الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية التطور والثقافة

السيد نصر الدين السيد

2013 / 6 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


شغلت ظاهرة "التنوع البيولوجى (الحيوى)"، كما تتجلى فى التعدد الهائل فى أشكال الكائنات الحية وفى عمليات إنقراض بعضها وإرتقاء وتطور بعضها الأخر، ومازالت تشغل أذهان الفلاسفة والعلماء فتعددت أراءهم حول أسبابها وحول طبيعة القوى التى تحركها. واليوم يتفق أغلب العلماء على قبول "نظرية النشوء والإرتقاء (التطور)" لعالم الأحياء الإنجليزى تشارلز داروين وصيغها الحديثة بوصفها أقدر النظريات على شرح أسرار تطور وتنوع الكائنات الحية. وطبقا لهذه النظرية التى قدمها داروين فى كتابه الشهير "أصل الأنواع"، الذى صدر فى لندن سنة 1859، تتألف عملية تطور الكائنات الحية من ثلاثة عمليات أساسية هى:
1. إنتاج التغيرات Variations وهى العملية، أو العمليات، التى تنشأ عنها تعديلات فى بعض الصفات الوراثية لبعض أفراد نوع ما من أنواع الكائنات الحية.
2. الإنتقاء الطبيعىNatural Selection وهى العملية التى تعمل على الحفاظ على الأفراد الذين منحتهم تلك التعديلات مزايا إضافية تساعدهم على التنافس على الموارد المحدودة وعلى التكيف مع أحوال بيئتهم المتغيرة.
3. الإستنساخ (أو التكاثر) Reproduction وهى العملية التى من خلالها إزدياد عدد الأفراد الذين يتمتعون بالصفات الوراثية المواتية.

وكما شغلت ظاهرة "التنوع البيولوجى" علماء البيولوجى شغلت ظاهرة "التنوع الثقافى" علماء الأنثروبولوجى وإسترعت إنتباههم أوجه الشبه الكثيرة بين الظاهرتين. وقد دفعهم هذا التشابه إلى إعتبار التطور البشرى كعملة ذات وجهين أولهما هو "التطور البيولوجى" وثانيهما هو "التطور الثقافى" (Gabora, 1997). لذا لم يكن من المستغرب لجوءهم إلى نظرية داروين لمساعدتهم فى فهم أسرار نشوء الثقافات والقوى التى قد تدفع ببعضها إلى طريق الإنقراض وبالبعض الآخر إلى طريق التطور والإنتشار. والثقافة من منظور التطوريون من علماء الأنثروبولوجى هى كائن حى تسرى عليه قوانين التطور وعملياته مثله فى ذلك مثل الكائنات الحية الطبيعية (Fog, 1999). وأولى هذه العمليات الرئيسية هى عملية "إنتاج التغيرات" التى تعدل من بعض مكونات الثقافة. وتضم عملية "توليد المتغيرات" العديد من العمليات الفرعية مثل "التحول" Mutation و"الإنجراف" Drift و"الهجرة" Migration (Newson, Richerson, & Boyd, 2007). ولـ "التحول" فى المكونات الثقافية أسباب متعددة يعود أغلبها إلى إحدى خصائص الثقافة التى عرضنا لها سابقا وهى أن الثقافة ليست شيئ فطريا أو غريزيا نولد به بل هى شيئ نتعلمه ونكتسبه عبر عملية "مخالطة (معايشة)" Socialization بيننا وبين أفراد الجماعة التى ننتمى إليها. لذا قد يؤدى أى نقص فى عملية التعلم هذه إلى إنتقال غير مكتمل أو محور للمكونات الثقافية بين أطراف العملية. كما يعد "الإبتكار" Innovation، سواء أخذ شكل فكرة غير مسبوقة أو تجديد لبنية إجتماعية أو إستحداث لأساليب عمل جديدة، أحد مسببات التحولات الثقافية. أما "الإنجراف" فمنشأه الإنتشار غيرالمنتظم للمعلومات الثقافية بين أفراد المجتمع مما يؤدى ظهور جماعات منعزلة تختلف مكونات ثقافتها عن تلك السائدة فى المجتمع. وأخيرا تعتبر "هجرة" مكونات ثقافبة جديدة من خارج المجتمع إليه وإنتشارها فيه من الأسباب الهامة لإحداث تغيرات جوهرية فى ثقافته السائدة.

أما ثانى العمليات الرئيسية التى تتألف منها عملية التطور الثقافى، "الإنتقاء الطبيعى"، فتعنى بآليات ومعايير المفاضلة بين المكونات الثقافية المُستجَدة، أو "المتخالفات الثقافية" Cultural Variants، التى تكون قد أنتجتها عمليات "إنتاج التغيرات". وصفة "الطبيعى" هنا تعنى أن آليات ومعايير المفاضلة المستخدمة تنبع من داخل منظومة الثقافة وترتكز على مصالح من يتبنوها أفرادا كانوا أو جماعات ولاتفرض عليها من خارجها. ويتوقف إنتقاء أى مكون ثقافى مستجد على مدى "لياقته (أو جدارته)" Fitness أى مايتمتع به من مزايا جديدة أو مُحَسنة تزيد من قدرة من يتبناه على البقاء وعلى التكيف مع أحوال بيئته المتغيرة وذلك بالمقارنة مع تلك التى يتمتع بها أسلافه. ومن أبسط آليات الإنتقاء الثقافى آلية "الإنتقاء للبقاء" Selective Survival حيث يصبح تبنى مكون ثقافى مستجد أمر لامفر منه وضرورة لاغنى عنها لضمان البقاء وتجنب الفناء. ومن أبرز أمثلة هذه الآلية هو تبنى أفراد مجتمع أمة مغلوبة لديانة الأمة الغالبة. كما تعتبر آلية "التقليد الإنتقائى" Selective Imitation من آليات الإنتقاء الشائعة حيث ينتقى المُقلد المكونات الثقافية التى يجسدها أحد المشاهير فى مجال بعينه ويسعى إلى محاكاتها (Fog, 1999).

ونصل أخيرا إلى ثالث العمليات الرئيسية التى تتألف منها عملية التطور الثقافى وهى عملية "التكاثر" أو "الإستنساخ الثقافى" التى تعمل على إنتشار وشيوع المكونات الثقافية المستجدة بين أفراد المجتمع. وتتميز هذه العملية بوجود ثلاثة أنماط رئيسية هى: "الإنتقال الرأسى" Vertical Transmission و"الإنتقال الأفقى" Horizontal Transmission و"الإنتقال المائل" Oblique Transmission (Newson et al., 2007). والإنتقال الرأسى هو إنتقال الصفات الثقافية المستجدة من الآباء للأبناء. أما الإنتقال الأفقى فيعنى إنتقالها بين النظراء سواء كان تناظرهم تقاربا فى السن أو فى المهنة أو فى الإنتماء لطبقة إجتماعية واحدة. وأخيرا الإنتقال المائل الذى يقصد به إنتقال المكونات الثقافية المستجدة من الأشخاص الأكبرسنا أو الأكثر خبرة إلى أولئك الأصغر سنا أو الأقل خبرة.

ونظرا لأن عملية إنتقال المكونات الثقافية، أو إستنساخها، تستلزم وجود طرفين هما "الناقل/المتصل" و"المتلقى/المتعلم"، فإنها تتأثر بالعديد من العوامل المتعلقة ببواعث كل منهما. فمن ناحية المتلقى نجد مجموعة من العوامل التى قد تؤثر على درجة قبوله للمستجدات الثقافية والتى يطلق عليها "تحيزات التعلم" Learning Biases. فهناك "تحيز المحتوى" Content-Based Bias الذى يتوقف على تقييم المتلقى الشخصى لمحتوى المستجد الثقافى. وهناك "التحيز للنموذج" Model-Based Bias الذى يتوقف على تقدير المتلقى لمكانة مصدر المستجد الثقافى ومدى نجاحه فى الحياة. وأخيرا نجد "تحيز التواتر" Frequency-Based Bias الذى يتوقف على شعبية وإنتشار المستجد الثقافى. ومن ناحية الناقل نجد مجموعة أخرى من العوامل التى يطلق عليها إجمالا "تحيزات المُتصل" Communicator Biases. وأولى هذه التحيزات هو "تحيز الموقف" Situation-Based Bias الذى يتوقف على تقييم الناقل للموقف الإجتماعى الذى تتم فيه عملية إنتقال المستجد الثقافى. وثانى هذه التحيزات هو "تحيز المشاهد" Observer-Based Bias الذى يتوقف على تقييم الناقل الحاضرين أو شهود عملية الإنتقال (Newson et al., 2007).

وعلى الرغم من التشابه بين عمليات "التطور البيولوجى" وعمليات "التطور الثقافى" إلا أن هناك العديد من الإختلافات الجوهرية. وأهم هذه الإختلافات هو ذلك المتعلق بتوريث "الصفات المكتسبة". فالصفات التى قد يكتسبها الكائن الحى نتيجة حياته فى بيئة بعينها لايتم توريثها "جينيا" لذريته. وعلى العكس من ذلك توريث الصفات أو السمات الثقافية المكتسبة وإنتقالها عبر الأجيال.

وطبقا لمعطيات المرتكز الأول، نظرية التطور، تبدأ عملية التطور الثقافى بـ عملية "إنتاج التغيرات" التى تعدل بعضا من مكونات هذه المنظومة. أما ثانى العمليات الرئيسية التى تتألف منها عملية التطور الثقافى، عملية "الإنتقاء الطبيعى"، فتعنى بآليات ومعايير المفاضلة بين المكونات الثقافية المُستجَدة التى تكون قد أنتجتها عملية "إنتاج التغيرات". وصفة "الطبيعى" هنا تعنى أن آليات ومعايير المفاضلة المستخدمة تنبع من داخل منظومة الثقافة وترتكز على مصالح من يتبنوها أفرادا كانوا أو جماعات ولاتفرض عليها من خارجها. ويتوقف إنتقاء أى مكون ثقافى مستجد على مدى "لياقته (أو جدارته)" Fitness أى مايتمتع به من مزايا جديدة أو مُحَسنة تزيد من قدرة من يتبناه على البقاء وعلى التكيف مع أحوال بيئته المتغيرة وذلك بالمقارنة مع تلك التى يتمتع بها أسلافه. ومن أبسط آليات الإنتقاء الثقافى آلية "الإنتقاء للبقاء" Selective Survival حيث يصبح تبنى مكون ثقافى مستجد أمر لامفر منه وضرورة لاغنى عنها لضمان البقاء وتجنب الفناء. ونصل أخيرا إلى ثالث العمليات الرئيسية التى تتألف منها عملية التطور الثقافى وهى عملية "التكاثر" أو "الإستنساخ الثقافى" التى تعمل على إنتشار وشيوع المكونات الثقافية المستجدة بين أفراد المجتمع. وهى العملية التى تؤدى إلى إستقرار هذه المكونات المستجدة فى صلب تكوين المجتمع.

المراجع
Fog, A. 1999. Cultural Selection. Dordrecht: Kluwer Academic Publishers.
Gabora, L. 1997. The Origin and Evolution of Culture and Creativity. Journal of Memetics - Evolutionary Models of Information Transmission, 1: http://jom-emit.cfpm.org/vol1/gabora_l.html
Newson, L., Richerson, P. J., & Boyd, R. 2007. Cultural Evolution and the Shaping of Cultural Diversity. In S. Kitayama, & D. Cohen (Eds.), Handbook of Cultural Diversity: 454-476. New York: Guilford Press.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المرشد الأعلى بعد رحيل رئيسي: خيارات رئاسية حاسمة لمستقبل إي


.. تغطية خاصة | سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال عهد رئ




.. تربت في بيت موقعه بين الكنيسة والجامع وتحدت أصعب الظروف في ا


.. عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال




.. 175--Al-Baqarah