الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين و صناعة عقلية القطيع

عبد عطشان هاشم

2013 / 5 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


1
عقلية القطيع Herd mentality هي العقلية التي تتنظر دائما من يقودها ، يفكر بدلا منها او يتصرف بدلا منها وخصوصا في الازمات ومن خلال هذا النمط يغيب (بضم الياء) عقل الفرد ويتم وضعه على الرف ويتم تحييد ارائه الخاصة عبر اليات الولاء الاعمى او الخضوع او التقليد او محاكاة رأي الجمع فتكون حركته شبيهة بحركة قطعان الماشية وراء الخروف المرشد الذي يعلق الجرس في رقبته كالعادة ويجدر هنا التنويه بأن مصطلح عقلية القطيع ليس شتيمة بل هو توصيف سوسيولوجي لنمط اجتماعي وموقف عقلي قائم. يستحضر الشاعر دريد بن الصمة هذا المفهوم بصورة دقيقة من خلال البيت المشهور(وهل أنا إلا من غزية إن غـوت - غويت، وإن ترشد غزيـة أرشد ) ليشير بوضوح الى احد الانماط الاولية لعقلية القطيع التي تشيع على الصعيد العربي والاسلامي وهي الولاء المتعصب للقبيلة. لكننا في هذا المقال نود التركيز على الجانب الملغوم في عقلية القطيع وهو نمط الاذعان الاعمى لرجل الدين وهو من اشد الانماط قابلية للاشتعال في حاضر ومستقبل الاجيال في منطقتنا.
2
قد لااتي بشىء جديد ، اذا قلت ان جوهر الاديان يقوم على فكرة الايمان بالنصوص المقدسة كسبيل اوحد للحقيقة وان اي علم ينبغي ان يبدأ وينتهي بهذه النصوص دون ان يتعارض معها وخلاف ذلك فهو هرطقة وتجديف وكفر صريح. وهكذا تؤسس الاديان لفكرة تغييب العقل مرتين اولا من خلال قيد النص وثانيا من خلال احتكار تفسير وتأويل النص من قبل رجال الدين على اختلاف مسمياتهم فهم حراس النص كما فوضهم الرب بذلك ، ولذلك عليهم عبء مراقبة المؤمنين وغير المؤمنين والتأكد من حسن ادائهم لطقوس العبادات وتطابق الياتها ليس مع النصوص فحسب بل مع تفسيرهم لتلك النصوص وبضوء ذلك ، تحول المؤمنين من شركاء في العقيدة الى اتباع مغمضي الاعين والعقل معا ، فرجل الدين وحده يملك الحق الحصري في التفكير والتصرف بحقوق العقيدة ومنافعها فهو يكفر من يشاء وبيده مفاتيح الجنة والنار يهبها لمن شاء او يحجبها عنه او ربما يبيعها على شكل صكوك غفران كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى.
وبمرور الوقت وزيادة عدد الاتباع وتنوع خلفياتهم الاثنية والثقافية ومصالحهم الدنيوية ظهرت الاختلافات على السطح وتعالت الاصوات التي تريد الخروج من قالب التفسير الواحد وليس الخروج عن جذر النص المقدس وهكذا تمخضت الاديان في ولادة متعسرة عن طوائف وجماعات وفرق كنتيجة متواترة لمحاولات الخروج عن قالب التفسيرالمتداول مع البقاء في دائرة النص .
وقد رسخ امراء تلك الجماعات عقلية القطيع في نفوس مريديهم وتمت قولبة وتغليف ذلك الاسترقاق بشكل يضمن ديمومة الطاعة والاذعان الاعمى لولي الامر وادعاء الصواب المطلق مرة اخرى كما فعل اسلافهم ، وهذا هو الخطر الكامن في التطييف والتمذهب الديني ، فلا صوت يعلو على صوت الامير او الكاهن او الشيخ او الفقيه اي كانت التسمية فالقاعدة هي ( متحدث واحد والكل مستمعون ) ، و تبقى مصلحة الامة ، المذهب ، الجماعة تعابير فضفافة يراد منها شحن العواطف وتعبئتها من اجل ديمومة نفوذ امراء الطائفة ومصالحهم الشخصية كالحصول على الغنائم والاراضي والاقطاعيات والجواري الخ . وبضوء هذا الدوغما قيدت الجموع المؤمنة الى صراعات دموية طاحنة لم يجروء احد على الاعتراض عليها والقول انها ليست حربه فلاناقة له او جمل فيها.
3
تمكنت عقلية القطيع من جعل الفرد مجرد نسخة كربونية عن غيره فلا مكان للتميز والتفرد والابداع والخروج عن المألوف فكل (محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )1 ، ويتماهى وجود الفرد ضمن الجماعة حد التلاشي ، والخطر الاكبر يكمن في اعتبار هذا التماهي فرضا مقدسا يجعل الفرد يحس بالنشوة والرضا والسكينة وكأنه يتعاطى نوعأ من المخدرات العقلية المقبولة اجتماعيا والتي تروض الانسان على تقبل الامر الواقع والتسليم به كمعطى غير قابل للتغيير.وليس ذلك فحسب بل انها تنتج وعيا فرديا زائفا مترشحا عن عقلية القطيع يجعل الفرد يدافع حد التضحية بنفسه عن قيم الجماعة وهو مقتنع بذلك بصورة مطلقة .
ان عقلية القطيع هي احد الاسباب الجوهرية لتخلف العالم الاسلامي حيث ان هذه العقلية تلغي التعددية الفكرية والاجتهاد الخلاق والخروج على رأي الجماعة (من شذ شذ في النار)(2) وتقتل روح الريادة والابتكار وتعطل حاسة التفكير لدى الفرد وتلغى استقلاليته وخصوصيته وتجعله مستكينا عاجزا ينتظر غيره لينجز دوره ، ينتظر من يفتي له في صغائر الامور بل حتى في طريقة ممارسة الجنس مع زوجته ، و رغم ان هناك حديث نبوي صريح يحض على عدم الخضوع لعقلية القطيع واحترام رأي الفرد وتميزه العقلي (لا يكن أحدكم إمعة ، يقول إن أحسن الناس أحسنت و إن أساؤوا أسأت ) لكن الجماعات الاسلامية تنتقي من النصوص مايناسب مشروعها السياسي كما عودتنا على ذلك.
4
بعد اغتصاب السلطة من قبل الجماعات الاسلامية في دول الربيع العربي وسواها من الامصار ،والموت السريري لحلم دولة المؤسسات والمواطنة والعدالة الاجتماعية في تلك البلدان.. بتنا على اعتاب غيبوبة تاريخية جديدة للشعوب العربية تنفصل فيها تماما عما يجري في العصر فتعيش بعقلية القطيع ، لاتسمع ولاترى وتتكلم بل تجتر اوهام مجد غابر ولاتتطلع اكثر من تعيش يومها وترضى بما مقسوم ، وقد تجرها عقلية القطيع تلك الى حروب الطوائف العربية التي بدأت تقرع طبولها في المنطقة.
ولكن هل يمكن الخروج من الاسوار العالية لعقلية القطيع ، الى فضاء العقلية الابتكارية عقلية الفرد المبدع المستقل الشخصية والمسؤول عن تصرفاته دون ان ينسبها لقدر محتوم عقلية شكاكة ،متفحصة، ناقدة تأبى الاستكانة للكسل المعرفي المتوارث و اجترار ثقافة السلف الصالح الذي فكر ورسم لنا الطريق الذهبي قبل عشرة قرون خلت ؟
ليس سهلا الخروج من ربقة هذا الاسرمثلما انه ليس مستحيلا ، بعض الافراد قد ينجح (3)، والبعض يحتاج الى قدر من المساعدة و الاكثرية سعيدة بهذا الاسر والبقاء خلف اقفاص القطيع فالخروج الى الغابة وتحمل مسؤولية مصائرهم بانفسهم تصيبهم بالرهبة الشديدة. ولكن المهمة التاريخية هنا ، تكمن في انتشال مجتمعات وشعوب باسرها من كهف القطيع المظلم الى ضوء الشمس الساطع لمواجهة اسئلة العصر وتحدياته ، وهذا العمل لن يتم بين ليلة وضحاها بل يحتاج الى جهود مؤسسية ضخمة تبدأ بالاصلاح الديني وتنتهي باصلاح التعليم وتوفير العدالة الاجتماعية وتنمية المجتمعات والقضاء على الفقر والامية وبدون هذا المنجز نبقى ندور في حلقة التخلف وتزداد الصراعات الطائفية استعارا ووحشية كل يوم.
----------------------------------------
1. حديث نبوي يستخدم كشعار من قبل الجماعات الاصولية لرفض التغيير والتحديث.
2. حديث نبوي ، وهناك العديد من الاحاديث النبوية ذات الصلة .
3. نضال درويش وخلود سكرية اول ثنائي لبناني من طائفتين مختلفتين يتزوجان مدنيا في 10/1/2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العقل
بلبل عبد النهد ( 2013 / 5 / 22 - 09:15 )
على كل انسان اذا اراد ان لا يكون ضمن القطيع ان يتخلى اولا عن ديانته اذا كانت له ديانه ثم ياخد وقته ويفكر اين سيضع نفسه ويستخدم عقله ولاشئ سوى عقله