الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاموس يمشي على قدمين

لطيفة الشعلان

2005 / 4 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا أعتقد بأن الأشقاء المصريين وحدهم من يؤلهون رموزهم التاريخية والأدبية والفنية، فهذه النزعة أشبه بالداء المخامر فينا جميعا، وإن بدرجات متفاوتة. الحكاية ان زميلة لي أطلعتني على دراسة اجراها أحد طلبة البكالوريوس في إحدى الجامعات المصرية عن أم كلثوم مستخدما منهج التحليل النفسي. وللحق فإن الدراسة أعطتني منذ الوهلة الأولى الشعور بقداسة هذه الفنانة الاستثنائية، كما سبق وفعل بي المسلسل الذي مثلته الجميلة صابرين قبل إعتزالها.

أتصور انه يصعب انكار جاذبية أو لذاذة التحليل النفسي حتى للقراء العاديين، بما فيه من سبر للمكبوت، وتلصص على التفاصيل المخبوءة من حياة الأديب أو الفنان، لكن المشكلة تأتي حين يحيله البعض، خاصة في التطبيقات العربية بفعل التفكير الوثني والتصورات المسبقة، إلى مجرد معالجة مثالية، تضيع فرصة النفاذ إلى أسرار النفس الانسانية، وتطمس أي أثر للمقاومة، أو تنكر أي ملامح للضعف أو النقص أو الأخطاء البشرية، إلى حد ان ننتهي بشخصية باردة، وغير مألوفة، وليس لها صلة بمجرى الحياة الواقعية. فهل كانت أم كلثوم إمرأة كباقي النساء، تأكل وتشرب، وتحنو وتقسو، وتعشق وتهجر، وتصدق وتكذب، أم كانت ملاكا تغفو العصافير تحت ابطيها ؟

في مقابل هذا، قد نجد من يستخدم التحليل النفسي بشكل تعسفي ومغال، يجعل منه آداة دمغ أو تصنيف، جل همها حشر أديب أو فنان ما، ضمن أحد النماذج التحليلية الفرويدية، بشكل يجافي الحقيقة.

أضف لذلك أن القصور قد لايتوقف على المشكلة المنهجية أو التطبيقية وحسب، ولكنه سيمتد إلى الطبيعة المزدوجة للمثقف العربي، والتي تجعل منه أفضل من يمارس التقية. أو أن يكون صاحب مبادئ في الظاهر، ومهرجا بياع كلام في الباطن. أو ملتزما بقضية فلسطين وساحل العاج في القصائد والمهرجانات والندوات الفضائية التي يطير فيها رذاذه المحمل برائحة الثوم صوب جبين فيصل القاسم، ومتهتكا عربيدا في مجالسه الخاصة. بالتالي، أي الشخصيتين يدرسها الناقد النفسي، الذي استعار منهجه من ثقافة شفافة متصالحة مع نفسها، لا تعرف هذه الشيزوفرينيا التي تشطر الذات إلى اثنتين، والشعور إلى شعورين.

إن السؤال الذي يفرض نفسه على ناقد نفسي يعول كثيرا على التنقيب في سيرة المبدع وحياته الحميمة، هو: إلى أي حد يكون هذا البحث الخصوصي - إن صحت التسمية - متاحا أو مشروعا في الثقافة العربية القائمة على التابو. ففرويد يعطي أهمية قصوى للحوافز اللبيدية المكبوتة، وللحياة الجنسية تحديدا في تقصي التجربة الإبداعية .. فمن سيجرؤ بيننا؟! لقد فسر فرويد اتجاه ليوناردو دافينشي في أعماله المتأخرة إلى رسم شباب يبدون سعداء وراضين بميولهم المثلية، باعتباره شكلا من السلوى أو العزاء لإفتقاده للسعادة والرضا في حياته الواقعية، حيث قاسى بسبب مثليته. سهيل ادريس حين أراد الكشف والسيرة سيرته هو، اختار ان يكشف سر والده.. ميول والده المثلية ! أما سهيل نفسه فلم نعلم من تاريخه الحميم إلا معاناته النفسية من قصر القامة والبلادة في مادة الحساب! فيالها من أسرار حربية ! هذا مادعاني ذات مرة لكتابة مقال عن سيرة سهيل ادريس عنونته بـ "ليس الفتى من قال فعل أبي".

على أي حال يبقى أمام الناقد النفسي باب موارب، إذ يقرأ في نتاج الأديب أو الفنان ثم يخرج منه بمفاتيح تاريخه الشخصي وحياته المطمورة، أو يقابل بين ما وجده مضمنا شعوريا ولاشعوريا في ابداعه، وبين سيرته واعترافاته العلنية، بحيث يركب في نهاية المطاف صورة متماسكة. طبعا هذا لاعلاقة له مطلقا بالتخمينات والهواجس، وتجميع نتف مبعثرة من هنا وهناك، ودردشات بين الأصدقاء مقطوعة من سياقاتها. فالناقد النفسي لن يقبل منه مثلا منهج رجاء النقاش الذي أوصله إلى أن أنور المعداوي كان عاجزا جسديا، وان هذا العجز هو الذي وقف بينه وبين الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي أحبته وأحبها، ووقف بينه وبين المرأة عموما.

من جهة ثانية، قد لاتكون هناك دائما ضمانة من ان الناقد لن يقع في شراك منهجه. فعلى الرغم من ان حياة نزار قباني النفسية وجل محطات حياته الحساسة، كانت مكشوفة للناقد اللبناني خريستو نجم، الا أن ورطته في تقديري كانت حينما وقع في شراك منهجه. فهو لم يترك عقدة نفسية إلاونسبها لنزار: من العصاب إلى النرجسية إلى العدوانية إلى الذوبانية والتي عنى بها ان نزار أنثوي الاحساس جراء فجيعته بموت أخته العاشقة التي فضلت الانتحار على قبول





تزويجها بغير حبيبها، إلى الفيتيشية وهي التعلق العاطفي بقرط امرأة أو جوربها أو قطعة من ملابسها الصغيرة بدلا من التعلق بالمرأة ذاتها، إلى الانطواء إلى النكوص إلى توثين الذات إلى الاكتئاب إلى الدنجوانية المخلوطة بدونكشوتية إلى قلق الانفصال إلى قلق زوال المجد إلى قلق الموت، وهلم جرا، لدرجة يأتيك معها الاحساس بأن نزار كان قاموسا من العقد النفسية، لكنه ذلك القاموس الذي يمشي على قدمين ويقطف الورد ويتغزل بكل صبية عبرت الرصيف.

طبعا لست مهمومة هنا بدفع هذه العقد عن نزار، لإنني أصلا لا أعد أكثرها دليل رداءة أو دونية، ولإنني ممن يعتقدون بصلة واضحة بين الإبداع والعصاب، وكذلك لإن معظمها ظهر في كتاب على حياة نزار، وقد ذكر نجم ان نزار نفسه امتدح الكتاب، لكنني قصدت التنبيه لإحدى حبائل النقد النفسي. فالناقد ربما يفترض سلفا ان هذا الأديب أو ذاك الفنان يعاني من قائمة طويلة عريضة من العقد النفسية، ثم يبدأ في جمع الشواهد والأدلة المعضدة من سيرة الفنان الشخصية وأعماله الإبداعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القضية الفلسطينية ليست منسية.. حركات طلابية في أمريكا وفرنسا


.. غزة: إسرائيل توافق على عبور شاحنات المساعدات من معبر إيريز




.. الشرطة الأمريكية تقتحم حرم جامعة كاليفورنيا لفض اعتصام مؤيد


.. الشرطة تقتحم.. وطلبة جامعة كاليفورنيا يرفضون فض الاعتصام الد




.. الملابس الذكية.. ماهي؟ وكيف تنقذ حياتنا؟| #الصباح