الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
بشتئاشان.. المجزرة التي تُروى خفية
نصير عواد
2013 / 5 / 1الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
عندما تُهزم سلطة الدولة القمعية(ديكتاتورية، عنصرية، طائفية) ستذهب مفرداتها، من سلام جمهوري وعلم دولة وشعارات، صوب النسيان، وتُستبدل أسماء الشوارع والساحات والحارات والمطارات، بل وتتغير حتى المناهج التعليمية. وما حدث بالعراق بعد سقوط الديكتاتور دليل قريب على ما نقول. وعندما تُهزم الثورة، التي اكتسبت شرعية نضالية وأسماء ودماء، ستتحول إلى قضية رمزية في الذاكرة الاجتماعية، يمكن استدعائها وإعادة انتاجها نثرا وأفعالا ومواقف، بصحبة هالة من التعاطف والاحترام. ونزعم أن مجزرة بشتئاشان التي نفذها حزب الرئيس العراقي جلال الطالباني (أوك) عام 1983 هي واحدة من تلك الحكايات القادرة على البقاء والتي لا تخلو من شذرات اسطورية مغطاة بركام من تراب الحروب والنسيان. وبما أن الثورات المهزومة كثيرة، وأن الحقوق الضائعة أكثر، نجد أن الذاكرة الشفاهية غالبا ما تتبنى الحفاظ على الحكاية، وتزداد عمقا وتنوعا في ألوان الحكي كلما ابتعد الزمن، قد تنصف الضحايا وقد تروي تاريخا مجاورا.
رغم الطابع السياسي الذي دمغ تجربة الأنصار الشيوعيين بكردستان العراق إلا أنه ليس الوحيد الذي نسج هالة الأسطورة من حولها، وليس فقط الانتصارات العسكرية والبطولات الفردية هي التي فعلت ذلك، وليس فقط الظواهر والقيم الإنسانية الجديدة التي حملتها معها يوميات الأنصار المهلكة بل هو كذلك مأساوية وعزلة احداثها، وهو استعصاء هذه الأحداث على النسيان وعلى أن تكون ورقة في اللعب السياسي. هذا الاستعصاء هو الذي احرج السياسيين من الجانبين وجعلهم يتذكرون أسماء الشهداء، أكثر من تَذكّرهم أسم القاتل وأسباب القتل.
من الظواهر التي حفرت تضاريس الأسطورة في تجربة الأنصار الشيوعيين في جبال كردستان العراق وجود مقاتلين غير حزبيين يقاتلون إلى جانب الشيوعيين. ونحن بعد كل هذ الأعوام نستذكر بحيادية نكران الذات والوطنية الملتهبة التي دفعت إلى الجبال بمواطنين ليسوا حزبيين للنضال ضد الديكتاتورية والاستشهاد تحت راية الحزب الشيوعي العراقي. ومن الظواهر المؤلمة أن التجربة كانت، في أحد تضاريسها، درسا مبكرا وقاسيا لمن لم يبلغ العشرين من عمره بعد، وهم كثر ما زلت أرى وجوههم وأتذكر براءتهم وأحاديثهم عن خروجهم الأول من ديارهم. امتحنتهم التجربة بالجوع وعلمتهم أصول الرفقة وأدخلتهم في حركة التاريخ. في الحقيقة كانت الظروف قاسية على الجميع بمن فيهم أصحاب الخبرة والتاريخ والمسؤولية، تجلت في حيرتهم وفي عدم اخفائهم حقيقة صعودهم للجبال من دون مشروع واضح أو مكتمل المعالم؛ بمعنى أن الشباب والشيوخ، ومعهم كل واصل جديد، ساهموا كل بقسطه في بناء التجربة الأنصارية ورسم معالمها الوطنية.
الأنصار تجولوا بين سفوح كثيرة، بكرامة لا تعلوها سوى قمم الجبال، ولم يسألوا أنفسهم يومها كم من الصبر ومن القناعات الفكرية يحتاج النصير لكي يبقى معزولا في الجبال كل تلك الأعوام، محروم من ضحك الأطفال ومن دلع النساء وطبيخ الأم. الانصار الذين تربوا على حكايات النضال والنظريات العظيمة وانتقلوا من التنظيم السري إلى القتال في الجبال أدركوا، في أكثر من مناسبة، أنهم يراوحون في مكانهم ويخسرون الشهداء والأعوام، في حين يزداد الديكتاتور عنفا وشراسة. فمن مصائب الأنصار أنهم ورثوا عمن سبقوهم عادة النضال من دون نتائج نهائية إيجابية، ولمسوا متأخرين حقيقة أن الحياة أكثر قسوة من احلامهم، وسمحت لهم فقط بالمسير وتقديم الاضحيات. لكنهم استمروا يقاتلون، وكان سقوط شهيد وأحد يغير أحوال رفاق السرية في الطعام والكلام، يبقوا فيها أيام وأسابيع يحاصرهم الحزن والكوابيس والمعاناة وكأن شيئا قد كسر في أرواحهم، فكيف بسقوط العشرات من الشهداء في معركة واحدة ارتكبت فيها ممارسات اجرامية وشوفينية تجلت في قتل الأسرى وتشويه جثث الشهداء؟ إنها بشتئاشان.
عندما تصبح الحادثة جزء من ذاكرة الشعوب سيلجأ آخرون، كل حسب ظروفه، إلى مواجهتها والتهوين من حضورها. وليس غريبا أن تتعالى أحيانا بعض أصوات "المهونون" من مجزرة بشتئاشان مطالبة بالصفح والتسامح، وهذا شيء جميل، إلا أن عيب هذه الأصوات هو نسيانها حقيقة أن القاتل ما زال طليقا ولم يعتذر عن أو يعترف بجريمته، الأمر الذي يجعل عوائل الضحايا ترى في هذه الأصوات رصاصة متأخرة ضد الشهداء، أو هي في أحسن الأحوال دعوة للصمت والنسيان. أما الحزب الذي صنع التجربة وزين للشباب التضحية من أجل المبادئ فغادر هو الآخر مع من غادروا وصارت دماء الشهداء لا تناسب ظروفه الجديدة، ثم فضّل الصمت وترك ما حصل ببشتئاشان لقادم الأيام. الحق يقال أن البعثيين هم الأكثر صدقا ووضوحا من غيرهم ولجأوا منذ البداية، وما زالوا حتى اليوم، إلى التشكيك بالتجربة كلها ووصف الأنصار بالقتلة والعصاة والخونة بسبب معارضتهم للديكتاتور وعدم وقوفهم إلى جانب جيشه أثناء الحرب العراقية الإيرانية، شمتوا باقتتال القوى الوطنية وهللوا لاستخدام الأسلحة الكيمياوية وتصفيتها نهائيا. أما نحن، وقود التجربة، فنرى في تنوع المواقف وخلط الأمور شيء طبيعي ودليل على حيوية التجربة وحضورها في تاريخ العراق المعاصر. ولا نريد أن نقنع أحدا بحقيقة أننا ما زلنا نحمل معنا كيسا من الذكريات أثقل من الحجر، وما زالت الوجوه التي سقطت ببشتئاشان مثل نسمة بمخالب، تنعش ارواحنا وتعمق فيها الحزن والألم. فنحن، عوائل الشهداء، ندرك جيدا أننا أصحاب حق وأن عزلتنا بدأت في اللحظة التي أشرنا فيها للقاتل وطالبنا فيها بحقوقنا المشروعة من رئيس دولة منافق يرفض التوقيع على قرارات الاعدام بحق القتلة والجلادين في حين يبيح لنفسه وحزبه قتل الأسرى والجرحى والأبرياء. وعندما نتحدث بصوت عال فنحن لا نفضح سرا أو نلفق تهمة يتعذر اثباتها، فكل شيء حدث في وضح النهار وأمام الأعين، لكننا نحاول جلي الرمز وصقل مفرداته ومده بأسباب البقاء في الحكاية.
عوائل الشهداء والناجون تمسكوا بأحقيتهم في رسم اللوحة المؤلمة لمجزرة بشتئاشان، ثبّتوا فيها الأسماء وحدّدوا الأمكنة وسمّوا القاتل. صحيح أنهم اختلفوا في رسم التفاصيل وتبادلوا التهم والشتائم الصغيرة، وحرّضوا بعضهم البعض على عدم النسيان، ولم يسامحوا من توقف فقط عند الجانب الكالح من التجربة، ولكنهم بالنهاية حاولوا أن يقولوا شيئا يوثق للمجزرة ويحافظ على رمزيتها ومدلولاتها الوطنية.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. محمد نبيل بنعبد الله : صفقة أكبر محطة لتحلية المياه فازت به
.. علم الحراك الشعبي في سوريا لعام 2011 شوهد وهو معلقا خارج الق
.. حماس تطلب من الفصائل الفلسطينية إعداد إحصاء دقيق للرهائن الإ
.. ساعة جمال عبدالناصر في مزاد علني بنيويورك
.. سوريا: مواطنون غاضبون يهاجمون سفارة إيران في دمشق