الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلاسفة ام مدرّسوا فلسفة..؟

سنان أحمد حقّي

2013 / 6 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتقد بعض المتابعين أن دارسي ومدرّسي الفكر الفلسفي هم فلاسفة ، يكون هذا صحيحا فقط إذا كان دارسوا الشعر شعراء أو مدرّسوا الفن فنانون!
لا شك أن الفرق كبير جدا بينهما فأن تبحث في الفن أو تاريخ الفن أو نقد الأعمال الفنية لا يكفي ليجعل منك فنانا إذ لا بدّ من أن يكون لك نتاجا فنيا مشهودا كأن يكون لك عدد من اللوحات أو المنحوتات أو المسرحيات أو الأفلام أو المقطوعات الموسيقيّة لكي تكون فنانا في فرع من فروعه ، وكذلك الأمر في الفلسفة ، لا يكفي أن تكون مطّلعا على تاريخ الفكر الفلسفي ولا بعض من فروع هذا الفكر ولا بعض نظرياته ومدارسه لكي تكون فيلسوفا ، نعم ! يمكن أن تكوّن وجهة نظر أو رأي يُلبّي حاجتك لتحقيق ذاتك كمثقف أو كما قلنا سابقا( كأريب) ولكن ،
من هو الفيلسوف؟
غير خافٍ أن الفكر الفلسفي يبحث في المفاهيم الكليّة والظواهر الكليّة ونعني بالكليّة بالتحديد تلك المفاهيم التي تجد لها تطبيقات متباينة في جميع فروع المعرفة ، في العلوم ، وفي الآداب ، وفي العلوم الإنسانيّة وفي الفنون وهكذا..
فإذا كان الناشط موضع البحث يقتصر على متابعة الفكر الفلسفي في العالم وتطوّر النظريات والأبحاث وما وصلت له الطروحات الفلسفيّة كان ذلك الناشط طالبا للفلسفة أو مدرّسا لها أو باحثا أو قارئا أو مطالعا فيها فقط ، إذا من هو الفيلسوف؟
هو ذلك الناشط والمفكّر الذي يُتابع ويتحرّى منجزات الإنسان والتقدّم التفصيلي في كل فروع المعرفة ويُفتّش عن إنعكاس وتأثير كل تلك المنجزات على المفاهيم الكليّة الموصوفة ، وما إذا كانت تلك الأبحاث والمنجزات يمكن أن تؤدّي إلى بلورة مفاهيم كليّة جديدة أم لا!
إن مفكرينا ومثقفينا أو أريبيونا( من جمع أريب) يُتابعون بجد حركة الفكر الفلسفي والأدب الفلسفي فعلا ولكنهم لا يُتابعون مع الفلاسفة العالميين والعلماء والمفكرين والمثقفين أو الأريبيين في العالم ما يحدث في كل مضمار من فروع العلم والتي هي مادّة البحث الأساسيّة وليست الخلاصات أو النتائج التي ينتهي لها فلاسفة ومفكروا العالم والغرب بصورة خاصّة ..
ليس من مهمة العالم الحقيقي أن يُتابع آخر المبتكرات في العالم ، فيتعرّف على إختراع معالج مايكروي جديد مثلا أو جهاز إتصال مبتكر أو نحو ذلك بل أن يُفكّر إلى جانب أؤلئك العلماء والمبتكرين والمخترعين في ما تتيحه المعارف العلمية الجديدة من إمكانيات مبتكرة ..
نعني بالضبط أن الفيلسوف هو الذي يدرس باطلاع تفصيلي ما يحدث في علم الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو الأحياء أو الإقتصاد أو التاريخ أو غيره من المعارف ويعمل كما يعمل الآخرون في جهد الإشتقاق والبحث عن المفاهيم الكليّة التي يطرحها كل علم أو فن أو معرفة وأن يشتقّ كغيره من الفلاسفة والمفكرين مفاهيم كليّة جديدة تنضم إلى المعرفة الفكريّة والفلسفيّة الإنسانيّة ، فإن لم يفعل يكون دارسا أو مدرسا أو باحثا في الفكر الفلسفي فقط ولا يزيد على ذلك أبدا .
أمّا الإطلاع على منجزات علم الألكترونيات مثلا وما توصّل إليه هذا العلم أو على علم الأحياء وما نتج عنه من إنجازات جديدة وهكذا وتتبّع تأثير ذلك على المفاهيم الكليّة للمعرفة فهنا نستطيع أن نقول أن بيننا فيلسوف أو مفكّر فلسفي حقيقي ، للأسف الشديد وبكل ألم نقول أن السعي وراء الشهادات والترخيصات المدرسيّة والجامعيّة يُصبح لها اليوم أثر سلبي يزداد كل يوم فالشهادات مع أنها أصبحت غرضا للوجاهة فقط كما هو معروف إذ يتخرّج هذا ليُقال له دكتور فيحصل على مكانة إجتماعيّة تعلو على أقرانه ولو في مجال بعيد جدا كأن يسعى فقط للحصول على منصب إداري أو سياسي أو مكتب فاره فحسب ، ولكن للأسف أصبح لهذا أثر سلبي في الإقتناع والرضا بالمرحلة التي يصل إليها صاحبها ولا يتطلّع أبدا إلى توسيع معارفه أو معلوماته وهذه هي الطامة الكبرى ، فاليوم قد نسأل أحد المتخصصين بالفكر الفلسفي ، هل سمعت بآخر ما حصل في علوم كذا؟ أو في كذ؟ فنجد أن معلوماته قديمة بل تتطلّب التحديث وبدلا من أن يُحدّثها كما نفعل دائما مع برامج الكومبيوتر فإنه يُصبح مدافعا عن القديم البالي لأنه لا يعرف سواه، لنسال مفكرينا الفلسفيين ما هي معارفهم عن منجزات علم الأحياء الحديثة والجينات والجينوم والهندسة الوراثية والDNA أو RNA والخارطة الجينية للإنسان ؟ فأغلب الظن أن قليلا جدا منهم من يفهم في هذا، إن الفيلسوف الحقيقي يجب أن يعلم علما وافيا بمثل هذه المنجزات بل أكثر من هذا يجب عليه أن يبحث في تأثير كل هذه المنجزات على المفاهيم الكليّة للفلسفة ومدى إمكانية حصول تغيير أو تحديث في الفكر الإنساني الفلسفي ، لا أن يُتابع ما يظهر في الدوريات الفلسفيّة العالميّة والتي تقوم بتوزيع نتائج أبحاث زملائه فلا يُصبح سوى تابع لهم ومقلّد لفكرهم لا مجتهد ومبدع وناشط حقيقي يستنتج مثله مثلهم بالضبط
إن ما يؤلم العلماء اليابانيين أنهم يستطيعون أن يصنعوا ويعملوا على كل ما يُنتجه الغرب والعالم فإذا تم إختراع أي جهاز أو آلة جديدة فإن اليابانيين قادرين على صنعه في اليوم التالي ولكن هم يسألون أنفسهم : ماذا صنعنا مما لم يصنعه العالم إلاّ بعد أن صنعناه؟
إننا نبحث ويجب أن نبحث الآن عن الفلاسفة المبدعين الذين يُتابعون العلم والمعرفة في كل أنحاء العالم ويُحاولون إلى جنب أقرانهم أن يبحثوا في المفاهيم الكليّة التي تُسهم تلك المعارف في بلورتها وليس السعي وراء المفاهيم الجاهزة التي توصل إليها أقرانهم الأوربيون أو الغربيون.
ولربّ سائلٌ يسأل : وماهي المفاهيم الكليّة؟
فلو نظرنا على سبيل المثال في الفلسفة الماركسيّة ووجدنا أن هناك قانونا منطقيا يقول أن التراكم الكمّي يؤدّي إلى تحوّل نوعي ، يكون هذا مفهوما كليّا لأنه يجد له تفسيرا وتطبيقا في فروع من المعرفة كثيرة جدا فهو صحيح في الكيمياء والفيزياء عندما نرى أن إزدياد وتراكم درجات الحرارة يؤدّي بالسوائل إلى أن تتحوّل من الحالة السائلة مثلا إلى الحالة الغازيّة ونجد أن نفس هذا المفهوم يجد له تطبيقا وتفسيرا في حركة المجتمع والتاريخ إذ أن تراكم الصراع الإجتماعي يؤدّي إلى تحوّل وأثر بالغ الأهميّة وهي الثورة والتي هي بطبيعة الحال تحوّل نوعي بالتأكيد.
إن هذا النوع من المفاهيم ( Concepts ) هو مهمة الفيلسوف وليس جمع أنواع المدارس الفلسفية أو النظريات أو المناهج فتلك مهمة مدرسي الفلسفة وهم على أهميتهم لا يصلحون فلاسفة كما قلنا لأن مدرّسي الشعر والفن والأدب ليسوا بالضرورة يصلحون كشعراء أو أدباء أو فنانين.
وقد يُعقّب علينا معقّب ليقول: وماذا تريد منهم؟
نريد أن يُتابعوا كلّ شئ في المعرفة ، في العلوم والآداب والفنون والتاريخ والإقتصاد ليروا ما إذا كانت هناك مفاهيم كليّة جديدة أو تحديث للمفاهيم القائمة لا أن ينتظروا ما ينشر الفلاسفة الحقيقيون في الغرب فقط ، فهكذا كانت الحال دائما في جميع مراحل الفكر البشري وهكذا كان معظم المفكرين الكبار والفلاسفة العظام ، ليس من الضروري أن يتحول الفيلسوف إلى عالم رياضيات أو كيمياء ولكنه يجب أن يفهم ما يحدث فيها دقّة بدقّة كما يُقال.
إن كثيرا من التحديثات والمبتكرات حصلت في مختلف ميادين العلوم والمعرفة وما زال الكثير ممن ندعوهم بالمفكرين والفلاسفة عندنا يقتصرون في معارفهم الكليّة على منجزات قامت قبل قرن أو قرنين من الزمان ، قبل أن يظهر علم الإحصاء وقبل علم المورثات وقبل علم النفس وقبل فيزياء الكم وقبل منجزات الكيمياء العظيمة وقبل عصر الفضاء والإتصالات، فعن أية فلسفة يتكلمون؟ لا شك أنهم مازالوا عند أرسطو وإفلاطون ونحن ندين لهما ولا شك ولكن لا يمكن أن نتوقف عند معلم الصف الأول الإبتدائي ونحن نجتاز مرحلة عليا من المعرفة ، نعم لهم الفضل الكبير ولا شك ولكن لا يجب أن نقف عند ذلك الخط فلقد قطعت الإنسانيّة شوطا بعيدا جدا.
كما أننا نودّ أن نؤكّد على أن المعرفة الحقيقية مرتبطة بمنهج البحث أكثر منها بالنتائج فالنتائج تتغيّر حسب المعطيات والمتغيّرات ولكن منهج العمل هو الأهم فإذا علمنا أيضا أن منهج العمل وطريقته هي الأخرى خاضعة للتغيير والتطوّر المعرفي المستمرّ وجب علينا إعادة جميع الحسابات بين الوقت والآخر لأن الكون كله في تغيّر مستمر وحتى ما إصطلحنا عليه بالمنهج فهو كالخوارزميّة يمكن أن يبتدع الإنسان خوارزميات جديدة أيسر وأسرع وأكثر دقّة وبما يفي بالحاجة ، وكل يوم نحن نلمس كل هذا ويلمسه منا على وجه الخصوص أهل العلم الذين ليست لهم أغراض سوى موافقة نتائج البحث السليم والإيمان به
إن الواقع الموضوعي بالنسبة للفيلسوف هو معطيات جميع العلوم والمعارف والآداب والفنون وليست هي تلك الأدبيات التي توزعها مراكز الدراسة على أهميتها
فمتى ما كان مفكرونا وفلاسفتنا يُتابعون ويدرسون منجزات العلوم والمعارف المختلفة وكأنها هي إختصاصهم ثم يُحاولون أن يستنتجوا المفاهيم الكليّة كما وضّحنا نكون قد عثرنا على أوّل فلاسفتنا الحقيقيين.
على أننا نؤكّد من جانب آخر أن العالم مهما كان نابغا ومجتهدا لا يحل محل الفيلسوف أبدا لأن البحث في الخاص ليس كالبحث في العام والكلّي والكيمياء أو الفيزياء لا تُغني عن الفلسفة ولا يستطيع أن يحل عالم الرياضيات أو الإقتصاد محل الفيلسوف بسبب ميدان البحث وبسبب ما قدّمنا له من معاني مفهوم الكليات وليس اي إكتشاف أو إختراع علمي يكون له أثر على المفاهيم الكليّة ولهذا نحتاج الفيلسوف وليس فقط مدرّس الفلسفة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من الطالب الى المعلم الى الفيلسوف
جمشيد ابراهيم ( 2013 / 6 / 4 - 19:39 )
اخي العزيز سنان
من الصعب رسم الحدود بين طالب او معلم الفلسفة و بين الفيلسوف لان المسألة هي عملية تطور. يتطور الانسان الى الفيلسوف اذا اهتم بالفلسفة باية طريقة كانت لكل شيء تأريخ ماعدا اللحظة الاولى في الكون
تحياتي الاخوية


2 - من أفقر الناس للعلم وأحقرهم إلى أستاذه الشيخ
سنان أحمد حقّي ( 2013 / 6 / 4 - 20:57 )
حضرة الأخ والأستاذ جمشيد المحترم
ترون كما لا يخفاكم أننا حاولنا أن نضع مفهوما للفيلسوف يقوم على عمل يتضمن قدرا من الإبتكار والإبداع أي أنه يتناول مهام التحليل والتكوين أو التصميم أيضا حيث أن مهمةالتكوين والتصميم بالذات هي التي تميّز الفيلسوف عن دارس الفلسفة الذي يتركّز عمله ومهامه على التحليل في الغالب فقط .
فهو يُشبه الفرق بين الطبيب وعالم الأحياء أوبين الفيزياوي أو الكيمياوي وبين المهندس ، فالتطبيقات هي فروق جوهرية بينهماحيث يتوضّح كيف أن الممارسة والتطبيق هما مصدر النظريات وليس العكس ولا يكون كافيا ولا نافعا أن نكتفي بالجوانب النظرية( وهذا صلب تطبيق نظرية المعرفة ونحن لا نقول بتفضيل أحد على الآخر ولكن عندما نتحدّث عن شاعر فإننا بالتأكيد نميّز بينه وبين الناقد أو دارس الشعر أو مدرس الأدب ، نعم يمكن أن نجد بين مدرسي الأدب من هو شاعر أو كاتب قصة ولكننا نتكلم عن الوظيفة أو المهمة وليس عن صاحبها
أشكر لكم مروركم واهتمامكم وأرجو أن تتقبّلوا وافر تقديري

اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر