الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض مفهوم الحقيقة لدى سارتر

هيبت بافي حلبجة

2013 / 6 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نقض مفهوم الحقيقة لدى سارتر
هيبت بافي حلبجة
مما راعني في فكر جان بول سارتر أن العمق الفلسفي لديه ليس شاقولياُ فقط ، بل هو متعرج ، سابح ، متموج ، يغوص ، يطفو ، هو فنان تشكيلي يستخدم كل الألوان ليمنح القيمة الجمالية للون واحد لايتغير ، لايبتعد عن ذاته ، يمتص كل الألوان الأخرى ليفرغها من محتواها ويضفي إلى نفسه شوق وضياء أدوار تلك الألوان .
سارتر ، الذي لايضجر مطلقاُ من الدفاع عن وجوديته ، عن ذاتيته الفردية ، لايسأم من الأسهاب والذهاب من المجرد إلى المشخص ، ومن المشخص إلى المجرد في عملية التحليل ، ولا يتوانى مطلقاُ في التركيز التام على محتوى المعاناة في الواقع البشري وعلاقة هذا الأخير بمضمون العمل ( أما الفلسفة الوجودية التي أقدمها لكم ، فهي تقول أن لاواقع خارج العمل ... أن الإنسان ليس إلا المشروع الذي يتصوره ، ووجوده هو مجمل ما حققه ) .
قد تبدو هذه العبارة بسيطة ، وهي كذلك ، لكنها تختزل ( سارتر ) في كل مؤلفاته ، وبدونها سيظهر سارتر أعرجاُ ، فاقد الإحساس ، مائت المعاني ، سيما وأنها جوهر الشعور الباطني لديه من جهة ، ومن جهة ثانية أنها عمق ( السقوط ، اليأس ، والقلق ، والمسؤولية ، والأختيار ) ، ومن جهة ثالثة أنها من محددات فكرة الألتزام الحر الذي به يحقق الأنسان ذاته من خلال تحقيقه نموذجاُ خاصاُ به ، وكأن هذا النموذج هو الإنسان المتحقق ( بفتح القاف الأولى ) ، ومن جهة رابعة هي أهم بعد في مفهوم الحقيقة ( الحقيقة الشعورية ) لدى سارتر . لتوضح المسألة اكثر :
يقول سارتر في مؤلفه الوجود والعدم في الصفحة 21 ما يلي : فما يقيس وجود الظهور هو أنه يظهر ، ولما كنا قد حصرنا الواقع في الظاهرة ، فإننا نستطيع أن نقول عن الظاهرة أنها كما تظهر ، فلماذا لا ندفع بالفكرة إلى حدودها ونقول إن وجود الظهور هو الظهور .
وهذا الظهور الذي يقصده سارتر ، والذي يكفيه أنه يظهر ، هو الجانب المفارق والمتميز عن كل القيم ومحددات العالم المادي ، عن كل ما هو بعيد عن الكوجيتو ، وعن الذات الفردية ، وعن الشعور الباطني ، وعني ، وعنك ، كوننا ذوات شعورية ، وهو ما يربطه سارتر بمفهوم الكرامة التي هي جزء شخصاني من وعي الذات بعيداُ عن ( الطاولة ، الكرسي ، الشجرة ) .
وهذا الظهور الذي هو التجلية المطلقة لنفسه ، للشعور ، للنفس ، للباطنية ، للوعي ، يمثل كينونة نقطة البداية في الفلسفة الوجودية ، والتي هي الذاتوية . التي بها تتحقق محتوى ( الحقيقة ، وحتى الحقيقة المطلقة ) ، ذلك المحتوى الذي تحدده وتنجبه ( حقيقة ) الكوجيتو ( أنا أفكر أذاُ أنا موجود ) .
هذا الظهور ، الذي لابد له أن يظهر وإلا ما ظهر ، هو شرط وعي الشعور لذاته ، هو ركن تحقق وعي الشعور لذاته ، هو كينونة هذا الوعي ، هو حقيقة هذا الشرط ، الركن ، الكينونة ، وعندما يعي الشعور ذاته بهذا الشكل ووفق هذه التجلية ، فأننا ، حسب سارتر ، إزاء مفهوم الحقيقة ، الحقيقة المطلقة ، الحقيقة الشعورية المطلقة .
إذاُ ، الحقيقة ( الحقيقة المطلقة ) هي فقط ، وحصراُ فقط ، حينما يعي الشعور ذاته ، من هنا تحديداُ يقول سارتر في مؤلفه ، الوجودية مذهب أنساني ، كل نظرية تبدأ بالأنسان خارج نطاق لحظة وعيه ذاته ، هي نظرية تخفي الحقيقة ، لأن كل الموضوعات خارج كوجيتو ديكارت ليست أكثر من محتملة ، والأحتمال لايعني ضرورة الظهور ، وبالتالي هو خارج محتوى الحقيقة .
ويستنبط سارتر من ذلك مقولة أساسية تتعلق بمحتوى الحقيقة ، وهي أن هذه الأخيرة ( الحقيقة المطلقة ) موجودة فعلاُ ( وكان الأجدر به أن يستخدم تعبير أنها ذات كينونة فعلية وإلا ما أصبحت حقيقة ) ، كما أنها بسيطة ، وهي فعلاُ بسيطة لو كانت رؤيته صادقة . ولأنها كذلك يمكن ان يبلغها كل أنسان ، والوصول أليها يتحقق من خلال أمكانية أدراك الإنسان لذاته أدراكاُ مباشراُ .
وهذا الإدراك المباشر الذي هو تحديداُ تجلية الظاهرة ، والذي يدل على الذاتية التي تسمى عادة الذاتية الفردية ، يكشف كشفاُ أنطولوجياُ على مستوى الشعور والوعي ، عن ذات الآخر أيضاُ ، أي إن الإنسان لايكشف عن ذاته فقط من خلال الكوجيتو ، إنما يكشف ، بنفس المستوى ، عن ذوات الآخرين التي ، وكأنها ، حسب سارتر ، تشارك الذات الواعية الفردية ، مهمة كشفها بالذات ، وهذا أمر في غاية الأهمية القصوى بالنسبة لسارتر ، لإن بدونه لايمكن للمفاهيم الوجودية ( القلق ، المسؤولية ، الأختيار ، السقوط ، اليأس ) أن تأخذ أبعادها الفعلية ، وتتحول ، لنفس المعنى ، إلى مفاهيم فارغة ، جامدة ، لا وجودية .
وربما لهذا السبب تعييناُ يخرج سارتر عن المألوف ليصرح طواعية وليهشم جدار الفصل ما بين الوعي ، والوعي الآخر دون جرح الذات ( وعندنا إن الكوجيتو ، بعكس كوجيتو ديكارت أو كانط ، يجعلنا ندرك ذاتنا أمام الآخرين ، وإن وجود الآخر وجود محقق أمام وجودنا ، فهو كوجودنا ) .
أي إن سارتر يستند إلى الكوجيتو ليهمس في آذاننا : أنني أكشف عن ذات(ي) ، وبكشفي عن ذات(ي) أكشف عن ذات(ك) ، وعن ذات(ه) ، وأكشف عن ذاتي أمام ذاتك ، وأمام ذات(ه) ، وأكشف عن ذاتك أمام ذاتي ، وأكشف عن ذات(ه) أمام ذاتي ، لإن ذوات الآخرين ضرورة لوجود ذات(ه) ، فالذات ليست شيئاُ إن لم يعترف بها الآخرون ( وأنا لو شئت أن أعرف شيئاُ عن نفسي ، فلن أستطيع ذلك إلا عن طريق الآخر ، لإن الآخر ليس فقط شرطاُ لوجودي ، بل هو كذلك شرط المعرفة التي أكونها عن ذاتي ) .
الأمر الذي دفع بسارتر أن يستنبط أستنتاجاُ مستتراً في مقدماته وصريحاُ في ذهنيته ، وهو إن نمايز ما بين طبيعة الأنسان ومسألة ظروفه ووضعه ، ولابد ( وهذا هو الأستنتاج ) أن نتحدث عن ظروف الإنسان ووضعه بدلاُ عن طبيعته .
هذه الرؤيا السارترية لايمكن أن تصمد إزاء الحيثيات التالية :
الحيثية الأولى : لاادري ، حقيقة لاأدري ، كيف يمكن للكوجيتو السارتري أن يملك بعداُ أعمقا ومغايرا من الكوجيتو الديكارتي أو الكانطي عن طريق القسر والإكراه ، فمقولة أنا أفكر أذاُ أنا موجود ، هل تدل على إن( ك) أنت موجود أيضاُ ، وهل تدل على إن(ه) هو ليس فقط موجوداُ إنما تدل على أنني موجود بالنسبة ل(ه) ، لأنني أحتاج إلى أعترافه بي . فكيف يمكن للكوجيتو ، وهو ذاتي فردي ، أن يشبع هذا الدور !! أفلا يتجاوز الكوجيتو ذاته ، وكل الحدود المنطقية المرسومة له !!
الحيثية الثانية : إذا كان ( وجود الآخر هو شرط وجودي ، وهو شرط معرفتي بذاتي ) ، فهل هو نابع عن ( أنا أفكر أذاُ أنا موجود )ي أنا ، أم هو نابع عن ( أنا أفكر أذاُ أنا موجود)ه هو، فإذا صح الثاني لدل ذلك على أن ( أنا أفكر أذن أنا موجود )ي لايخصه هو ، إنما يخصني أنا لوحدي ، وكذلك ( أنا أفكر أذاُ أنا موجود )ه لايخصني إنما يخصه هو . وإذا صح الأول وقعنا في أحبولة الإشكالية الإولى .
الحيثية الثالثة : يقول جان بول سارتر إن الحقيقة المطلقة هي حالة شعورية بحتة تتعلق بمحتوى الوعي للذات ، وهي تدرك ( بضم التاء ) أدراكاُ مباشراُ . قد نتفق معه إن الحالة الشعورية تدرك أدراكاُ مباشراُ ، لكن من غير المعقول ومن غير المقبول أن نوافقه على إن هذه الحالة تجسد الحقيقة المطلقة ، وكيف ستمثل الحقيقة المطلقة وهي ، حسب سارتر نفسه ، سلبية تماماُ في أبعادها الأنطولوجية ، لأنها لاتعبر إلا عن الجبن واليأس والسقوط والقلق والأستسلام ( مؤلفاته : دروب الحرية ، الأيادي القذرة ، الوجود والعدم ، الغثيان ) !!
الحيثية الرابعة : ثم متى تحقق الحالة الشعورية الحقيقة المطلقة !! أين هو محتوى التغير في هذه الحالة !! لذلك أعتقد إن سارتر قد أرتكب حماقة ما بعدها حماقة ، ولم يدرك التمايز ما بين موضوع الشعور وبين الإحساس بالشعور نفسه ، فالأول يتغير ، يغدو سلبياً ، يصبح إيجابياُ ، يلتزم بحالة حيادية ، ينفعل ، يشتط ، والثاني هو تعرف الإنسان على ( شعوره ) ، ومن الواضح إن سارتر يذيب الأول في الثاني ، ويجعل من الثاني موضوعاُ رياضياُ صرفاُ دون أن يعي أن عناصره ليست واحدة من شخص لآخر ، دون أن يدرك أن عناصره ليست واحدة لدى الشخص نفسه في زمنين متباعدين !!
وهنا قد يوثب سارتر من رمسه ليؤكد جازماُ أنه لايقصد كل هذه الأمور ، إنما عنى فقط حالة أدراك الشعور لذاته ، وربما يكون ذلك صحيحاُ ، لكن هذا سوف يمثل حالة تجريدية عامة فارغة كأنك تقول أنني أبصر !! ونحن ندرك كم يمقت سارتر هذه الحالة التي تطيح بكل منظومته الفكرية من جذورها ، وكم أغرق نفسه ومنظومته في المشخص ، ودليلنا على ذلك أسهابه في تلك الموضوعات التي لم يمل منها أبداُ ( القلق ، السأم ، الخنوع ... ألخ ) .
الحيثية الخامسة : يدرك سارتر إن هذه المسائل السابقة فيها شيء من الصعوبة لذلك يطرح أطروحة تسعى أن تمتص هذا التناقض ، فيقول أن من الأفضل الحديث عن ظروف الإنسان ووضعه بدلاُ عن طبيعته ، وقد تتغير ظروفه وأوضاعه التاريخية ، فقد يولد عبداُ في مجتمع بدائي ، أو قد يولد سيداُ أقطاعياُ ، أو بروليتارياُ ، لكن ما لا يتغير أبداُ هو ضرورة أن يوجد في العالم ، وضرورة ان يكدح ، وضرورة أن يموت ، وهذه الضرورات ليست ذاتيه وليست موضوعية أنها ذاتية وموضوعية معاُ ، فهي موضوعية لأننا نلقاها ونصادفها في كل مكان ، وهي ذاتية لأنها جزء من حياة الإنسان ، وهي ليست شيئاُ إن لم يحبها الإنسان ، إذا لم يحدد هو نفسه بحرية ، لم يحدد وجوده بالنسبة لها .
أنظروا إلى حجم التناقض : هل ظروف الإنسان هي التي تخلق حالة ( الحقيقة المطلقة ) !! يجيب سارتر بالإيجاب ، لكن إذا كانت ( الضرورات ) ذاتية وموضوعية ، فإن ( الظروف والأوضاع ) ذاتية بحتة ، ومن هنا فإن المشترك ما بين الشخص والآخر ليس إلا ( الموضوعية في الضرورات ) ، في حين إن الذاتية في الضرورات وكذلك ذاتية الظروف والأوضاع لاتخلق عناصر الأشتراك ما بين الشخص والآخر ، وهكذا فإن الكوجيتو هو موجود في جهة لكن تأثيره موجود في الجهة الثانية !! وبما أننا نعلم أهمية كشف الشخص للآخر وأعتراف الآخر بالشخص في أطروحة سارتر الأساسية ، الكوجيتو ، ندرك على أثر ذلك مدى أنهيار مفهوم الحقيقة لدى سارتر . ( إلى اللقاء في الحلقة العشرين ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي يحذر من خطورة عمليات إسرائيل في رفح| #مراسلو_سكاي


.. حزب الله يسقط أكبر وأغلى مسيرة إسرائيلية جنوبي لبنان




.. أمير الكويت يعيّن وليا للعهد


.. وزير الدفاع التركي: لن نسحب قواتنا من شمال سوريا إلا بعد ضما




.. كيف ستتعامل حماس مع المقترح الذي أعلن عنه بايدن في خطابه؟