الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بلاغة الهامش في تونس: غازي الباجي

محمد نعمان

2013 / 5 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"إن الآثار الفنيّة هي دوما نتاج لمخاطرة، وتجربة تخاض إلى منتهاها، إل حدّ يكون المرء فيه غير قادر على مواصلتها" ريلكه

في ميقات ما، وعلى عتبة إيران الجديدة وهي تؤسس لما بعد ثورتها، شهدنا الخميني يعلن مصادرة حق سلمان رشدي في كتابة رواية أخرى (رواية آيات شيطانية) تفسق عن زخم انتظام الخيالي الذي تمرسنا على الرضوخ له والانصياع لتفاصيله الباهتة. حينها رد سلمان رشدي فكان موقفه بمثابة إعلان واضح عن ميلاد نهج جديد من التحدي الجمالي لا يركن إلى الصمت أو التساكن أو التخفي بقدر ما يؤسس لنهج يهشم السائد ويبعث على التغاير الخلاق ويخلصنا من أسر المتمكن الطاغي، حيث أجاب يقول: "ربما يتفق (المسلمون) معي أيضا على الاعتراف بأن الضجّة التي أثيرت حول الآيات الشيطانية ليس لها في الحقيقة إلّا هدف واحد: أن نعرف من ينبغي أن تكون له السلطة على القصة الكبرى، وعلى تاريخ الإسلام وإن هذه السلطة يجب أن يتقاسمها جميع الناس على قدم المساواة وأن روايتي، وإن لم تكن مؤهلة لذلك، فإنها تمثل محاولة لا تقل أهمية لسرد التاريخ من جديد" ليضيف: "لأن من لا سلطة لهم على إعادة حكاية ذلك التاريخ الذي يسيطر على حياتهم والتفكير فيه وتفكيكه والتندّر به وتغييره كلما تغيرت الأزمان هم في الحقيقة عاجزون...". فالرواية، بهذا، تنبتّ عن سطوة الروايات المهيمنة؛ روايات الأصول، تفرغها من هيبتها المصطنعة، تسخر من تصلبها المطمئن، لتقدّم سردا آخر يحمل توقا نحو الكيان الحر. قد نغرق في التجريب، في الضياع، قد يتحول جهدنا إلى مرارة الألم في مواجهة جمهور في حالة هيجان، لكننا نبقى في دائرة المطالبة بحقنا في هزيمة سلطة القصة الكبرى. تتحوّل الرواية إذا إلى شرّ لابد وأن ينبض حياة تتميز بالحيرة والجنون والهزل الثقيل، إنّها بميزان آخر وسيلة لبث التعدد في هذا الصنم الواحد المتجهم.
في مصر، عندما نطق علاء حامد (رواية مسافة في عقل رجل)، الروائي التافه الساذج بميزان رؤية بعض عمالقة وجهابذة الأدب في مصر، حوكم وسجن وانتهى به المطاف وحيدا أعزل. كان حينها مثالا لهذا الصعلوك الذي تجرأ ولامس المرويات الكبرى إلى الحدّ الذي عكّر فيه صفو نخبة الأدباء، إذ أنهم استأمنوا الكتابة في جحر المسالمة والعبث اللطيف المحبب. كتب يوسف القعيد حينها بعد صدور الحكم على علاء حامد في مجلة المصور بتاريخ 03 جانفي 1992: "وباعتباري روائيا فقد قرأت الرواية موضوع الدعوى وبصراحة تامة لم تستهوني طريقة كتابتها، لم أشعر بأي متعة وأنا أقرؤها... ويخيل إليّ أن الكاتب أصابه تعب حقيقي من طول المسافة وبعد المشقة من الضنى والتعب والكتابة دون أن يكون هناك أثر ما لكل هذا، أتصوّر أنه كاتب وحيد يعاني من حالة عزلة أوصلته الكتابة دون شهرة والتعب من غير عائد إلى الضفة الأخرى من اليأس." وتأسيسا عليه، نفهم من خلال زعم يوسف القعيد أن هذا الملعون الأعزل قد تولد من إطاره الهامشي فأنتج نصا يائسا بالمعنى السلبي للكلمة، ولم يجد يوسف قعيد أي مبرر للدفاع عن الشخص أو عن دلالة الجميل، ببساطة لأن المعنى الذي يندرج فيه النص هو الفشل ودوافع الفشل فقط لا غير. في نفس السياق، كتب أحمد عبد المعطي حجازي في 01 جانفي 1992 على صفحة جريدة الأهرام: "لقد ألف هذا الكاتب رواية رأى فيها البعض ما يمس عقائدنا الدينية، وأنا لم أقرأ هذه الرواية!! ولا أستطيع أن أحكم لها أو عليها من الوجهة الفنية، كما أني استنكر أي استخفاف بالمشاعر الدينية وأرى أن الكاتب الذي يبني سمعته ويستجلب شهرته بهذا الطريق كاتب فاشل"
وجد يوسف قعيد وأحمد عبد المعطي حجازي هنا نفسيهما ببساطة متضامنين مع الشيوخ وإن من بعد آخر، فهما لم يجدا في النص ولا في شخص الأديب نقاء الانتماء إلى المركز، إلى الفضاء الجامع لنخبة الأدباء. المعادلة بينة لا لبس فيها: إذا ما لامس الشيوخ أدباء المركز فهنا تنسال النصوص والدعاوي لنجدة الجميل لكن حينما يمس الهامشي الركيك فما علينا إلّا أن نقدمه قربانا للظلام.
الذي حدث، بعد هذا، وعلى وتيرة هذا الموقف، في هذا العالم الممتد الذي تصالحنا على تسميته بالعربي، أن الشيوخ تعلموا اللعبة: "دعنا نتحاشى نخبة الأدباء، ونوجه سلاحنا واحتجاجنا ومقالنا إلى هذا الهامشي الأعزل. في هذا الخضم الجديد، سنعلن براءة الهامشي من الإبداع، سنسفه نصه، سنحاربه بيقينية النخبة. في الآن ذاته، سنعلن مدى تفاهة الجميل متى ما أعرض عن الأخلاق، سندعي أن لا حاجة مطلقة لجميل يكسر انتظام المرويات الكبرى، سنزرع في المجتمع الريبة والخوف من هذا الجميل الذي يبعث على البلبلة والتقاتل الأهلي...". في مرحلة ما، أخرى، تستيقظ النخبة الأدبية بعد صمتها المتواطئ وقد سحب منها مبررات كيانها فتكتشف أنها قد ساهمت في سقوطها، حيث تشبّع المجتمع خطاب الشيوخ إلى الحدّ الذي يتساءل فيه ببراءة عن أهمية أن يكون للجميل كيان إجتماعي. كانت النخبة تعتقد بأن الحرب تتطال الهامشي، فإذا بها كانت موجهة لمفهوم الجميل وأحقيته في الكيان. وعليه، لن تجدني اليوم، وأنا أطالع مقالات يوسف قعيد وأحمد عبد المعطي حجازي وهي تحارب سهام الظلام التي تطالهما سجالا وتكفيرا ومحاكمة، إلّا باسما مستخفّا.
في تونس، بعد الثورة، يتحدث الشاب غازي الباجي (رواية وهم الإسلام) بنبض صاخب ولكن بلغة متواضعة تفتقر إلى التمكن في النحو والإملاء والمعرفة التاريخية المنضبطة، فهو في الحقيقة لا يدعي الاحتراف ولا يُشكل على نفسه بالمراجعة والتصحيح، بالإضافة إلى أنه ينحاز إلى عفوية النشر الإلكتروني ضمن فضاء متاح للكلّ. أنه الهامشي ذاته، هو لا يحتاج إلى زينة أو قوالب جاهزة، أصدح بروايته وهو في ركنه الأعزل يخالط غربته. مع هذا، هو اختار نهج سلمان رشدي عبر التهكّم والسخرية والتندر من قصة الأصل، لم يرض بأن يمتثل إلى تفاصيل الحكاية، انشقّ عنها بلهجة حاسمة. بكلمات بسيطة لاذعة شوش علينا رصانة اللغة التي حدثتنا، مثلا، عن زواج عائشة، فإذا بنا في جزع نكتشف الفضيحة. بالفعل، للنص لكنته السافلة، ولكنه يستمد ملامحه من وحي توارينا خلف المجازات والمعاجم والأساليب الفخمة التي أردنا من خلالها محو أثر الفضيحة.
أحدهم، في مقال متعالم نخبوي أنبأني بالتالي: من خلال غازي الباجي نخسر المعركة، إنه يشهر بالفضيحة إلى الحدّ الذي يولد ظلاما أشدّ وأقسى. قلت له: انتظر، باستسلام، بلفظك المصلح، بعباراتك المواسية، فإنك ستشهد ميلاد الفضيحة من جديد كركن مقدس.
عندما نكتشف قوّة المارد الكامن فينا، سطوة الحكاية الأصل على حياتنا الشخصية والعامة، فما علينا إذا إلّا أن نطالب بإلحاح أن نمارس حقّنا في التندر والتهكم منها بل والمطالبة في تحوير معانيها ودلالاتها بما يحول دون سيادة هذا المارد الأرعن. بلغة متواضعة غير مسرفة في التحذلق، كلغة الحكاية الشعبية، تنير جذوة هذا النص الدروب المهملة منّا فنعي حجم ضآلتنا. لا يروّج النص لكبرياء مموه، ولا يغرق في التجريد أو التعالم، إنه بمثابة الدعابة السمجة تمزق تماسكنا وتعابث جديتنا الساذجة. في النهاية، الرواية هنا تجنح إلى اغتيالنا، لتبعث فينا ميلادا مغايرا، وإن لم يدع النص ذلك.
بعد الحكم على غازي الباجي بسبعة سنوات ونصف سجنا وفراره الملحمي، تأملنا في تفاصيل المشهد الثقافي في تونس، فوجدنا بضع شخوص مفكرة ذات عمق فلسفي واضح تحتج على هذا الحكم، كما شاهدنا، أيضا، بضع جمعيات مدنية حقوقية تنضم لهذا الخضم، لكننا بدهشة مرعبة فوجئنا بهذا الصمت الذي غلف المشهد الأدبي في تونس. لم نسمع همسا، كأنما ما حدث لا يعني أي روائي أو شاعر أو ناقد، بل كأنما غازي الباجي لم يكن، مجرد فراغ أو هو اللاشيء. عندما نلتقي في ظلال الجدران النائية ونتحدث عن هذا العدم، إمّا ينحشرون في برهة سكون أو يتململون في ضيق أو يرددون عبارات هاذية من صنف : المسكين. هذا هو المشهد أمام جريمة تقترف في حقّ هذا اللاشيء، ويكفي غازي الباجي فخرا أن يسكن تلك الصفة العزيزة ضمن واقع هذا المجتمع الأدبي، فبعيدا عن الكبرياء المصطنع واليقينيات الباهتة والدونكشوتية المترفة يستظل هو باللاشيء، فكما يقول بيسوا: "بإمكاني أن أتخيل الكلّ، كل شيء، لأنني لاشيء، لوكنت شيئا لما كان بإمكاني أن أتخيل" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 106-Al-Baqarah


.. 107-Al-Baqarah




.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان


.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_




.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال