الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنف في الشرق الأوسط: بين السوسيولوجي والديني

عزيز مشواط

2013 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كل عنف يمارس على الإنسان إنما هو اغتصاب، اغتصاب لهويته، لشخصيته، لحقوقه، لكرامته ولإنسانيته. والعمل العنيف هو، بأدق المعاني، فعل ‘غَصب’.. هكذا يعرف معجم ديمتري لافروف العنف.. وإمعانا في قتامة التعريف يضيف هذا المعجم الفريد توضيحا ‘إن مأساوية الوجود ليست في كون الإنسان فانيا، بل في إمكانية أن يكون قاتلاً’.
لماذا استعادة هذا التعريف في هذا التوقيت بالضبط؟ لأن منسوب الأحداث الدموية التي تشهدها منطقتنا الشرق أوسطية في ارتفاع مستمر، ولأنها تحتل الرتبة الأولى في أخبار الموت المتواتر من كل جهاتها، ولأن أخبار الصباح القادمة من سورية، العراق، مصر، تونس وليبيا وغيرها مليئة برائحة التفجيرات والقتل. العنف الناتئ من المنطقة يبعث فعلا على القلق، لكن إلى جانب هذا القلق المنبعث، ينبثق عدد غير محدود من الأسئلة: لماذا يرتفع منسوب العنف في منطقة الشرق الأوسط؟ هل هو فعلا ثابت حيوي وجوهري في البنية الثقافية والنفسية لسكان المنطقة؟ هل هو فعلا رديف لحياة الناس العضوية والنفسية والبيولوجية؟
تفرض هذه الأسئلة العودة إلى ذلك الجدل الكلاسيكي الذي كان طرفاه ذات حوار فلسفي، كلا من توماس هوبز شاهرا مقولته الشهيرة ‘الإنسان ذئب لأخيه الإنسان’، وفي الطرف الآخر يستكين روسو مدافعا عن الطبيعة الخيرة للإنسان.. وان المجتمع والحضارة هي التي تزرع الضغينة والحقد. ليس الهدف هو العودة إلى ذلك الجدل الفلسفي العميق حول الطبيعة البشرية، وليس الهدف أيضا تعميم الخطاب على تخصصات علمية مختلفة، لكن طبيعة الإشكال وتعقيداته تجعل بعض التخصصات العلمية تحاول تبرير العنف الإنساني بصفة عامة.
ليس من الصعب أن نجد بعض من يبرر العنف. ففي الانتروبولوجيا قد يقول قائل لتبرير العنف انه ‘من الناحية الانتروبولوجية مكون مركزي من مكونات التاريخ الإنساني، وحتى من الناحية البيولوجية يتفق المهتمون على أهمية قدر معين من الدافعية العدوانية لحفظ الحياة. كما أن العنف من الناحية الثقافية، لا يقتصر على مكون إثني أو عرقي أو ديني دون آخر. إن وجوده عبر التاريخ الإنساني ثابت جوهري.’
كلام من هذا القبيل درج على استخدامه الكثيرون، في منطقتنا العربية، لمجرد التبرير. صحيح ليس هناك عنف في معزل عن الحياة.. لكن تاريخ الإنسانية ليس سوى بحث متواصل عن التحكم في العدوانية وفي العنف، وتطويعه وتصريفه، من أجل المساهمة في الحركة البناءة للتاريخ.
وبالعودة إلى منطقة الشرق الأوسط، سيظل حلم تفكيك أسباب العنف المتصاعد فيها، حلما علميا على مدى الأجيال القادمة. إنها منطقة مليئة بالألغام المؤسسة على التفاعلات الصعبة بين مختلف مكوناتها، ورغم التقدم الحاصل على مستوى التطور الإنساني فإن تفكيك الأساطير المؤسسة للعنف في المنطقة لا زال يحتاج إلى مجهودات استثنائية. حاول تفسير العنف بمنطقة الشرق الأوسط، سوسيولوجيون، سياسيون، اقتصاديون ورجال دين وغيرهم… لكن هذه القراءات ظلت عند مستوى معين من التحليل أو اقتصرت على مقاربة أحادية الجانب.
فمن الناحية السوسيولوجية، تركز هذه القراءة على العوامل الاجتماعية. وفي الوسط الأكاديمي لعلم الاجتماع غالبا ما يتم ربط الظاهرة بأبعادها الاجتماعية. وهكذا يصبح العنف مرتبطا بدوافع سوسيواقتصادية مترابطة بنيويا. ولم تر هذه المقاربة التي تطورت مع تطور الأدبيات الماركسية في الدين سوى تعبير عن شقاء اجتماعي، وعن ايديولوجية تعكس صعوبة العيش. وبهذا المنظور فإن القضاء على العنف رهين بالقضاء على المشاكل الاجتماعية.
في هذا السياق، لا يتوقف الخطاب السياسي عن تكرار اللازمة الاقتصادية نفسها: العمل، السكن، التعليم، وحرية التعبير كمقومات أساسية لضمان القضاء على العنف، الذي يتدثر تحت غطاء الدين ويرتدي طابعا دينيا. وعلى وجاهة القراءة السوسيولوجية للعنف، إلا أنها تظل عاجزة عن تقديم مقاربة متكاملة، لأن الفاعلين الرئيسيين للعنف في العالم لم يعودوا من الفئات المحرومة. إن المتطرفين الكاثوليك غالبا ما انتموا إلى الفئات الأكثر غنى. كما أن المتشددين الإسلاميين الذين نفذوا العديد من العمليات الدموية في العالم نشأوا في بيئات يمكن أن نصفها بالرفاهية المستندة الى أموال البترودولار.
العديد من الشواهد العملية تثبت أن للعنف ارتباطات أخرى، وان البعد العقائدي حاضر باستمرار، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط. وهذا ما يدفع الكثيرين إلى القول بأن التحليل السوسيولوجي الصرف للعنف بالمنطقة تعتريه العديد من النواقص، إذ أن الاكتفاء بالمقاربة السوسيولوجية، سيجعلنا نقفز على عدد من الحقائق التاريخية الثابتة المهيئة للعنف في المنطقة.
إن منطقة الشرق الأوسط هي أرض كل الديانات التوحيدية، ولا يمكن القفز على هذه الحقيقة عند مقاربة مستويات العنف وشدة انتشاره بالمنطقة. وعلى هذا الأساس فإن دراسة الدين كمنتوج متاح للبشرية يقدم تصورات للحياة والوجود، يفتح الباب واسعا لمناقشة الظاهرة الدينية وعلاقتها بالعنف، باعتبار شروط إنتاجها الموضوعية، وليس باعتبارها معطى منزّلا وأبديا.
تشترك الأديان التوحيدية في مجموعة من الثوابت تجعلها متطابقة من حيث مرتكزاتها الأساسية، إنها تشترك في المقدس والمطلق والتضحية. هذه المرتكزات الثلاثة تشكل البذور الأولية لكل فعل عنيف، وهي نفسها المنطلقات التي تجعل إمكانية ربط العنف بالدين ربطا بنيويا مسألة قابلة للاحتمال. وهنا يجب التركيز على ثلاث نقاط رئيسية يمكن إجمالها في أثر المطلق الديني، ومفهوم التضحية والنقاء العقائدي.
يشتغل العامل الأول في علاقته بالعوامل السوسيولوجية، مفاد ذلك أن العناصر الأساسية للتوتر تعود إلى متطلبات الحياة من قبيل الأرض والماء والمصادر الطبيعية للعيش والثقافة والتربية. وبقدر ما تشكل هذه العوامل بوادر للعنف سوسيولوجيا تصير أكثر خطورة عندما يضفى عليها طابع التقديس، فتصبح هذه العوامل محمولة على محمل التقديس المطلق.
يمنع هذا التقديس على المؤمنين به أي فرصة للتفاهم. فإذا كانت القضايا الخلافية ذات الطبيعة الإنسانية يمكن حلها عن طريق التفاوض وتبادل المصالح، وإذا كانت النزاعات على الأرض يمكن أن نلجأ فيها إلى إعادة ترسيم الحدود، وإذا كانت المطالب الاجتماعية تحل عن طريق التعويض واقتسام الثروات وإعادة هيكلة الحقل الاجتماعي، إذا كانت كل المجالات تخضع للأخذ والرد وللتفاوض سيكون من اليسير حل المشكل إنسانيا.
لكن عندما يتدخل الدين ليرفع التوتر من مستواه الزمني إلى قضايا ذات حمولة مقدسة ومطلقة، فإن إمكانية المصالحة تصير مستحيلة، إذ تصبح عوامل التوتر حاملة لقيم لا يمكنه معها لا التفاوض ولا التنازل ولا اقتسام الحلول. ويصير المشكل أبديا ومؤديا في الغالب إلى الموت تحت مسميات الشهادة، والموت في سبيل الله.
إن تحويل الأمكنة المتنازع عليها إلى أمكنة مقدسة، وجعل بعض المدن مقدسة يضفي عليها طابع اللازمني، وعندما يتم النظر إلى جنس بشري معين وكأنه الجنس المختار، أو خير أمة أخرجت للناس، فإن الصراع لا ينتهي إلا بمجازر ومذابح إثنية وعرقية تحت مسميات الجهاد والشهادة وتحرير الأرض المقدسة والدفاع عمن اختارهم الله أمته المفضلة.
إن مصدر العنف الرئيسي الذي يفتك بمنطقة الشرق الأوسط، الذي من المنتظر أن تتضاعف حدته في كل لحظة، ناتج بالأساس من الامتداد الديني المكثف. فالمنطقة برمزيتها كمكان لأهم الديانات التوحيدية مرشحة لمزيد من التوترات. وكلما ازدادت الدول ذات البنيات السياسية الملتجئة إلى التجييش الديني، ارتفعت حدة التوترات. ففي المنطقة دول تتبنى الإسلام السياسي، سواء في صيغته السنية أو الشيعية في صيغه الأكثر تطرفا، وحتى إسرائيل التي كان الغرب يقدمها باعتبارها الدولة الأكثر ديمقراطية اتجهت في الآونة الأخيرة إلى التراجع في اتجاه سيطرة التشكيلات الدينية، وصولا إلى الإعلان عن يهودية الدولة.
من الأكيد أن التوجهات الدينية لدول المنطقة تجعل التربة خصبة وملائمة للانفجار في اي لحظة. وبالقدر الذي يزداد فيه الوضع تأزما في المنطقة، تتجه الأنظمة إلى العواطف الدينية لضمان وحدتها الداخلية المهددة. ففي إيران لا يزال المتشددون يمارسون عمليات إعدام مكثفة على أساس ديني، من خلال اتهام المعارضين بتهديد قيم الثورة الخمينية التي أسست للدولة الدينية بإيران. وفي السعودية ورغم جو الانفتاح الذي يحاول النظام السعودي التأسيس له لا تزال الغلبة للأفكار المتطرفة التي أسسها الفكر الجهادي الوهابي. وفي العراق تهيمن الطائفية الدينية على كل مناحي الحياة الإنسانية. وعرفت مصر اعتداءات على خلفية دينية على مكون مهم من مكونات الشعب المصري وهم الأقباط. وبالجزائر قتل أكثر من مئة ألف شخص على خلفية دينية بعد أن انفجرت أوضاع البلد على خلفية قرب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية.
مهما اتجهت التحليلات نحو هذه الجهة أو تلك يبقى العنف نفيا للآخر وتدميرا لإنسانية الإنسان. وقتل شخص في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب بأكمله مسألة فيها نظر يقول فيكتور هيغو. لذلك فإن التفكير يجب أن ينصب في منطقة الشرق على حل المسألة الدينية. صحيح أن الدين ثابت جوهري في هوية شعوب المنطقة، لكن الإنسانية التي عانت من ويلات الحروب الدينية انتهت إلى ما يمكن أن تشكله العلمانية في هذا الصدد من إضافة قد تكون مفيدة.
قد يخاف البعض مما تشكله العلمانية من خطر على الأديان، إنه تصور خاطئ، لكنه مستمد من تاريخ العلمانية الذي ارتبط بحركة التنوير في الفكر الغربي الذي كان يعتقد بأن الإله مفهوم من إنتاج العقل الخالص، أو أن الفكر الديني اغتراب للإنسان في العالم الإلهي.
من أجل تجاوز الفهم المزيف للعلمانية لا بد من النظر إلى الأديان كظاهرة إنسانية، وهنا تصبح العلمانية متصالحة مع الدين. إنها تتيح لجميع الناس حرية الاختيار المبنية على الحرية الفردية والشخصية، لكنها بالمقابل تقف سدا منيعا أمام التيارات التي تحاول باسم الله التضحية بحقوق الإنسان. وهنا لا يكون الله سوى مبرر وواجهة يرفعها المستبد الذي يتخفى وراء الديني بحثا عن شرعيته المفتقدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -