين عما يساعدنا على الإمساك بمفتاح من مفاتيح المسألة . قال مبتسما : على بركة الله . قلت : أنت تعرف أن الخلافة آلت لمعاوية بن أبي سفيان ، بعد فوزه في الصراع العنيف والممتد مع الخليفة الشرعي ، علي بن أبي طالب . قال : نعم صحيح . قلت : هي إذن كانت مغالبة فغلبة لمعاوية . قال : وذلك صحيح أيضا . قلت : ولكن خلافة معاوية ، والتي تمت عن طريق المغالبة ، كانت تحتاج لأسانيد تؤكد شرعيتها . قال : وكيف ذلك ؟ قلت : لكي يقبلها المسلمون ، ولا يخرجون عليها ، كانت خلافته تحتاج لقواعد قانونية تستند عليها . وأضفت : هذا بلغة عصرنا ، وبلغة ذلك العصر كانت تحتاج لقاعدة أو قواعد فقهية تؤكد تلك الشرعية وتحظر الخروج عليها . قال : في الحقيقة لم أفهم قصدك . ألم يبايعه المسلمون بعد اتفاقه مع الحسن بن علي وتنازل الأخير له عن الخلافة ؟ قلت : ذلك صحيح . ولكن طريق وصول معاوية إلى الخلافة كان مناقضا لطريق من سبقوه ، أي الخلفاء الراشدين . وكما قلت تم هذا الوصول بطريق المغالبة . وإذن كانت هناك ضرورة لقواعد تضفي الشرعية على هذا الطريق . قال : تقصد تلك القاعدة التي نشأت والقائلة الأمر لمن غلب ؟ قلت : بالضبط هي تلك . وأهميتها أنها كانت توجب الطاعة لصاحب الأمر هذا ، والذي وصل عن طريق المغالبة ، على جمهور المسلمين . أي تلزمهم بالمبايعة فالطاعة ، وتضع الخروج عليه في خانة الكفر ، وهذه مسألة في غاية الأهمية ، لأنها حكمت كل الصراعات السياسية اللاحقة . قال : وكيف ذلك ، لأنني في الحقيقة لم أفهم ؟ . قلت : أنت تعرف أن قتال المسلم للمسلم محرم تحريما قاطعا . ولأن الخلافات على السلطة استوجبت هذا القتال فالقتل ، كان تكفير كل طرف للآخر هو الحل . ولأن الأطراف المتصارعة كانت تتصف بالتزامها الشديد بكل من أركان الإسلام وأركان الإيمان ، وأنها شديدة التدين من حيث حفظ وتلاوة القرآن ، ومن حيث أداء الفرائض ، الصلاة والصيام والزكاة والحج ......الخ ، كان التكفير لا بد أن يحتاج لغير ذلك . وظل الخروج على طاعة الحاكم ، صاحب الأمر ، حسب القاعدة السالفة - الأمر لمن غلب - من جهة ، والطعن في شرعية الحاكم ومن أطاعه من جهة أخرى ، هي المبررات اللازمة والكافية للقذف بتهمة التكفير ، وقناعة كل طرف بصحة ثبوتها على الطرف الآخر . قال: ذلك غير صحيح ، وهو ما يردده أعداء الإسلام . قلت : وكان هذا أحد أسباب اختياري لمذبحة كربلاء ، كي أؤكد لك ولغيرك أن لا دخل بتاتا لأعداء الإسلام ، كما تسميهم ، بهذه المسألة أو بغيرها .
وتابعت : ولم تقف الأمور عند هذا الحد . فالغالب ، كما تعرف ، لا يقبل ، ولنقل يضيق بالمعارضة . وظل يحتاج تبريرا لأفعاله . وأنت تعرف أيضا أن مجموعة ممن وصفوا آنذاك بعلماء الدين ، تسابقوا على تقديم الفتاوى لمعاوية ، ولدرجة أن بعضهم وضع أحاديث على لسان النبي تبرر اغتصاب معاوية للخلافة . ولأن ذلك لم يكن كافيا ، فقد كان الخليفة الجديد محتاجا لتبرير أفعاله ، والكثير منها كان جرائم بحق خصومه – الاغتيالات بالسم مثلا - ، ولحظر المراجعة فيها . وهكذا برزت قاعدة تقول بأن الخليفة وصل الحكم بإرادة الله ، وهو لذلك يحكم بتفويض من الله ، وليس بدوافع داخلية أو ذاتية منه ، أو أن الحاكم هو ظل الله على الأرض ، وما يبدو من فعله شاذا ومنكرا من الناس ، هو مأمور به لأنه مقبول من الله . قال : في الحقيقة لا أعرف إن كان ما تقوله صحيحا أم لا ، أما قناعتي فهو غير صحيح ، وافتراء على الدين ليس إلا . قلت : وإذن كيف تفهم سب علي ولعنه وآل بيته من على منابر المساجد ، وعلى طول الخلافة الأموية ؟ كيف تفهم أن أئمة المساجد ، وهم مسلمون ورعون ، ظلوا يرددون هذا اللعن بعد الدعوة للخليفة الأموي ، وظل المسلمون الورعون يرددون خلفه : آمين ؟ وكيف تفهم أن من لا يفعل ذلك ، من هؤلاء الأئمة ، كان في أحسن الأحوال يعزل ، وفي أسوأها يقتل ؟ وأكثر من ذلك كيف تفسر أن أحدا من العلماء أو الأئمة ، لم يخرج على معاوية معارضا هذا الفعل ، فعل سب علي وآل البيت على منابر مساجد البلاد كلها ؟ قال : وعلائم الحيرة تبدو على وجهه : في الحقيقة لا أعرف .
خلافة يزيد :
قلت : وأنت لا شك تعرف أن معاوية ، بتوريثه الخلافة لابنه يزيد ، قام ، في الحقيقة ، بعملية انقلاب كامل على المنهج الذي دشنه المسلمون لاختيار خليفتهم . وبالمغالبة أيضا حل التوريث مكان الاختيار . واكتفى المسلمون فيما بعد بما وصفوه بحديث للنبي عن انتقال الأمر بين المسلمين من الخلافة إلى الملك العضوض . قال : وها أنا من فمك أدينك . فأنت تعترف أن المسلمين ، حاولوا بانتخابهم للخلفاء الراشدين ، إرشاد البشرية لمنهج جديد في اختيار حكامهم . بمعنى أنهم سبقوا الديموقراطية الحديثة بقرون عديدة . قلت : قولك صحيح ولكن ليس بالمطلق كما تشير . فالتاريخ يقول لنا أن الرومان كانوا هم السباقون في هذا الشأن . أقاموا نظاما جمهوريا استمر لخمسمائة سنة وليس لثلاثين سنة فقط ، كما حدث في الإسلام . ثم انتكست تجربة الرومانيين بعد هذه القرون الخمسة ، ورجع الحكم إلى الملك العضوض . وأيضا ، وأنت لم تقرأ التوراة ، فقد حكم بني إسرائيل بعد يشوع بن نون ، اثنا عشر قاضيا ، كانوا يصلون للحكم بطريقة الانتخاب . لكن هذه التجربة انتكست أيضا ، فبطلب من آخر القضاة ، وهو النبي صموئيل ، وباستجابة من الله لرغبة الشعب ، تحول هذا الحكم إلى الملك العضوض ، بتتويج شاؤول ، باختيار من الله ، بفم صموئيل ، ملكا على بني إسرائيل ، وليتواصل النظام الملكي هذا حتى تدمير مملكة إسرائيل . ولو أنك تطالع ما يقوله علماء الآثار ، ومنهم إسرائيليون ، لقلت : ولكن المكتشفات الآثارية تنفي كل ذلك جملة وتفصيلا ، لقلت لك : ولكن نص التوراة على هذا الأمر ، يعني أن منهج انتخاب الحاكم كان واردا في الذهن على الأقل ، وسبق الإسلام بمراحل عديدة . وبعد هزة من رأس محدثي ، قال ما معناه : في الحقيقة لا أعرف كثيرا أو قليلا عما تقول ، قلت : دعنا إذن ، وبعد هذا الخروج عن السياق ، نعود إليه من جديد .
وتابعت : ومعاوية على فراش الموت أوصى ليزيد – كان خارج الشام - بأن يعمل على أخذ بيعة أربعة امتنعوا عن بيعته ، وهم : عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأشار معاوية بعدم الاهتمام به لانشغاله بالنساء ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وهذا أيضا منصرف إلى العبادة ، ومثله مثل سابقه ، يتبع الآخرين إذا بايعا ، والثالث هو الحسين بن علي ، والرابع عبد الله بن الزبير ، وهما قد يشكلان مصدر إزعاج ليزيد بالمخالفة السياسية ، كما نصفها الآن .
بعد تولي يزيد وجه لواليه على المدينة أمرا مناقضا لوصية أبيه ، ويقضي بإرغام هؤلاء الأربعة على المبايعة – خذهم أخذا عنيفا - . الوالي استصعب الأمر ، واضطر يزيد إلى إعفائه وتولية بديل ينفذ الأمر . واضطر الحسين إلى ترك المدينة ، والاحتماء بمكة . ومن هنا بدأت المشكلة ، مشكلة إدارة خلاف سياسي ، تجلى في صورة الامتناع عن المبايعة من جهة ، ومحاولة الإجبار على المبايعة من جهة أخرى . أي أن لغة القوة كانت وسيلة السلطة للتعامل مع مسألة الخلاف السياسي هذه ، وكل ما لحقها من مثيلات على طول التاريخ الإسلامي . قال : في الحقيقة لم أطلع على هذه التفاصيل ، فمن أين لك إياها ؟ قلت : هي مدونة في كتب التاريخ ، ويمكنك الرجوع إلى تاريخ الطبري وأحداث العام 60 للهجرة ، للوقوف عليها . وبالمناسبة كانت 60 سنة من الحكم الإسلامي ، ومن نجاح الدعوة ، كافية لكي تُزيح ما توصف بالأخلاقيات الإسلامية سالفتها من الأخلاقيات الجاهلية ، وتحل محلها وبالكامل ، وكي تستقر هذه الأخلاقيات الجديدة وتترسخ . والسؤال الذي يواجهنا : هل حدث ذلك بالفعل ؟ قال محتجا : ما هذا السؤال ؟ وهل هناك شك في أن الأخلاقيات الإسلامية ، وهي نقيضة لأخلاقيات الجاهلية ، قد أزاحت الأخيرة وحلت محلها ، وأنها استقرت ، ترسخت وتعمقت . قلت : دعنا إذن ، ومن قراءة مذبحة كربلاء وما بعدها ، نحاول استطلاع ذلك . قال متحديا : موافق ، تعال نفعل ذلك .
المراسلات :
قلت : لنبدأ بعرض الوقائع التي مؤداها أن الحسين ، وهو لائذ بمكة ، تلقى رسائل من الكوفة – العراق – تطالبه بالمسير إليهم ، لإمامتهم وقيادتهم . عرض الأمر على المقربين الذين نصحوه بعدم الاستجابة ، لأنهم – أهل العراق – قد ينقضون عهده ، مكررين ما فعلوه بوالده . لكنه ، وأمام إلحاح المراسلين بعث بابن عمه ، مسلم بن عقيل بن أبي طالب ، إلى الكوفة لاستطلاع الأمر . لم يرق الأمر لمسلم ، ولكنه نفذه التزاما بمبدأ السمع والطاعة لابن عمه ، وهو المبدأ الذي تربى عليه . استقبله الكوفيون ، وبايعت ألوف منهم الحسين – قيل 12 ألفا ، وقيل 20 ألفا - . وأرسل للحسين أن أقدم . في هذه الأثناء طولب والي يزيد ، واسمه النعمان بن بشير ، بالحزم مع مسلم وجماعته فرفض ، لاعتقاده أن ذلك فعل يغضب الله . استبدله يزيد بوالي جديد هو عبيد الله بن زياد بن أبيه ، الذي حين وصل الكوفة ظنه الناس الحسين ، فسلموا عليه مرحبين بابن بنت رسول الله . استغل مسلم حالة الارتباك ، فجمع أربعة آلاف من أنصاره ، بعد أن غير مقامه ، واتجه لاحتلال قصر الوالي . في الطريق أخذ الناس يحذرون أبناءهم وأقاربهم من مغبة ما هم مقدمون عليه . وأخذ هؤلاء ينفضون عن مسلم ، حتى إذا كان على مقربة من القصر ، وكان الليل قد بسط عتمته ، وجد نفسه وحيدا . هام على وجهه لا يعرف إلى أين يلتجئ . ثم وجد نفسه أمام بيت ، بعد أن هده التعب والعطش . طرق الباب ودخل فإذا هو ببيت لامرأة أرملة . طلب ماءا فسقته . ولما تريث في الخروج استرابت وسألته . اعترف لها أنه مسلم بن عقيل ، وحكى عن انفضاض جماعته عنه فأجارته . لكن تصادف أن كان ابنها في البيت ، وهو من جماعة القصر ، الذي انسل خارجا وأبلغ عنه . ولم يفطن مسلم إلا وجنود الوالي قد أحاطوا بالبيت . قاتلهم وجرح . أعطوه الأمان وسلم نفسه لهم . وقلت لمحدثي : انتبه لهذه التفصيلة الصغيرة . لقد أعطوه الأمان . وفي القصر ، ورغم جراحه ، نقض الوالي عبيد الله الأمان ، وأمر بأن يخرجوا به إلى سطح القصر . وهناك ضربوا عنقه ، وألحقوا رأسه بجسده إلى الشارع فتحطمت عظامه .
قلت لمحدثي : أنت ربما تعرف هذه الحكاية . قال : في الحقيقة ليس بهذا التفصيل . قلت : هو تلخيص وليس تفصيل . وقد أحببت أن أعرضه هكذا لأنبهك إلى نقطة مهمة هنا ، وهي أن مسلم بقي وحيدا ولا خطر منه . وقبض عليه بعد الأمان ، وهو جريح ، أو مُرتث حسب التعبير القديم ، ويحتاج المساعدة كإنسان . وبدل الاستجواب والمحاكمة، تم قتله بتلك الطريقة البشعة . قال : ولكن كانت الأمور تجري على ذلك النحو آنذاك . قلت : هذا صحيح . لم تكن هناك من وسيلة للتعامل مع الخلاف السياسي غير تلك . وأيضا لم تكن هناك منظومة لحقوق الإنسان ، تشمل حقوق الأسير والجريح ، فالمحاكمات العادلة ...الخ . قال بعد تردد : نعم هذا صحيح . قلت : وإذن دعنا نعود إلى الحسين ومسيرته .
المسير :
قلت : كان مسلم ، وقد رأى انفضاض المبايعين ، قد بعث للحسين يخبره بما جرى ، ويطالبه بالمكوث في مكة وعدم المسير . لكن الحسين كان قد حزم أمره ، وبدأ الرحلة ، وحين لقيه الرسل في الطريق خالجه الشك ، وواصل المسير . وتسهيلا للحوار سأعرض لك أحداث الرحلة فالمواجهة والمذبحة في نقاط . قال ضاحكا : شكرا على هذا الكرم . قلت : 1) خرج الحسين بأهل بيته ، وبعض بني أعمامه ، أولادهم ، زوجاتهم ، حريمهم ، خدمهم ، دون مرافقة مسلحة للحماية . 2) حمل معه الرسائل التي كانت تطالبه بالمسير إلى الكوفة – العراق - . 3 ) عرف والي الكوفة – عبيد الله بن زياد - بخروج الحسين فبعث بقوة اقتصرت مهمتها على المراقبة ، المتابعة ، وتوجيه المسيرة إلى وجهة معينة ، بعيدا عن القبائل ، لمنع احتمالات طلب نصرتها أو الاحتماء بها . 4 ) دفعت القوة قافلة الحسين في النهاية إلى أرض كربلاء – صحراوية – قريبة من شط الفرات ، لكن مع الحيلولة دون جماعة الحسين والوصول إلى الماء . 5 ) بلغ مجموع من خرج من الرجال مع الحسين 32 رجلا ، انضم إليهم آخرون فرادى ، وأثناء المعركة ، ليبلغ المجموع النهائي 72 رجلا . 6) هنا بعث الوالي بجيش قوامه 4 آلاف رجل أحاط بهم من كل ناحية ، وواصل منعهم من الوصول إلى الماء . 7 ) كان على رأس هذا الجيش ابن صحابي مبشر بالجنة هو عمر بن سعد بن أبي وقاص . قال : في الحقيقة ، وأصدقك القول ، أنا وإن كنت قرأت عن هذه الواقعة ، لكنني لا أعرفها بهذا التفصيل . قلت : مرة أخرى أعيد لك : هذا تلخيص وليس تفصيلا . أردت الالتزام بما هو أساسي ، حتى لا نتوه في التفاصيل .
سلاح التكفير:
قلت : ما شد انتباهي أكثر من غيره ، البحث عن جواب لسؤال يقول : لماذا نفذ المحاصرون مهمتهم بهذا الحماس ؟ لماذا صموا آذانهم عن استغاثات الأطفال والنساء الذين حرقهم العطش ؟ لماذا ، وقد حاور بعضهم الحسين ، الذي عرض عليهم رسائل أهل الكوفة ونداءات الاستغاثة به ، صموا آذانهم ، ومضوا في مهمتهم بكل اندفاع وحمية ؟ ومضيت قائلا : ولم يكن العثور على الإجابات صعبا . الوالي كفر الحسين ومن معه . وسبب كفره أنه خرج على طاعة الخليفة ، بعد أن رفض مبايعته ، وبما وصفه بأنه فرق الشمل وزرع الخلاف المؤدي إلى هلاك الأمة . وجنود الجيش اقتنعوا بكفر الحسين . ومرأى الحسين وهو يصلي بجماعته ، ومعرفة الجيش بصومه ، وتأكدهم من نسكه وزهده ، لم يغير شيئا من هذه القناعة . وأكثر كانوا على قناعة تامة بأنهم بحربه وقتله إنما ينصرون الإسلام ، يعلون رايته ، ويضمنون الجنة ونعيمها ، وحورها العين . والقارئ تصدمه قباحة الجنود وهم يصبون اللعنات على هذا الكافر ، وهؤلاء الكفار الذين خرجوا معه ، ورفضهم طلبه وقف القتال لأداء الصلاة ، حيث لا صلاة لكافر . ثم اشتباكهم اللفظي بالتكفير والسب معه ومع نسائه وباقي حريمه . قال وقد اكتسى وجهه بكل علائم الدهشة : هل ما تقوله حقيقي ؟ قلت : أنا أنقله على ذمة الطبري وغيره من المؤرخين ، ابن كثير مثلا في البداية والنهاية . وأكثر مما سبق : ظل هؤلاء المسلمون ، ومما لا شك فيه أنهم كانوا مسلمين ومؤمنين ورعين ، يتباهون فيما بعد ، بدورهم في إبادة هؤلاء الكفار ، وفي نصرتهم للدين ، وبما فعلوه في قتلهم للحسين ومن كان معه من أهل بيت النبي ، وما تبع القتل من بشاعات وجرائم .
حلول :
وتابعت قائلا : حين بلغ الحسين خبر مقتل مبعوثه ، وابن عمه ، مسلم بن عقيل ، تأكد لديه أن مناصريه انفضوا عنه وخذلوه . ومعنى هذا أن قضيته ستلاقي الخسران لا محالة . إذن وفي اللقاءات مع مبعوثي محاصريه ، بادر هو إلى طرح مقترحات حلول . عرض ، ومرة بعد مرة 1 ) أن يسمح له بالعودة من حيث أتى ، ومن ثم مبايعة يزيد 2 ) إرساله إلى أحد الثغور ، ليحارب ، مثله مثل أي مسلم ، من أجل الفتح ونصرة الإسلام . 3) حمله إلى الخليفة – ابن عمومته كما قال – ليبايعه ويتفاهم معه . ورفضت هذه المقترحات بإقرانها بشرط يقول بوجوب مثوله بين يدي الوالي عبيد الله بن زياد ، وتقديم فروض الطاعة له أولا .
ولأن الحسين كان يرى أن هذا الشرط يعني قتله بعد إذلاله . ولأنه كان يرى ، مثل كثيرين ، أن هذا الوالي ، وهو عبيد الله بن زياد ، أدنى منه ، ومن كثيرين غيره نسبا وشرفا ، ولأنهم جميعا كانوا يقللون من شأن نسبه ، فينادونه بابن مرجانة – أي بنسب أمه ، وتلك مسبة ما بعدها مسبة في عرف العرب – رفض الحسين هذا الشرط ، وعرف أنه سيواجه الحل المعروف في مثل هذه الحالة . وأؤكد هنا ، قلت لمحاوري ، بأنها حالة الخلاف السياسي . أما الخل فهو إبادة الطرف الغالب إبادة شبه تامة – اقتلاع الشأفة حسب تعبير ذلك الزمان – للخصم المغلوب . عرف الحسين أنه مقتول لا محالة ، ولذلك حاول إنقاذ بعض من معه ، بأخذ الأمان لهم ، وإخراجهم من المواجهة . وفشل . ودارت المعركة وقتل الحسين ورجاله جميعا . ولا يقلل من هول هذه الجريمة ، أو المذبحة ، القول بأن الحسين ومن معه قتلوا من خصمهم عددا من الرجال أكبر من عدد قتلاهم . قال محدثي الذي فشلت في قراءة تعابير وجهه وأنا أقول ما قلت : ولكن إلام استندت في قولك أن الحل المعروف ، في مثل هذه الحالة ، هو إبادة الطرف الغالب للطرف المغلوب ؟ ألا يتناقض اللجوء لهذا الخيار الوحيد ، كما فهمت من كلامك ، مع خلق المسلم القائم على مُثُل التسامح والرحمة والعدل ؟ قلـت : هذا ليس قولي أولا ، وليس باستنتاج ثانيا ، وبالفعل يتناقض مع أخلاقيات المسلم ، لو كانت أخلاقياته بالفعل كما تقول . قال : ها قد عدنا إلى الاتهام والتهجم ، وهو ليس ما اتفقنا عليه للاستمرار في الحوار . قلت : إذن تعال نحلل المعلومات المؤكدة صحتها ، لنستطلع شيئا من وجوه الحقيقة . قال : موافق . قلت : سأرتب المعلومات في نقاط لتبسيط المسألة ولتسهيل الوصول إلى النتيجة . قال مازحا : أفدنا يا سيدي أفادكم الله . قلت : 1) بلغ تعداد جيش الوالي ، وبقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص أربعة آلاف حسب كل المصادر التاريخية . 2 ) كان هذا الجيش غير مثقل بعبء حماية النساء والأطفال كما كان عليه حال جماعة الحسين . 3 ) كان هذا الجيش معبأ بفكرة كفر وإلحاد الحسين ، كما وضح من تصرفاته مع الأسيرات ، ونداءاته وسبابه للحسين ومن معه ، ومن ثم بواجب نصرة الدين ، بتخليص الأمة من هؤلاء المارقين الكفرة . 4 ) لم تقنع المهاجمين رؤية الحسين وهو يؤم جماعته في الصلاة ، ومعرفتهم بصومه هو ومن معه – دام الحصار عشرات الأيام - ، بأن الحسين مسلم مؤمن وغير كافر ، وأن قتله ومن معه جريمة لا تغتفر . 5 ) حال الجيش بين المحاصرين والماء ولم يرق قلب أي منهم لاستغاثات الأطفال والنساء ـ وتمكينهم من الماء . 6 ) وقبل كل ذلك كان هذا الجيش قادرا وبسهولة ، على أسرهم أحياء وتقديمهم للعدالة ، لو كانت هناك مثل هذه العدالة . 7) ظل جنود ذلك الجيش العرمرم ، نسبة لعدد المحاصرين ، يؤدي مهمته ، قتل جماعة الحسين ، بمنتهى الحماس والإصرار ، حتى كمال المهمة ، أي قتل كل المقاتلة 8 ) وهذه كنت أنوي تأجيلها ، وعرضها تاليا ، أن المهاجمين ، وبأمر من قائدهم ، كشفوا على الصبية الأسرى وقتلوا كل محتلم منهم . وغمزت محاوري قائلا : وأظنك لا تحتاج لتفسير معنى محتلم ولا لكيفية الكشف عليه .
قلت : الديموقراطية التي ترفضها ، وفرت حلا للصراعات السياسية ، عبر تشكيل الأحزاب وتنظيم الأنصار ونشر الدعوة ثم الاحتكام للصندوق وقبول النتيجة بتداول السلطة . كما حلت قضايا الثوار بتقديم الأسرى منهم للعدالة وكفالة حق الدفاع عن النفس والقضية ، وبظروف إنسانية لائقة لهم قبل الأحكام وبعدها ، وحتى لمن يصدر بحقهم حكم الإعدام . قال : ولكن ذلك الحال لم يكن وقفا على المسلمين ، فقد كان مثل هذا المسلك هو السائد أيامها . قلت : ذلك صحيح . وأسألك : إذن ما الذي يميز النظام الإسلامي على غيره من النظم ؟ ولماذا لم يسبق غيره ، وقدم هو الحلول لمثل تلك الجرائم ؟ قال : حقيقة لا أفهم مغزى سؤالك . قلت : هل دار بخلدك كما يقال ، هل تصورت مدى الخدمة التي كان للإسلام أن يقدمها للمسلمين ، ثم للبشرية ، لو أن محاصري الحسين قبلوا واحدا من خياراته التي عرضها ، وحلت المسألة سلميا ؟ هل بمقدورك أن تتصور كيف كان أسره وتقديمه لمحاكمة عادلة ، أمام قاض محترم ، سينعكس على مجرى التاريخ اللاحق كله ؟ هل بمقدورك أن تتخيل كيف كان ذلك سيلغي من قاموس السياسيين تهم التكفير والقتل على أساسها ، وكم كان سيحقن من دماء المسلمين التي سالت أنهارا ، بسبب الخلاف السياسي ، على مدى عصور الإسلام اللاحقة كلها ؟ قال معترضا : دعني من أسئلتك هذه لأسألك أنا : ألم تلك مشيئة الله ؟ ألم يكن ذلك قضاء الله الذي لا راد له ؟ ضحكت وقلت : لا ، هو في الحقيقة رد العاجز الذي يرد عجزه إلى إرادة الله وقضائه وقدره . قال ضاحكا : يا كافر أليس الإيمان بقضاء الله وقدره من أسس عقيدتنا ؟ قلت : بلى ولكن رد كل شيء إليها ، بدل إعمال العقل ، واستخلاص ما ينفع الناس ، هو موضوع الخلاف هنا . قال : هذه واحدة من خلافاتنا التي لا سبيل إلى اللقاء فيها ، فلنتركها إذن ، ونواصل حوارنا .
بين الحقوق والأخلاق :
قلت لمحاوري : ولأن هناك اختلاط وخلط كبير بين الأخلاق الكريمة ، وفهم الناس لمسألة الحقوق ، حقوق الإنسان الأساسية هنا ، دعنا نراجع معا ما حدث في المذبحة ، محاولين سبر ما قيل ويقال ، عن الأخلاق الإسلامية ، وموقف النظم الإسلامية من حقوق الإنسان . قال : رغم عدم موافقتي على وضع المسألة بهذه الصورة ، كوني لست محتاجا لمراجعة حول قناعتي بسمو الأخلاق الإسلامية ، والاحترام الأكيد لحقوق الإنسان ، إلا أنني سأقبل بالسير معك ، لأرى إلى أين تريد توجيه الأمور وإيصالها . قلت : وأنا سأتجاهل سوء النية هذا ، لأن البحث عن الحقيقة هو ما يعنيني . وأضفت : للتسهيل سأعرض الأحداث ، التي تؤشر على كل من الأخلاقيات ، والحقوق ، في نقاط . قال باسما ، بسمة لم أنجح في معرفة كنهها : تفضل . قلت : 1) لنبدأ من عند عمر بن سعد بن أبي وقاص . كلفه الوالي – عبيد الله بن زياد – بقيادة الجيش واستئصال ما سماها بالمجموعة المارقة . تردد عمر وطلب إعفاءه من المهمة . رفض الوالي . وطلب عمر مهلة للتفكير . ولأنه توصل إلى قناعة بأن عبيد الله سيعاقبه بحجب أي فرصة له في المستقبل ، قبل المهمة . وفي المواجهة تردد عمر ، ثم جاءه من يخبره أن عبيد الله بعث من يتحرى أمره ، وأنه قرر أن يقتله في حال تقاعسه عن تنفيذ المهمة ، فما كان من عمر إلا أن قفز على ظهر حصانه ، وقاد عملية الإبادة للحسين وجماعته بكل همة ونشاط . 2 ) وصل إلى ديوان الوالي ، عبيد الله ، مبعوث من الحسين ، يعرض رؤية الحسين للحل ، وهي الخيارات الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها . فما كان من الوالي إلا أن أمر بإصعاد هذا المرسال إلى سطح القصر ، و بسب الحسين بوصفه الكذاب ابن الكذاب . على السطح رفض المرسال سب الحسين ، ورفع صوته بالدعاء له ، فما كان من حرس الوالي ، وتنفيذا للأمر ، إلا أن قذفوه من على السطح فتكسرت عظامه ، ولكن بقي فيه رمق من الحياة . هنا سارع أحد رجال الوالي إلى ذبحه بحجة تخليصه من معاناته . 3 ) في المذبحة كان كل من يقتل من جماعة الحسين يقطع المهاجمون رأسه . وأحيانا كان المهاجمون يختلفون حول من هو القاتل الحقيقي . وكان أن اختلف اثنان على دورهم في قتل أحد أصحاب الحسين . طلب أحدهم ، لإثبات دوره ، أن يسمحوا له بتعليق رأس القتيل على مقدمة سرج فرسه ، والطواف به ، ليرى المقاتلون ذلك ، ثم يعيده إلى صاحب اليد الأطول في القتل ، والذي سيحمل الرأس إلى الوالي . وهكذا كان . 4) لم يكتف جنود عبيد الله بقطع رأس الحسين ، بل قاموا بقطع رؤوس كل القتلى أل 72 ، ونقلها إلى قصر الوالي في الكوفة ، ومن بعد ذلك إلى الخليفة يزيد في دمشق . ونظرا لطول الرحلة ، وبطء وسائل النقل آنذاك ، وحرارة الصحراء المرتفعة ، يمكن للمرء تصور الحالة التي غدت عليها الرؤوس المقطوعة ساعة وصولها قصر الخليفة في دمشق . 5 ) لم يقف أمر الوالي عند حد قطع رأس الحسين ، بل أمر بطرح جثته ودوسها بحوافر الخيل . وهكذا نفذت مجموعة منهم الأمر ، غادية ورائحة ، حتى سقط اللحم عن العظام ، وحتى هرس هذه العظام . 6 ) تركت الجثث ملقاة في العراء بضعة أيام قبل دفنها من الأعراب المجاورين للمكان ، فهل من داع للتساؤل ما الذي حل بتلك الجثث قبل دفنها ؟ 7 ) لحظة قتل الحسين تكالب المقاتلون على سلب ثيابه وأخذها غنيمة ، وحتى وصل الأمر إلى نعله ، وتركت جثته عارية تماما . 8 ) وكان أن تم نهب كل ما كان في قافلة الحسين ، وحتى ثياب نسائه ، إذ كانت الواحدة ، حسب الروايات ، تنازع الجندي على ثوبها قبل أن ينتزعه عن ظهرها . 9 ) نقلت النساء حاسرات ، والأطفال الناجون من المذبحة ، إلى الكوفة أولا ، ثم إلى دمشق ، ووضعن أمام العيون وهن على هذا الوضع المهين للكرامة الإنسانية ، ولدرجة أن أحد حراس الخليفة يزيد ظل يشير إلى واحدة منهن ،ويطلب من يزيد منحه إياها كسبية وغنيمة حرب . ويُسجل ليزيد رفضه تحويل بنات بيت النبي إلى سبايا ، إماء وملك يمين . 10 ) سأترك العبث في قصر الوالي ثم في قصر يزيد في وجه الحسين وشفتيه بقضيب كان في يد كل منهما ، لأشير أن أجساد المقتولين ، وبينهم 18 من بيت النبي دفنت بدون رؤوسها . ولأقول أن ذلك لم يكن مستغربا ، فعادة قطع الرؤوس ونقلها مسافات بعيدة ، إلى الوالي أو الخليفة ، ودفن الرأس في قطر ، أو مصر كما كان يسمى آنذاك ، والجسد في مصر آخر، كانت عادة شائعة ، رغم أنني لم أقرأ ، ولم أسمع عن رأي الدين في ذلك . 11 ) وأخيرا أود أن أسأل : ما ذنب الأطفال والنساء فيما جرى ، ولماذا ظلوا يؤخذون بجريرة الكبار ؟ أليس لهم حقوق ؟ ألم تكن لهم حقوق ؟
قال بعد طول سكوت : لا أدري ما أقول ، وإن كنت أشم في حديثك رائحة تشيع . أقول أن تلك كانت سمة العصر . الكل كانوا يفعلون هذا ، ولم يكن بإمكان المسلمين أن يكونوا شيئا آخر . قلت : عن أي تشيع تحكي ؟ فمن وقائع تلك المذبحة ، ومما سردت ، يتضح أن المسلمين ، وبعد ستين سنة من انتصار دعوتهم ، ظلوا كما كانوا على بداوتهم ، جفاة قساة ، غلاظ القلوب ، لا يعرفون التسامح والرحمة ، يستحلون النهب والغنيمة ، ولم يأتوا في نظم الحكم بما يميزهم عن النظم الأخرى . والسؤال : لماذا الإدعاء الكاذب بسبق الديموقراطيات الحديثة في كل ما تدعو إليه ؟ قال : لا ، لا أسمح لك بذلك . ودخلنا في عاصفة من الجدل البيزنطي ، انتهينا منها إلى سؤال : ألا ترى فيما يفعله المتأسلمون الآن ، في مصر ، في تونس ، في ليبيا ، وقبل ذلك في العراق ، والآن في سوريا ، تكرار طبق الأصل لما جرى في هذه المذبحة ؟ وأتبعته بسؤال آخر : وماذا عن القضاء ؟ أين كان من كل ما كان يحدث ويجري ؟
القضاء :
قلت لمحدثي : أنت ربما لاحظت أن المؤرخ ظل يختم أحداث السنة بالقول : حج بالناس فلان ، وكان على ولاية المصر – المدينة ، مكة ، الكوفة ، البصرة ، مصر ، اليمن ...الخ ،- فلان ، وعلى القضاء فلان . ووقت أحداث كربلاء كان على قضاء الكوفة القاضي شريح . وعبثا بحثت عن دور للقاضي في هذه الأحداث ، وعن دور لأي قاضي ، في الأحداث التي تلتها ، والتي كانت تكرارا شديد الشبه بها . وفي البحث عثرت على دور مؤسف للقاضي شريح . فكما سبق وأشرنا ،انتقل مسلم بن عقيل ، قبل محاولة الهجوم الفاشلة والبائسة على قصر الوالي عبيد الله ، إلى بيت شيخ من شيوخ القبائل ، اسمه هانيء بن عروة . عرف الوالي بالأمر فاستدعى هذا الشيخ ، الذي أوضح أن مسلم لاذ به ، فأجاره كما يقضي العرف وتقتضي التقاليد والعادات . طلب الوالي من هانئ تسليمه مسلم فرفض هانئ . ضربه الوالي بعصا في يده على وجهه فأدماه . حاول هانئ الدفاع عن نفسه بسحب سيف حارس يقف جواره . قال الوالي : لقد حكمت على نفسك . بعد ضرب وإيذاء نقل الرجل إلى السجن . وحين سمعت قبيلته بما حدث جاء رجالها لإنقاذه . هنا بالتحديد جاء دور القاضي شريح . طلب إليه الوالي الذهاب إلى السجن لرؤية هانئ ، والخروج إلى قبيلته وطمأنتها بأن الأمر لا يعدو حديثا مع الوالي . صدع القاضي للأمر . قابل السجين الذي استصرخ ضميره بأن لا يفعل ما أمره به الوالي . قال : ويحك والله إنه لقاتلي . ومع ذلك خرج القاضي وطمأن أهل هانئ وأنه رآه حيا . وثق هؤلاء الأهل بكلمة القاضي وتفرقوا . وقتل الوالي السجين بعد قليل . قطع رأسه وأرسلها مع رأس مسلم إلى يزيد . وأضفت : ملخص قصة كربلاء أن القضاء لم يكن مستقلا عن السلطة التنفيذية . كان تابعا لها . ولم يكن له أي شأن بالخلاف السياسي . الحكم بقتل المعارضين وتنفيذه ، ظل من اختصاص الحاكم وحده . لا فصل مطلقا بين السلطات الثلاث ، والتي تجتمع معا في يد الحاكم . هذا الفصل الذي يعد عمودا أساسيا من أعمدة الديموقراطية . والقول بأن الشورى بديل للديموقراطية عبث يؤكده تاريخ النظم الإسلامية كلها . وسألت محدثي : حين ترى ما يفعل الإخوان بقضاء مصر ، ألا تذكرك أفعالهم بشيء ؟ قال محتدا ، وقد لاحظت على وجهه علائم غليان آخذ في التصاعد : لا أفهم قصدك . قلت : إذا نظرت إلى أفعال الإخوان ، ومواقف رئيسهم ، فيما سمي بالإعلان الدستوري ، ثم تحصين قرارات الرئيس ، للاحظت أنهم مخلصون للتاريخ ، فهم لا يؤمنون باستقلال القضاء ، ولا يرون له أي دور في حل الخلافات السياسية ، كما ولا يرون أن للنائب العام أي دور يناقض دور القاضي شريح ، وسائر القضاة الآخرين ، فيما مر على النظم الإسلامية من صراعات وحلها ز
وقف محدثي قائلا : لا ، لقد تطاولت كثيرا . والله لا يحل مجرد الجلوس معك ، ناهيك عن حوار . وصفق الباب وراءه خارجا .
وبعد :
شهدت السنوات التالية ، وعلى طول خلافة عبد الملك بن مروان ، تكرارا لحوادث الصراع السياسي ، وتطابقا شبه تام لأحداث مذبحة كربلاء . بداية نشأت جماعة الثأر والانتقام لدم الحسين . ولأن هذه الجماعة حركها بالأساس وخز الضمير بسبب التغرير بالحسين ، وإغرائه بالخروج ، ثم بالتخلي المعيب عنه ، فقد ظلت تسعى لإراحة الضمير بالموت مثله . ثم تحولت هذه الجماعة ، وتحت ضغط عذاب الضمير إلى طائفة الشيعة . وظلت ، وماثلتها الخوارج في ذلك ، ما أن تشعر باشتداد في ساعدها ، حتى تخرج على الوالي ، وتصطدم مع جيوشه ، فتقتل ، وتروي بعض الظمأ من الانتقام ، ثم تباد إبادة شبه كاملة . وفي وقت لاحق ، قويت هذه الجماعة وسيطرت بقيادة شخص اسمه المختار بن أبي عبيد على الكوفة ، وهرب واليها ، عبيد الله ، إلى الشام . وفي فترة حكمها قبضت على كل من شارك في مذبحة كربلاء ، بمن فيهم القائد عمر بن سعد بن أبي وقاص ، وقتلتهم بذات الطريقة التي سبق وأن رووها عن قتل الحسين وجماعته . ثم دارت الدائرة وقتل أنصار الخليفة كل شخص من هذه الجماعة وعلى رأسهم المختار بن أبي عبيد . ولأن قاعدة الأمر لمن غلب ظلت هي السائدة ، فقد ندر أن تخلو سنة من سنوات حكم بني أمية ، لم تخرج فيها مجموعة مناوئة ، ترى في قوتها الكفاية لإحراز الغلبة ، ولينتهي الحال بمذابح وقطع رؤوس ، ونقل هذه الرؤوس من مصر إلى آخر . هكذا مثلا قطع عروة بن الزبير رأس عبيد الله بن زياد ، ثم جاء الحجاج وقطع رأس عروة ، ولتظل دائرة القتل تواصل دورانها ، ولتطال كل الأمصار وكل القادة تقريبا . أما عن الجنود والأتباع ، وعن سبي الأطفال والنساء ، فحدث ولا حرج .
والخلاصة أن العالم كله غرق في دوائر الموت تلك آنذاك . الدوائر التي ظلت نتيجة طبيعية للصراع السياسي ، ولسيادة قاعدة الأمر لمن غلب . ولم تخرج البشرية من هذه الدائرة الحمقاء إلا بولادة ونشوء وتطور الديموقراطية ، التي لم يكن للنظم الإسلامية أي حظ بالمساهمة فيها ، بل وما تزال حجر عثرة يقف في طريقها .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاخامات يهود يمزقون علم إسرائيل خلال مظاهرة في نيويورك


.. بايدن يؤكد خلال مراسم ذكرى المحرقة الالتزام بسلامة الشعب الي




.. نور الشريف أبويا الروحي.. حسن الرداد: من البداية كنت مقرر إن


.. عمليات نوعية لـ #المقاومة_الإسلامية في لبنان ضد تجمعات الاحت




.. 34 حارساً سويسرياً يؤدون قسم حماية بابا الفاتيكان