الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحكمت بنا كلمة فاستباحتنا موزة..

محمد الحمّار

2013 / 5 / 28
التربية والتعليم والبحث العلمي


هل صحيح، كما قاله لي شخصان أثق بهما، واحد هو زميل لي يدرس التفكير الإسلامي والآخر تلميذي الأسبق، وهو الآن طالب الدكتوراه في النانوتكنولوجيا، أنّ القطع مع الأنظمة البائدة يتطلب القطع مع اللغة السائدة؟

"الثورة المجيدة": ما من شك في أنّ هذه العبارة، بالرغم من أنها تروق لكثير من التونسيين إلا أنّ كثيرين ينفرون منها في الآن ذاته. أما الحجة على قبولها فهي غلبة وزن كلمة "الثورة" فيها على وزن كلمة "المجيدة" بينما الحجة على نقضها فهي تقاطع صفة "المجد" الثوري مع "المجد" النوفمبري الذي عانينا منه الويلات في عهد بن علي حين كانت تدق طبول الاستبداد اللغوي لتغتصب مسامعنا وعقلنا السياسي بعبارات "التحول المبارك" و"الذكرى المجيدة للتحول المبارك".

نتساءل في هذا المستوى عمّا إذا كان المجتمع يفضل حقا التجديد اللغوي والمفاهيمي على اجترار نفس العبارات التي صنعت الخريف في تاريخه، معاصرا كان أم قديما؟ وهل اجتناب القديم من الكلام تجديد لغوي؟

"اليسار المؤمن": (لا ننوي التبشير بالمفهوم بقدر ما نعرضه لغاية علمية) وهو مفهوم صنعناه وأطلاقناه في أدبياتنا لكننا لاحظنا أنه اصطدم ومازال يصطدم بجدار من الممانعة. ويبدو أنّ المجتمع لا يرفضه لكونه يُعيد الاعتبار لعبارة قديمة طُبعت بالاستبداد لكن لأنه يريد كسر مفهوم سائد لدى المجتمع، مع أنه غير مصرّح به، ألا وهو مفهوم "اليمين المؤمن"، والحال أنّ هذا المفهوم المستبطن واللامقول خاطئ نظريا وعمليا، إذ ليس كل يمين مؤمن؛ وليس الإيمان حكرا على اليمين؛ وليس الإسلام تحديدا دين يمين. وهنا نعجب لعدم رفض المجتمع لـ "اليمين المؤمن" (ومن ثمة استعداده لتقبل "اليسار المؤمن") بينما يجرؤ على رفض "الثورة المجيدة" رغم اعتقاد المجتمع باشتراك المفهومين الاثنين في الاتسام بالخطأ.

من خلال هذا الموقف المعقد نلاحظ أنّ هنالك خطر كبير قد نكون نعاني من مخلفاته من دون وعي به. و يكمن الخطر في أنّ من يرفضون مفهوما حمالا لبعض الصحة ("اليسار المؤمن" مثلا) يفعلون ذلك إمّا لأنهم يعتقدون أن "اليسار" (في تونس خاصة) ليس "مؤمنا" وهذا عين الخطأ نظريا بالخصوص، وإما لأنهم يعتبرون إيمان اليسار أمرا بديهيا لذا تراهم يستنكرون العبارة بدعوى أنها توحي بفرضية أن هنالك يسارٌ غير مؤمن، وهو إجحاف أيضا إن لم نقل تطرفا حمالا لبذور التعصب والعنف.

كما يكمن الخطر بصفة أعم في تخبط المجتمع في نوع من التخلف اللغوي ("التخلف الآخر" عند د. محمود الذوادي) يجره جرا إلي التنكيل بالذات. ولا نعجب حينئذ من رؤية الدمار الحاصل بين الفينة والأخرى من عنف ديني وسياسي على غرار الظاهرة السلفية وظاهرة الإسلام السياسي عموما.

"دولة الخلافة الديمقراطية": وهو مفهوم آخر صنعناه ثم أطلقناه. والغريب في الأمر أنّ غالبية الناس الذين نتفاعل معهم ويتفاعلون معنا لم يستسيغوه بعدُ، لكن في المقابل فإنّ القلة القليلة الذين قبلوه أعربوا عن ذلك بشغف شديد وبإعجاب ملفت للانتباه ومشجع حقا.
"مدرسة الغد": وهي عبارة مسجلة بكثير من الريبة في لاوعي التونسيين. مع هذا فقد ركبنا عليها فكرة لمشروع إصلاحي اسمه الكامل "مدرسة ومجتمع الغد". ذلك أننا لا نر صلة تذكر بين "غد" بن علي و"غد" تونس الحرة.

"ديمقراطية الموز": نعتقد أن ليس كل كلامٍ قيل في الماضي وكان محل استنكار وخيفة يتوجب الاستغناء عنه، لكأننا سنمحيه من القاموس العربي. فلا اللغة ملك لبن علي ولا لأتباعه، ولا الناطق بالكلمة الحرة ينبغي أن يتنازل عن بعض الكلام ليجسد حريته. وهل يجوز أن ينزع الجندي الباسل سلاحه ويتنازل صاحب الأرض عن أرضه (لفائدة المستعمر والمستوطن)؟

ما من شك في أنّ تثوير اللغة يتطلب خلق مفاهيم جديدة وأفكارا جديدة، لكن لا يهم إن كان كساؤها متداولا أم مستحدثا. فلو فرطنا في القديم من الرداء اللغوي سيكون ذلك عنوانا لسيطرة القديم على عقولنا وهزمه إياها ، حيث إنّ الهروب من الشيء هزيمة، بينما لو تمسكنا بالقديم، ما صح منه كدال وأيضا ما صح منه كمدلول، فإننا سنكون قد سرنا على الدرب السليم. والناطق بالكلمة هو المتحكم بالمسمى مهما كان الاسم قديما.

أما "ثقافة الموز" و"ديمقراطيتها" فهي ما حصده جمهور التونسيين لمّا تجنبوا ألفاظا قديمة مثل "التحول" و"المبارك" و"مدرسة الغد" وحتى "التجمع" و"الدستوري" و"المناشدة"، ناهيك "الخلافة"، غير محاولين هزمها بواسطة ضخها بأفكار مُوَلدة تليق بالواقع الجديد الذي ينشدونه. فكانت الحصيلة أن هوجم الجمهور بترسانة من المفاهيم الهجينة، بما أنها صارت متداولة على ألسنتنا من دون أن تكون منبثقة عن عقولنا. وكان حكمها قاسيا علينا حيث إنه لم تجلب لنا سوى التناقض المشل للحركة: لقد نجم عن "العدالة الانتقالية" تصرفا "انتقاميا" و عن "تحصين الثورة" سلوكا "ثورجيا" وعن "التعويض" "تبعيضا" لشعب بطم طميمه وعن "الانتقال الديمقراطي" "انتقاءً دينُقراطيا".

بالنهاية نرجو أن لا تطال يد المنون (اللغوية) حتى أمثلتنا الشعبية و أن لا يأتي اليوم الذي يتحول فيه "عاش يتمنى حبة عنب، ولمّا مات أهدوه عنقودا" إلى "عاش أسيرا لكلمة، فمات رجما بالموز".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟