الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منطق التاريخ ليس فيه دائن ولا مدين..!

سنان أحمد حقّي

2013 / 5 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن هناك في الأدبيات الفلسفيّة الماركسيّة مقولةٌ تُسمّى بالمنطقي والتاريخي وهذه المقولة تتحكّم ــ من منطلق كونها مقولة فلسفيّة ــ بالعلاقة القديمة الجديدة بين ما هو منطقي أي يتعلّق بالفكر المجرّد والإستنتاج وعمليات المنطق المختلفة في التوصّل إلى مخرجات محدّدة عن طريق إستخدام مدخلات هي الأخرى محدّدة ومعالجتها حسب قواعد علميّة أو منطقيّة محدّدة هي الأخرى أيضا نقول بين هذه المخرجات وبين الحقائق التاريخيّة وهي الحقائق التي نتجت فعلا وصدقا بغض النظر عن رغبتنا وعن إرادتنا أي وكأنها مادّة البحث العلمي ونتذكّر أن المادة في الأدبيات المشار إليها ليست هي المادة في الطبيعة وعلم الفيزياء أو الكيمياء بل هي ما أسلفنا ذكره في مواضع أخرى وقلنا أنها هي الواقع الموضوعي نفسه أي كلّ ما هو خارج وعينا ومستقلّ عن إرادتنا وهكذا تكون المادّة التاريخيّة أي ما حدث فعلا هو مادّة واقعيّة حقا وهي خارج وعينا ومستقلّة عن إرادتنا .
وكل باحث علمي يعرف بالضبط أنه لو بدأ بأي عمل علمي فإنه سيبدأ بالمعطيات المطروحة على بساط بحثه ولا يحقّ له أن يُضيف أو يطرح منها ما يُعجبه ولا ما لا يُعجبه منها فيحذف أو يُضيف بلا مسوّغ.
عندما ننظر إلى التاريخ كلّه على أنه مادّة واقعيّة ومادّة توفّر لنا حقائق ووقائع حصلت فعلا فإنه لا يعود هناك أية فرصة للتلاعب بالمعطيات المطروحة .
فعندما دخل الماريشال جوكوف برلين وتحقّق له أسر عدد من الجنرالات الألمان الكبار سأل جوكوف أحد هؤلاء عن كيفيّة تحقّق فوز ممثلي ما كان هتلر يعتبرهم أمما دنيا على الأمم التي يعتبرونها راقية فقال الألماني : إن ما حدث هو من أخطاء التاريخ
فردّ جوكوف عليه بجملة قصيرة واحدة فقط: إن التاريخ لا يُخطئ !
هذا هو الفرق الجوهري لمن يقرأ التاريخ ويفهم أن الأحداث الماضية أو التي شكّلت مسار ما جرى وحدث سابقا أمرا واقعيا لا يمكن اللعب فيه إذ أنه يُشبه قول أحد الميكانيكيين عندما يعجز عن إصلاح ما أمامه من مكائن بإنه لو كانت هذه الماكنة من صنع كذا أو كذا أو لو كانت تعمل بالبخار أو بالغاز لأمكن إصلاحها ولكن الماكنة ياسيّدي هي ما أمامنا وليست كما نتمنى ، أي كما يقول أبناء شعبنا : هذا الميدان يا حميدان!
ولو إعتبرنا أجزاء أو بعض أجزاء مما أمامنا من مكائن نرغب بإصلاحها فائضة عن الحاجة فإننا ربما لا يبقى أمامنا في النهاية سوى عربة نحتاج إلى جرّها بالدواب بدلا من الماكنة المتطوّرة والحديثة.
لنا فقط أن نطرح وبموضوعيّة فقط ما نجده غير حقيقي من الأحداث مدعّمين قولنا هذا لو حصل بالبراهين والوقائع والوثائق والشواه واللقى الآثاريّة وبشكل محدّد وواضح وبأصول البحث العلمي الموثوقة وليس التشكيك بكل واقعة أو حدث يُشكّل تعبيرا عن مسار التاريخ ولا يحق لنا أن ندعو إلى إعادة كتابة التاريخ إلاّ بهذا الشكل العلمي الذي يؤيّده الباحثون الموضوعيون والعلميون.
من هنا وإذا سلّم الأستاذ الباحث الموقّر بهذه المقدمات السريعة فإنه ليس من حق أحد أن يُلقي بظلال من الشك على ما حصل من أحداث ووقائع وكل يوم يخرج لنا أحدهم ليسخر من منطق التاريخ والأحداث والوقائع التي حصلت فعلا .
لنا أن نتساءل فقط أحصل هذا أم إنه لم يحصل فعلا ويشمل هذا السؤال ما جرى من الأحداث والوقائع فقط ولا اهميّة لكل أنواع الشكوك والظلال الأخرى ما دمنا لا نملك دليلا على حدوثها .
وهكذا نجد ونتعرّف على أن مسار التاريخ والحضارة بأجمعها لم تكتبه أمّة من الأمم لوحدها لا في الماضي ولا في الحاضر بل أن الإنسانيّة عبر محصّلة جهود فرديّة وجماعيّة هي التي سطّرت تلك الملاحم الفذّة والحضارة الإنسانيّة العبقريّة ولم يكن هناك فضل لأحد على أحد بل هو تراكم هائل للمنجز الحضاري الإنساني والعالمي وفي نفس الوقت أيضا نحن فعلا مدينون لبعضنا البعض هنا وهناك فيما أنجزه كثير من الأشخاص والأمم ومما إنتفعت به البشريّة جمعاء فما أنجزه العرب لم يُنجزوه لوحدهم بل تداخل معهم ما أنجزته الأمم التي دخلت في الإسلام كبيرها وصغيرها فلا أحد اليوم ولا بالأمس يستطيع أن يُنكر أصل إبن سينا ولا الفارابي ولا الخواررزمي وأسماؤهم تدلّ عليهم ، ولا أحد اليوم يستطيع أن يُنكر ما أضافه علماء ومفكرون عرب وفرس وأتراك وسواهم إلى الحضارة في أيامنا هذه ولا أحد يستطيع أن يُنكر ما يقوم به مفكرون وعلماء ومبدعون هذا اليوم من الكرد والعرب والهنود وسواهم عبر الجهود والمنجزات التي يُقدّمونها إلى العالم عن طريق عملهم في المؤسسات العلمية والصناعيّة في أوربا وأمريكا والبحث في هذا الأمر يحتاج إلى وقت ومناسبة أخرى.
لا توجد أمّة ولا شعب مدين لآخر، وفي نفس الوقت ومن منطلق المفاهيم الجدليّة هم مدينون لبعضهم البعض أيضا ولو فعلنا هذا لن نصل إلى نتائج واقعيّة فإن من توصّل إلى عمليّة العدّ الحسابي لا يمكن أن يكون شخصا واحدا بعينه إذ اننا وجدنا أن الآثار والتنقيبات والتاريخ يُحدّثنا أن هناك كثيرين ممن توصّلوا لهذا ولا يستطيع أحد حصرهم أبدا وينطبق هذا القول حتّى على كثير من المنجزات الحديثة فكم قيل لنا أن فلان هو أول من توصّل إلى حساب التفاضل والتكامل ونقرأ بعد فترة أن هناك من كان قبله أو سبقه ونقرأ أيضا من يقف على محاولات ناجحة لعلماء سبقوا كل هؤلاء بحقب واسعة فهل هو نيوتن أم ليبنتز أم هو الخوارزمي أم هو سواهم من علماء الرياضيات الآخرين الذين حاولوا وأخفقوا وليس لهم عدد؟ وهكذا هو الأمر بالنسبة لكرويّة الأرض ففي الوقت الذي تُطرح فيه آراء كثيرة حول ما إذا كان غاليلو هو الأول أم كوبرنيكوس أو أي من معاصريهم يخرج آخرون بنصوص يرجع تاريخها إلى عهد المأمون الخليفة العباسي تتحدث عن مجموعة قامت بأعمال ميدانية في صحراء سنجار وحسبوا (نصف قطر) الأرض وغيرهم يأتون بأغرب من هذا أيضا.
إن المعرفة لها صفة تراكميّة وكل امّة تُضيف أو تطرح إلى ما سبقها من تراكم معرفي إنساني حسب أسس نظريّة المعرفة وآلياتها وعبثا نسأل عن إسم البنّاء الذي بنى سور الصين ؟ إذ من المؤكّد أنه آلاف البنائين وليس واحدا ولا يحقّ لنا أن نُصحّح التاريخ كلّ يوم لنحذف أو نضيف مما هو مطروحٌ أمامنا على بساط البحث ومردّ كل هذا يرجع إلى تحلّي الباحث العلمي بالصفة الموضوعيّة وهي بالضبط معالجة المعطيات المطروحة أمامنا بأسس وعلى أسس المنطق العلمي وقواعده فقط.
أمّا الذين يرغبون أن يحذفوا شيئا من التاريخ أو يُضيفوا له ما يرغبون فلن يؤدّي بهم إلاّ إلى الكوارث وليس هذا إستنتاج منّا لذلك المنهج بل هو كما نقول حقائق تاريخيّة ولنا أن نشير إلى إجابة الماريشال جوكوف على رأي الجنرال الألماني آنذاك فهذا هو الجواب وهو يمثل إجابة الشيخ ( التاريخ) الذي يوفّر المعطيات الأساسيّة لأي بحث علمي أو إجتماعي سياسي أو أي بحث فكري أو فلسفي .
ولن تستطيع أمّة واحدة ولا جماعة ولا أشخاص أن يُجيّروا جميع الحضارة البشريّة بإسمهم وفي ذات الوقت لهم جميعا أن يفخروا لأنهم جميعا ابناء أولئك العباقرة الذين لم يتوقّفوا ليسألوا من شاد كل هذه المنجزات ؟ بل واصلوا تقديم المنجزات فوق المنجزات بإسم البشريّة جمعاء فالجرم الذي يصل إلى الفضاء الخارجي يُصبح عالميا وكونيا ولا يعود لأحد أن يحتويه كعنصر في مجموعة صغيرة ضيّقة .
هذا التلميذ الصغير الذي يبدأ تعلّم الأبجديّة اليوم سواء في الناصريّة أم في كويسنجق أو مخمور أو في أقصى بلدان الأرض سيذهب للمدرسة العليا وسيدرس الفيزياء والرياضيات وسيحصل على الدكتوراه وسيُسهم مع زملاء له في وضع منجزات لم يسبق لها أحد بعد أن يتلقّى العلم على أيدي العلماء والمفكرين العباقرة وقد يحوز على الجوائز الدولية والعالميّة وربما جائزة نوبل وغيرها فهل نقول إنه عالم أخرجته الناصريّة أو بنغلاديش أو قرية في إيران؟ أو أخرجته المدرسة الفلانيّة أو جامعة لاهور أو أخرجته الأم آي تي ؟ أو ناسا ؟ كل هؤلاء هم الذين أخرجوه معا
وفي الوقت الذي يكون هو مدين لهم فإنهم بالمقابل أيضا مدينين لبعضهم في إخراجه لنا جميعا والحقيقة الناصعة هي أنه ليس هناك أحد مدين لأحد ولكن بلا غروروبلا نظرة ضيّقة أو محدودة بالتأكيد.

سنان أحمد حقّي
دهوك في7 آيار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو