الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم الذرية المنطقية لدى برتراند راسل

هيبت بافي حلبجة

2013 / 6 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نقض مفهوم الذرية المنطقية لدى برتراند راسل
هيبت بافي حلبجة
كنت أود أن أنتقد برتراند راسل أولاُ في مؤلفه مبادىء الرياضيات ( برينكيبيا ماتيماتيكيا ) الذي ألفه مع صديقه ألفرد نورث وايتهيد ، لكني آثرت أن أنتقضه في مفهومه الذرية المنطقية أولاُ ، ثم أعود لاحقاُ لتلك المسألة ، وذلك لإن ( الذرية المنطقية ) تكشف عن عدة جوانب جوهرية تهمنا كثيراُ في هذه المرحلة من رؤيتنا ( نحو تصور فلسفي جديد للكون ) .
إن الواقعية الجديدة التي ينتمي إليها برتراند راسل ، أدمسون ، توماس كيز ، أخذت أبعادها بصورة أعمق على يد جورج أدوارد مور في مقال له نشر عام 1903 ( تفنيد المثالية ) ، وأستندت في جوهرها على محتوى الواقعية المباشرة التي تؤكد إن الإنسان يدرك الأشياء ( الواقع المستقل عن الذوات ) كما هي بصورة مباشرة ، وتبريرهم في ذلك هو معيار التجريبية التي أسسها كل من جون لوك ، جورج باركلي ، ديفيد هيوم ، توماس ريد الذي أصل لمفهوم واقعية الإدراك الفطري .
برتراند راسل ، في دفاعه عن الواقعية المباشرة ، نأى بنفسه عن المثالية الهيجلية ، وهاجم بقوة مع جورج مور المثالية الذاتية التي وقع فيها جورج باركلي حينما تصور أننا لاندرك العالم المستقل عن ذواتنا ، وندرك فقط محتويات وعينا الذي لايمكن بأي شكل من الأشكال أن يتجاوز ذاته ويثقب الأشياء في ذاتها . لذلك فإن معرفتنا ليست إلا محتوى الوعي لدينا .
ورغم إن راسل هاجم الأطروحة السابقة لدى باركلي ، ورغم منافحته عن الواقعية المباشرة ، كرر مراراً إن المادة ليست موضوعاُ مباشراُ للمعرفة ، لأننا لانعي سوى معطيات حواسنا .
وليته توقف عند هذا الحد من الطرح العام ، ففي مؤلفه ( تحليل العقل ) وفي معرض حديثه عن النفس البشرية أكد إن هذه الأخيرة ليست إلا مجموعة من أفكار تتعلق فقط بتلك المعطيات الحسية ، لأنه ، وحسب راسل ، لايوجد شيء أسمه العقل ، كما لايوجد شيء أسمه المادة .
قد يبدو ذلك غريباُ جداُ من راسل الرياضي الكبير ، لكن من المحبذ أن نعي ذلك من خلال هذه الملاحظات الثلاثة الأساسية في ذهنيته الرياضية والفلسفية والعلمية :
الملاحظة الأولى : أن الفلسفة لديه ليست جدلية أستنباطية ، ليست مبادىء خالصة لوجه ذاتها ، وليست قادرة على تطوير نفسها بنفسها ، لأنها بكل بساطة رهينة البعد التجريبي الذي هو الحارس الأمين في تقديم البرهان والدليل على محتواها ، وهذه الرؤيا كانت مقلوبة لديه في البدايات ، أي أنه كان يجزم إن الفلسفة مستقلة عن الأشياء وعن التجريبية ، أي أنها جدلية وأستنباطية .
الملاحظة الثانية : لقد أصر على إن ما وراء الفيزياء ليس إلا مناقشة وخصام حول موضوعات فارغة من المعنى ، من المحتوى ، من النتائج ، حيث يطيب لكل فئة أن تستقطب الجدل في ميزان متحرك مخالف لصاحبه ، وتقدم ماتشاء من ( المعنى ) في سبيل التكلم ، في النهاية ، عن لاشيء ، عن فراغ .
الملاحظة الثالثة : وكذلك بدا مقتنعاُ إن الكليات تطرح نوعاُ من المشاكل التي تعتاز إلى أساس ، أو حسب تعبيره ( إن مشكلة الكليات هي مشكلة بغير أساس ) ، أي إن الأنسان لايملك ضوابطها الأساسية ، ولا المقدمات الفعلية للمنطق ، وبالتالي لابد من التجريبية .
وهو في الحقيقة ، وبعد مراجعتنا الدقيقة لمعظم مؤلفاته ، تأكدنا أنه لايلغي مضمون الكليات ولا مفاهيم الميتافيزيقيا ، إنما هو لايثق بنتائجهما ، أي كانت تلك النتائج ، وبالتالي هو يؤكد إن الكليات هي مشكلة بغير أساس ، وإن الميتافيزيقيا فارغة من المعنى .
كل ذلك بسبب تخوفه من عدم أتساقية ( حد الأحتمال ) الذي أرهبه إلى درجة أنه يعتقد إن العلم الطبيعي ، العلم التجريبي هو الوحيد الذي بأستطاعته ضبط هذا الحد ، لأنه لايعبر إلا عن الواقع كما هو ، في حين إن الكليات والميتافيزيقيا تتضمن أمكانية أحتمالات غير منضبطة وذات كثرة متباينة ، لذلك يؤكد أنه لامعرفة إلا من خلال منهج العلوم الطبيعية .
وهكذا ، ولجنا من الباب الخلفي في الموضوع الذي نروم إليه ، أي العلاقة ما بين الفلسفة ، والعلم الطبيعي ، والمذهب التجريبي ، ومحتوى التعددية ، ومضمون العلاقات الخارجية والعلاقات الداخلية ، والذرية المنطقية ، وحتى المذهب التحليلي ( اللغوي ، الرمزي ، الوقائعي ) .
ولاأخفي عن القارىء إن سبر أغوار منظومة برتراند رسال قد كلفني جهد ثلاثة أشهر دون أنقطاع ، وذلك لأنه قد ترك أرثاُ كتابياُ لامثيل له في التاريخ الفلسفي . وفي كل مرة كان يتأثر بهذه الشخصية أو تلك ، مثل هيحل ، لايبنتز ، مور ، لودفيج فتجنشتاين الذي من خلال مقولة شهيرة له ألهم راسل محنوى الذرية المنطقية ( إن العالم هو المجموع الكلي للوقائع وليس للأشياء ) ( لأن المجموع الكلي للوقائع يعين ما هو موجود فعلاُ وكذلك كل ماهو غير موجود ) .
في البداية طعن في مذهب فرانسيس هربرت برادلي الذي تبنى في مؤلفه ( المظهر والواقع عام 1893 ) مفهوم العلاقات الداخلية وأعتقد إن الواقع ليس إلا وحدة متناسقة تذوب التناقضات فيها من خلال التجربة الشخصية ، حيث أن تلك الوحدة تدرك (بضم التاء ) بالتناظر وليس بالتحليل العقلي .
فطرح راسل ، مقابل ذلك ، موضوع العلاقات الخارجية ، ومحتوى التعددية ( العالم يتكون من ذرات مستقلة عن بعضها البعض وتربط فيما بينها علاقات خارجية ) ، والتمييز ما بين الذات والموضوع .
ثم عدل هذه الرؤيا بما يناسب دالة – الذرية المنطقية – ( إن العالم يتألف من معطيات حسية ترتبط فيما بينها بعلاقات منطقية خالصة ) .
دعونا نقتبس هذا المقطع لتتضح الرؤيا وفق مفردات رسل نفسه في مؤلفه مشاكل الفلسفة عام 1912 مع التنويه إن المعطيات الحسية هي حسبه ( اللون والشكل .. ) أي كل مايصدر عن ( الفيزيقي ) دون ( الفيزيقي ) نفسه :
( المنضدة الحقيقية – إذا كانت ثمة منضدة حقيقية – ليست هي نفس ما يقع في خبرتنا مباشرة خلال النظر أو اللمس أو السمع ، فالمنضدة الحقيقية – إذا كان ثمة منضدة حقيقية – لاتكون معروفة بطريقة مباشرة على الأطلاق ، بل ينبغي أن تكون أستدلالاُ لما نعرفه بطريقة مباشرة ) . ص 34 .
( على الرغم من أننا نشك في الوجود الفيزيقي للمنضدة ، فلايمكن أن نشك في المعطيات الحسية التي تجعلنا نعتقد بوجود المنضدة ، فنحن لا نشك ، ونحن ننظر إلى المنضدة ، في لون معين وشكل معين يظهران لنا ، ولا نشك ، ونحن نضغط عليها ، في أحساس معين بصلابة نختبرها بأنفسنا ) ص 34 .
إن هذا التصور ، الذرية المنطقية ، لاتصمد في الحقيقة أمام أي رؤية نقدية :
المجال الأول : إن رسل لايميز ما بين موضوعين مختلفين في أقراره مفاد المعطيات الحسية ، الرموز ، اللغة ، الوقائع ، فهذه المفردات من زاوية معانيها تتضمن أولاُ : فعل المعرفة النفسي وثانياُ : موضوع المعرفة اللانفسي ، فإذا كان الأول يرضخ بالضرورة للمعطيات الحسية ، جدلاُ ، فهذا يقذف به نحو الذاتية ، النسبية ، اللاموضوعية ، مجال الخطأ ، مجال تجاوز حد الأحتمال الأمر الذي مقته راسل ولأجله أستقرض ( منهج العلوم الطبيعة ) لكي يقدح في الفلسفة التأملية النظرية .
وإذا كان الثاني يرضخ بحكم الأمر الواقع ( حواس الأنسان ، أحاسيسه الباطنية ) ، جدلاُ ، للمعطيات الحسية ، فإن ذلك لايتعدى مجال معين ومحدد يأتي بعده دورالمادة المدركة الواعية ( العقل ، الذهن ، الوعي ) ، كما أنه مستقل عن الوعي وعن الذات العارفة وعن معطيات الحواس .
المجال الثاني : لكي لانقع نحن في خطأ قاتل ، ينبغي أن نمايز في أحضان الفلسفة التحليلية ما بين خاصية كل فرع من فروعه ( رسل ، مور ، رايل ، زدم ، آير ، أوستن ، فيشجنشتاين ) ، وتحديداُ مابين المعطيات الحسية ، ومسألة الوقائع ، فهذه الأخيرة بعكس الأولى ، تستطيع أن تكون مقدمة صحيحة ، أو دليل طبيعي ، أو أثبات متأخر ، ضمن مفهوم أو قاعدة نحن نجزم بها ( الوقائع لاتبقى ثابتة ، هي نفسها ، على طول الخط التاريخي أو الكوني ) .
المجال الثالث : إن العالم ، حسب رسل ، يتألف من معطيات حسية ترتبط فيما بينها بعلاقات منطقية خالصة !!! حقاُ لاأدرك كيف تورط رسل في هذا الجنوح ، إذا كنا إزاء علاقات منطقية خالصة ، فأننا إزاء علاقات موضوعية ، فأننا إزاء علاقات تمارس ذاتها بذاتها ، فأننا إزاء ألغاء الذات العارفة كمحتوى فلسفي ، أي أننا إزاء ألغاء المعطيات الحسية !!
المجال الرابع : لكي لانغمط على برتراند رسل حقه في الدفاع عن نفسه ، ندافع عنه في حدود المعقول ، فهو كرياضي بارع ومتمكن ينظر إلى المعطيات الحسية وفي علاقتها مع ( الأشياء ) من نفس زاوية التكامل الرياضي ، ومنطقه ، وحدوده ، وهذه الرؤيا ، في بعدها البنيوي ، صادقة نسبية ، لولا أمرين مختلفين ، الأول : نحن نعتقد ( وسوف نحلل ذلك مستقبلاُ ) إن 2+2 لايساوي أربعة أبدأ إلا إذا كنا أرسطوين ، الثاني : إن محتوى الدالات الرياضية يختلف من حيث الطبيعة والبنية عن محتوى الدالات في المعطيات الحسية .
المجال الخامس :إن العالم ، حسب رسل ، يتكون من ذرات مستقلة عن بعضها البعض وتربط فيما بينها علاقات خارجية !!! مرة ثانية يغدو راسل ضحية لمنطقه الرياضي ، كما أنه لم يدرك مفهوم العلاقات الخارجية ، ففي الكون لاتوجد علاقات خارجية ، إنما هي دائماُ علاقات تكاملية ، كما لاتوجد ذرات مستقلة حتى لو كانت ذات وحدة خاصة ، لذلك نقول دائماُ ، ولكي نكون في أمان في الرؤيا العامة ، ينبغي الأنتقال من مفهوم الطبيعة إلى مفهوم الكون ، الأنتقال من مضمون ( المعنى اللامتحرك ) إلى ( المعنى المتحرك ) ، الأنتقال من نيوتن إلى آنشتاين إلى ما بعد آينشتاين . ( إلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشر ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفلسفة في ثلاثة أشهر
ناصر حمدان ( 2013 / 6 / 19 - 22:09 )
الفيلسوف العظيم بيرتراند راسل كتب أكثر من 70 كتاباً، علاوة على مئات المقالات والمحاضرات في حياته التي امتدت لحوال المائة عام حتى وفاته في العام 1970، وكان أكثر الفلاسفة والمثقفين نزاهة فكرية فقد غيَر أفكاره مرات شتى عندما وجد أن الأدلة لا تدعم ما يقول.. و منها بعض آرائه المبكرة في بدايات القرن العشرين التي يجادل حولها كاتب هذا المقال..لكن ما يثير السخرية هو زعم الكاتب بأنه أمضى ثلاثة أشهر كاملة لسبر أغوار هذا الفيلسوف رغم ضخامة إنتاجه التي لا يضاهيها فيلسوف آخر في التاريخ، علاوة على ترجمة تلك الأفكار والرد عليها.. فقد نفهم أنه قرأ له كتاباً أو أثنين أو عشرة في تلك المدة القصيرة وفهما من بين مئات الكتب والمقالات لهذا الفيلسوف، لكن أن يزعم بأنه سبر افكاره على عمقها وتعقيدها فذلك أمر غريب حقاً، ولكن من حسن حظ الكاتب أنه يكتب باللغة العربية حيث هناك فقر فلسفي و معرفي كبير، ومن سوء حظنا نحن.


2 - كم كتابا قرات او الفت
مصطفى ( 2013 / 7 / 21 - 12:17 )
اشكر الكاتب على ماكتبه وهو يعبر عن رايه الخاص ...لكن
كم كتابا قرات له؟
كم الفت كتابا في الفلسفة؟
هل قرات سيرة حياته قبل ذلك وهلا عرفتنا بها اولا ؟
ماهي ظروف كتابته لهذا الكتاب او لهذه المقالة ؟
انصحك بان تكتب ونقرا كتاباتك ثم بعد عمر مديد سنرى تحليلاتك ونقدك


3 - كم كتابا قرات او الفت
مصطفى ( 2013 / 7 / 21 - 12:19 )
اشكر الكاتب على ماكتبه وهو يعبر عن رايه الخاص ...لكن
كم كتابا قرات له؟
كم الفت كتابا في الفلسفة؟
هل قرات سيرة حياته قبل ذلك وهلا عرفتنا بها اولا ؟
ماهي ظروف كتابته لهذا الكتاب او لهذه المقالة ؟
انصحك بان تكتب ونقرا كتاباتك ثم بعد عمر مديد سنرى تحليلاتك ونقدك

اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة