الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن صياغة عقل جديد للشرق

مسعود محمود حسن

2013 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



حين تفتح كتاب العقل الشرقي, يمتلأ المكان برائحة الجثث المتفسخة, ويغوص الوعي في مستنقع آسن من المصطلحات والمفاهيم المتعفنة الصدأة. فالطريق إلى العقل الشرقي ملغّم بالاحتقانات الموروثة من عصور الأسلاف والأمم البائدة. في الشرق كأن الجسد وحده يتجدد ويأخذ أشكالا جديدة توائم العصر. أما الوعي فهو قالب مقدس يرثه اللاحقون عن السابقون دون مراجعة أو نقد أو تقييم.
حاول العديد من مفكري الشرق اقتناص العقل الشرقي أو اغتياله بطريقة ما. في محاولة منهم لإعادة صياغة هذا العقل وفق قيم ومفاهيم جديدة معاصرة تمكن المجتمعات الشرقية من اللحاق بالركب الحضاري الذي تأخر عنه كثيراً. وبعد سنوات طوال قضوها في تجاربهم ومحاولاتهم وجدوا أنفسهم ما زالوا في المربع الأول, وأن جهدهم ذهب سدى أدراج الرياح. من هؤلاء على سبيل المثال المفكر السوري أدونيس الذي قدم أطروحة في تغيير العقل الشرقي تقوم على قطع الصلة بينه وبين التراث قطيعة تامة وعامة ومطلقة, سعياً للوصول إلى جيل جديد لا يحمل بوعيه أي مفاهيم وقيم تراثية. نقوم بعدها بملء هذا الوعي بثقافة معاصرة هي مزيج من القيم والمفاهيم والأخلاق التي يسلّم بها كشروط ومقدمات لحياة حضارية صحية إن جاز التعبير. ورغم أن أطروحة أدونيس مهضومة نظرياً إلا أن تطبيقها على أرض الواقع أثبت فشله لأسباب عديدة؛ أولها: أن القطيعة المطلقة مع التراث يعني تلقائياً فصل الإنسان عن الدين. وهذا الفصل لا يتحقق بتاتاً حتى بالنسبة للذين يؤيدونه. بما أن الدين ولا سيما الإسلام متوغل في كافة مفاصل وزوايا الحياة الإنسانية, وإن نجحت في قطعه بمكان ما فأنه سيصل في مكان آخر. السبب الثاني يكمن في البديهية التي أنطلق منها أدونيس, وهي اتهامه الدين صراحة وضمناً بأنه المسؤول عن الأزمات التي تُصيب المجتمعات الشرقية. فهذه الفرضية لم تلق اجماعاً, لا على مستوى المفكرين والمثقفين, ولا على مستوى الشعوب. فكيف يُعقل أن يكون الدين الذي نهض بهذه الأمة هو اليوم سبب شقائه. فالمنطق لا يحتمل أن تصف شيئاً واحداً بصفتين متناقضتين. أما السبب الثالث فيكمن في آلية إزالة كل أشكال التراث وملحقاته من الحياة العامة حتى نضمن أن الأجيال التي بين أيدينا لن ترضع من حلمة التراث مجدداً, أو تشرب حليب الماضي. وهذا الأمر غير ممكن من الناحية العملية فماذا سنقول لأطفالنا لو سألونا مثلاً عن المساجد والكنائس, والصلبان, والكتب المقدسة, والتاريخ الطويل الذي تمتلئ به المكتبات. ثم أليس هذا استبداداً جديداً يريد أدونيس أن نضعه محل الاستبداد القديم. فبأي حقّ نريد مصادرة حرية الناس في الاعتقاد والتفكير. وكأن أطروحة ادونيس ستعيد إنتاج العقل الشرقي القديم بأشكال وممارسات جديدة.
مفكر سوري آخر وهو الدكتور طيب تيزيني قدم أطروحة مختلفة في محاولته لتجديد المجتمعات العربية وإعادة بناء العقل الشرقي في المنطقة. وذهب في أطروحته باتجاه معاكس لأدونيس. فبينما كان أدونيس يدعو لإدارة الظهر للماضي, دعا طيب تيزيني إلى التوغل في الماضي. لكن ليس الماضي القريب المعروف بالإسلام. وإنما إلى ما هو ابعد منه. أي إلى العصور التي سبقت الإسلام. والتي يرى التيزيني أن الإسلام تعمّد وسمها بالجاهلية, بينما هي ليست كذلك في الحقيقة كما يرى الدكتور تيزيني. ويبدأ الدكتور رحلته في الغوص في ذلك الماضي متسلحاً بالمنهج الماركسي في البحث والتحليل. ساعياً لاستخراج كنوز ذلك الماضي السحيق الثقافية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية, وإحضارها عبر آلة الزمن السحرية إلى الحاضر لنكوّن منها ورشة عمل كبيرة نعيد فيها صياغة العقل الذي سيحملنا على كفيه إلى المستقبل المشرق. إلا أن الدكتور تيزيني تفاجأ بعد سنوات طويلة من العمل الجاد وفق المنهج الذي طرحه أن المجتمعات العربية تُراوح مكانها. فلا هي ذهبت معه في رحلته إلى الماضي السحيق, ولا هي اتفقت معه على منهجيته الماركسية في إعادة بناء الإنسان والمجتمع.
جاء آخرون وطرحوا المنهج العلمي في التفكير, وقالوا لا علاقة لنا بأديان الناس ومعتقداتهم الخاصة. ما يهمنا هو أن يؤمن الإنسان الشرقي بالعلم كمنهج فكري وسلوك عملي. وهذا كفيل بتغيير عموم الحياة في الشرق وأولها العقل. وبالفعل انتشر المنهج العلمي بين الناس وظهر على طول خارطة الشرق وعرضها أسماء كبار من العلماء والأدباء والفلاسفة في شتى المجالات الإنسانية. لكن رغم ذلك بقي الشرق مستعصياً على التغيير. وبقي العقل الشرقي بآفاته القاتلة, وأورامه الملتهبة سائداً في الشرق. يصول ويجول فيها كما يحلو له. فأينما تولي وجهك في الشرق ترى الحروب والصراعات والطائفية والاستبداد, والعنف, والفقر, والجهل, والفناء! وكأن براهين التغيير العقلي لا تكمن في الإبداعات العلمية والأدبية, وإنما تكمن في الإبداعات الحياتية. أي كيف تريد أن تحيا الحياة, وكيف تريد أن يحياها الآخرون. فليس المهم أن تبتكر تقنية جديدة, لكن المهم هو هل ستقتلني بهذه التقنية الجديدة أم لا؟ وليس المهم أن تنظم قصيدة, أو تُؤلف رواية, أو تُبدع لوحة, لكن المهم هو هل أدبك وفنك مع الإنسان أم ضدّه؟
التربية الأخلاقية هي سبيل الخلاص.
هناك نقاش محتدم في الأوساط الثقافية حول العقل والنفس. وحول أيّهما يتبع الآخر؟ هل العقل هو سيّد الإنسان أم النفس هي السيدة؟ وعلماء التربية يجمعون تقريباً على أن أصل السلوك فكرة. والفلاسفة والعلماء يقولون أن الوعي يتشكل بواسطة أعضاء الحواس وما تدخله إلى الدماغ من مواد من البيئة المحيطة. فمن تعطلت حواسه تعطل عقله. فما نراه ونسمعه ونحسه يتحول بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أفكار ومفاهيم وبالتالي يتكون العقل. وأثناء تحوّل مدخلات الحواس إلى وحدات عقلية يظهر دور النفس في الرقابة العامة على هذه العملية. فما تسكت عنه النفس يُعتبر أذناً لأعضاء الحواس باستقباله, وأذناً للعمليات العقلية بتكوينه. وما ترفضه النفس يُعتبر أمراً لأعضاء الحواس بمنعه من الدخول إلى الدماغ, أو حجبه أو تهميشه. كما انه أمر للعقل بنبذه وإهماله. فالعقل يتبع الإرادة كما يقول نيتشه. والإرادة هي إرادة النفس. إلا أن هذه الإرادة ليست موروثة أو فطرية وإنما مكتسبة. وهذا يعني أنه بإمكاننا صياغة نفس خيّرة, كما يمكننا صياغة نفس شريرة. وهذا يعتمد على تربيتنا الأخلاقية. من هنا تكون التربية الأخلاقية التي يتلقاها الإنسان الشرقي هي المدخل الرئيسي لإعادة صياغة عقله. فطالما أن النفس التي هي المراقب العام على الحواس والعقل قد تم تربيته وتزكيته وفق منهج أخلاقي إنساني خيّر فأن جميع المخرجات العقلية ستكون خيرة بالنتيجة. وحينها سنرى أن العقل الشرقي أصبح أليفاً وودوداً, ومستنيراً, ومعاصراً, ومرناً, وإنسانياً, وخيّراً. وستنتهي أزمات الشرق بالتدريج.
مسعود محمود حسن
صحفي سوري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دمار شامل.. سندويشة دجاج سوبريم بطريقة الشيف عمر ????


.. ما أبرز مضامين المقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في غزة وك




.. استدار ولم يرد على السؤال.. شاهد رد فعل بايدن عندما سُئل عن


.. اختتام مناورات -الأسد الإفريقي- بالمغرب بمشاركة صواريخ -هيما




.. بايدن: الهدنة في غزة ستمهد لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسر