الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علمتني كرامتي

محمد بكراوي

2013 / 6 / 16
المجتمع المدني


علمتني كرامتي أن أنبذ العنف والتعنيف بكل أنواعهما وأشكالهما البائد منها والمتطور، المتخلف والحديث. والأكيد أن الغرض من العنف هو الترويض وتحقيق المطاوعة، ليصبح المعنف خاضعا، مسلوب الإرادة؛ إنه إقصاء من نوع خاص، يجعل الضحية لا تفكر إلا بما يرضي سيدها، ولها من نفسها على رغباتها، و إرادتها، وحقوقها الطبيعية رقيبا؛ فهي لا تحلم إلا بإرضاء مولاها بتفان، والتضحية من أجله، وتنزيهه واحترامه بمبالغة ملفتة وأنا لست وال و لا ضحية.
علمتني كرامتي أن الرضي بالقهر يتحول بالتعود الى طبيعة لا فكاك منها ، وأنه يصبح مكونا وراثيا لثقافة الخنوع والاستسلام والمسايرة، وانه يولد الرعب المسيطر والشمولي فيحيا مع الأجيال عدة قرون مكبلا إياها متكثرا بتناسلها واحتكاكها في محيطها ،فكم من عار ودونية جماعية مصدرها خوف نفر واحد منذ زمن سالف، والإنسان الحر ينمي حريته بالقيم الايجابية ويبيد ما قد يكون علق بذاته ولا شعوره من أنويه الرجفة,
علمتني كرامتي أن أتحدى أنواع القهر بالسلم من غير ضعف، بالحوار من غير صم الآذان أو التجاهل، بحسن التفهم بلا عنت؛ وان أكابر كل جبروت بشموخ من غير ذلة؛ وأواجه الطغيان على الأقل بترك النفاق واللباقة بين يديه وإلا شاركت في الفساد والإفساد بوضاعة.
علمتني كرامتي بأن أحترم ذاتي بما يزينها من غير تواضع ولا تعجرف ليقف الآخر عند حده، ويلزم حبا أو كرها باحترامي، لأن اقتناصه الفرص يصبح في ذمة الغائب بلا رجعة.
علمتني كرامتي أن أقف حيث يجب الوقوف دون اندفاعية : عند الإشارة الملزمة لأن ذلك دليل حضارة، في عدم استعمال السبل غير المخصصة تحقيرا مني لكل أنانية، وأن أمثل في المربع الخاص داخل المؤسسات الاجتماعية طبقا لحدود المسؤولية، في حدود الواجب لأن الزيادة عليه إما عربون عدم قدرة على تدبير الأغلفة الزمنية، وانعدام كفاية، أو طلب حظوة ممن دون المهمة؛ وفي هذا تأخير للجماعة في تقدير ذاتها انطلاقا من أغلى ما لديها: المرحلة التاريخية، وتكريس لتخلفها الحضاري بدء من أعز ما يطلب : التميز والجودة. وأن انضبط للقوانين ولو كانت جائرة في حقي، وللقواعد ولو كانت متوارثة من غير ثقة بقدسيتها، ولا انبطاح أعمى لأنه فيها من الشوائب ما يعبها ومن التناقضات ما يسمح بإفحام العدو عند استغلالها، فهي على الجاهل سلطة ولعدوه قوة وعزة ومناعة؛ وكل هذا ليس خوفا من العقاب، ولا طمعا في المكافأة، لكن قناعة مني بأنها واهية، وليقيني بعدم القدسية ولا الأزلية، وعدم قدرة قوى الغطرسة على الفعل المماثل لما يصدر مني نظرا لتقلب المصلح والأهواء، ولوثوقي بكل قوى الخير الجادة في السير إلى الأمام من غير مساومة، فأنا أنجز التغيير بكل إصرار وثبات عن اقتدار و جرأة، حبا وطواعية .
علمتني كرامتي أن أترفع عن الخسة مهما كان سياقها برقي من غير تواضع؛ وأن أتفاعل مع غيري ـ لأنه دليل وجودي ومرآتي ـ بما يستحق من التقدير من غير مجاملة، وان لا انحني مهما كلف الثمن و الظروف والملابسات، لما في ذلك من تدليس، ومماراة، وأثر في ما يشكل متصور الحقائق النسبية، بلا تحيز ولا مهادنة.
علمتني كرامتي الوقوف عند المشترك الإنساني من الثقافة والأديان وقيم الإنسان، في مناصرة المظلوم ولو كان عدوي، والاعتراف بالاختلاف ولو مع نقيضي، و القيام بالواجب بما يسمح بالحق في الحياة والرفاهية لكل البشر: السابقين بعدم الانشغال بمحو آثارهم، والمعاصرين بتقدير انجازاتهم وتثمينها، واللاحقين بالاقتصاد من اجلهم في كل ما يمكن أن يكون بالنسبة لهم مصدر طاقة وكرامة ورغد معيشة، وأن التزم ذلك في إجلال مشروعيتهم في تقرير المصير عن قدرة، والتمتع بالصحة والمعرفة والشغل والمسكن عن جدارة، من غير أن أغبطهم أو لأدعي عليهم المنة.
علمتني كرامتي أن أقف عند هذا المشترك بالعمل على إلغاء كل أنواع الإبادة المادية والمعنوية والتاريخية، سواء كانت حالة فردية أو جماعية؛ مع أني لا أملك إلا سلمي وجسدي، والمشترك من الأفكار والعواطف لا زيادة، مع اختلاف مصادرها: من التعامل والعقيدة، والثقافة والحكاية الشفوية،فلا العلوم ولا الأديان ببؤر مدارس ومداهب من غير فرقة بأنواع من الشراسة.
علمتني كرامتي إن كانت أمي أول من جعلني أسمي الأشياء كلها من غير حنكة، بما في ذلك ما يخص الشأن الوجداني والديني والعقيدة ، أن لا أصير عبدا لنعم ولو مرة ، ولا أسير صنيع و لا هدية؛ وأن أبين للأشجار كيف تموت واقفة عن إصرار وباختيار ومحض إرادة، وليس بفعل الأيام وتقلبات صروفها بين الري والمسغبة، وللجبال، كيف تمارس الثبات والصمود بقوة الأنفة، وليس فقط بفعل الطبيعة؛ وللبحار كيف تحدث الرهبة والمهابة بقوة الحركة الهادفة من غير استكانة، مع الامتنان لها بجميل الإيحاء والإثارة ؛ وإن كان أبي أول من أدهشني بالمثال والقوة ففي فرديته بكاء الأسد في الأجمة، ولذلك لا عرس بدون الجماعة.
علمتني كرامتي أنني لا أسكن لغتي، بل هي التي تسكنني وتشتغل عبري ضمانا للاستمرارية؛ ولا جهتي، بل أنا من حولها متكلمة، ولا ديني وإنما هو ما يملك مني الحياة والمظاهر الوجودية ، ولا لوني لأنني أمنحه البقاء بالوراثة، فلولاي لكانت في حيز العدمية رغم أنها جمعاء تميزني؛ ومنها غيري يتمثلني ويتصورني؛ من غيرأن أكونها وإلا فإنني مجرد نسخة. وأنا لذلك كله، أسمو بنفسي عن كل أنواع الميز والعصبية، وأحرص على الصرامة في قضية الهوية، فهي زبد تواريخ : قيم خبز وملح، وآمال ودموع، وأفكار ومذاهب مشتركة، هي مسألة مصدر ومآل مشترك بين جماعات متلاحقة و متدافعة.
علمتني كرامتي أن لا أثق إلا بفلسفة التاريخ ، لأنها تتجاوز تاريخ الأشخاص، إلى المشترك في مسيرة الحياة مهما تبدل الأقوام وتوالت الأحقاب ؛ فرأيي لا تنتجه وسائل الإعلام، بما تعمل على بنائه من حقائق ووقائع في إطار الإيهام بصدق المرجعية، ودعاوي البعد عن الغائية المتحكمة في حسن الصنعة. فهذه العوالم المتخيلة قد تداخل المشاعر والأفكار، وتوجهها، وتجعل المأساة معرض صور، والإبادة من المبتذل اليومي، والمعتاد الذي لا يستحق التفاتة، فتصبح الضحية قربانا قدرها الآلام والمحن ، ولا مسؤولية. من غير ان يكون هذا عدم اكتراث ومتابعة، ولا عي في الإدراك والغربلة.
علمتني كرامتي أن العلوم و الحقائق نسبية، وهذا ما يحدث تقدم الإنسانية، ويجعله واقع لا ريبة، فوق العوائق والموانع والعرقلة، كما يفرض عدم الحركة المجانية. ولأنني أومن بالحقائق من غير يقين، وبالظروف والسياقات من غير ثبات، وبالتطور من غير رجعة، فلا مكان للعشيرة ولا للقبيلة؛ ولذلك تجدني ملزما بنفي عقلية المغامر وكذلك المقامر، فالأول مدعاة للانتكاسة، والثاني للسخرية؛ فإن كنت أرفضها من الأقدار لأنها تبرأت منها وحملتني المسؤولية، فلن أقبلها لا بالعشوائية ولا بالارتجالية.كما أتبرأ من كل وسم بالذهنية فهي مدعاة التقليد والتقهقر نحو البدائية، وانسانيتي تأبى الوقوع في عمق الهاوية وأنواع العصبية.
علمتني كرامتي أن الذل والمهانة تعود وعادة، وأن الخضوع سلبية مهما كانت المراوغة، وعليه إن كان السلم اختيارا، فهو عن قوة متأهبة جارفة، وإن كان الحوار ضرورة، فهو عن كفاءة وندية ؛ وأننا بنو الانسانية ان حصل اتفقانا على تجاوز اننانيتنا في وسعنا الحياة بزخمها، من غير دم، ولا حروب بالنيابة عن القوى العظمى بأمثالنا، وعن الشركات المتكالبة على مقدرات الشعوب المزعوم أنها على أمرها مغلوبة، ولا عن الطغم الحاكمة المستبدة، والزاعمة عنوة أنها للملل والأوطان والأبدان منا ومن غيرنا حامية، وللثوابت مثبتة، وللوحدة والاستمرارية ضامنة، وكأن التاريخ واقع عنها في غفوة سواء في الغرب أو لدى المشارقة، في السهل والجبل، في الريف والمدينة، في التل والواحة.
علمتني كرامتي أن لا أدين بولاء، وان أسعى الى راحتي ضمن سعادة الآخر بكل أنفة من غير تبعية ولا شعور بالدونية. فالكرامة هي أس الأخوة، والسعادة ؛ لأنه بالاحترام لا بالخوف تفرض العدالة، وبعيدا عن البركة واستحضار القرابين الوقائية من اللعنة، تتحقق المواطنة والهوية بكل ديمقراطية. وعلمتني أن التسلط يُسَوِّقُ الأشياء عملاقة من غير ظل ولا صورة، ولا لون ولا رائحة بفستان الحقيقة العذراء المتسامية عن الانتهاك، الملفوفة بحجب القدسية؛ لكنني خبرت منذ الصبا أن العملاق خرافة سخيفة ، وأن الصادق في كل حكاية: مشترك ثقافي و ديني، يتجلى بهيا لعين الطفولة والفتوة ، يتجلى في أن المعارك لا تنتهي ولا بطولة الجماعة ، ولا الحب في ربيع المواطنة بكل القيم الماثلة شخوصا للحكاية، الملهبة للغواية بالحياة الجميلة، وإعلان التمرد بكرامة للأجيال القادمة، لأن دولة المواطنة كما أراها ـ من زاوية الكرامة ـ لا تقوم على التمييز في الحقوق والواجبات، في الاعتقاد والتعبير والحرية، وأحكام الظروف والضرورة، ولأن الوطن مشروع سعادة الجميع من غير عبودية.


مكناس في 15 /06/2013
د.محمد بكراوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما أسباب توقيف سعدية مصباح رئيسة جمعية تدافع عن المهاج


.. هل تجهض أميركا عضوية فلسطين بالأمم المتحدة ؟ |.. سامويل وربي




.. عقبة قانونية جديدة أمام بريطانيا تعرقل نقل طالبي اللجوء لرون


.. نتنياهو عرقل الصفقة ومستعد للتضحية بالأسرى الإسرائـيليين.. ا




.. علم إسرائيل يرفع على الحدود المصرية.. ورفح بين المجاعة والقص