الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض البرهان الأنطولوجي للقديس أنسلم

هيبت بافي حلبجة

2013 / 7 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



القديس أنسلم الكنتوربري ( 1033 – 1109 ) الذي أستند في برهانه الأنطولوجي على مقطع في الكتاب المقدس ، من المزمور ( 13 : 1 ) : ( قال الجاهل في قلبه : ليس إله ) أي لايوجد إله ، ينطلق من الإيمان الصرف ، الإيمان المفعم بما يعتمل في الوجدان ، وما يجيش في ساحة الشعور ، الإيمان الذي يقتضي الشيء الكاشف لذاته أقتضاءاً حتمياً ، ولايحتاج إلى محاكاة عقلية ( أنا أرغب في أن يبلغ فكري ، بشكل من الأشكال ، الحقيقة التي يؤمن بها قلبي ويحبها ) .
وتلك الحقيقة التي يؤمن بها قلبه ويحبها لا تختلف مطلقاُ ، إلا من زاوية البعد الوجودي ، عن تلك التي عن طريقها وبها يعلن الرب عن نفسه في ( الخروج 3 : 14 ) ( أنا هو الذي هو أنا ) ، ولا تتباين أبداً عن فكرة ديكارت ولايبنتز والتي حسبها إن الوجود بحد ذاته هو جوهر وجود الرب الذي أوجده وكأنه كائن من تلقاء ذاته ، ولا تتفارق عن فكرة سبينوزا و هارتسبورت ، والتي مفادها إن الرب يكشف عن وجوده لأنه الكائن من تلقاء ذاته .
وأنسلم ، الذي قدم ثلاثة براهين أخرى على وجود الرب مخالفاً بذلك أطروحته الأساسية السابقة بتقديمه فحوى العقل والبرهان على الإيمان والعرفان عن طريق منطوق التدرج في الكمال ( الخير والموجود الأول ) ، لم يشتهر إلا من خلال البرهان الرابع والذي سماه ، هو بنفسه ، دليل العظمة أو الدليل الأوحد ، والذي سمي فيما بعد بالدليل الأنطولوجي .
ولكي نوغل في الموضوع أكثر ، لامندوحة من أن نؤوب إلى الوراء قليلاً ، وأنظروا إلى قوله الصارم والبات : أنا لا أحاول أن أفهم لأؤمن ، فأنا أؤمن لكي أفهم ، لأني أؤمن أيضاً أني لن أستطيع الفهم إذا لم أكن أؤمن .
وهاهو يبتهل إلى الرب : الحمد لك أيها السيد الطيب ، الحمد لك ، لأن ما سبق لي أن آمنت به بفضل عطائك أدركه الآن ، بعد أن أستنرت بضيائك ، وإني أدركه جيداُ إلى درجة أني لو شئت أن لا أؤمن بأنك موجود ، لما أستطعت أن أدرك ذلك .
هذا هو أنسلم الذي قدم إلى المعرفة البشرية مضمون برهانه الأنطولوجي ، برهانه الناجم عن إيمانه أولاُ كمدخل إلى مفهوم أسميه عقلنة الإيمان ، وهذا هو أنسلم الذي يعرف الرب أنه الكائن الذي يستحيل أن نتصور كائناُ أعظم منه ، أنه الكائن الذي يستحيل أن يوجد ما هو أعظم منه ، لأنه هو الكائن اللانهائي المطلق الموجود من تلقاء ذاته .
إذاُ ، لكي نقدم برهاناُ على وجود الرب على غرار أي صيغة كانت ، لامناص ، حسب القديس أنسلم ، من الإيمان الذي إن غاب غابت معه أي قدرة على التبصر الحقيقي تجاه الرب ، أو تجاه أي محاولة عقلانية في الإحاطة بالمعرفة التي تؤدي إليه أو التعرف به .
والآن بما أننا لانستطيع أن نتصور كائناُ أعظم من الرب فهو يجسد ضرورتين في ضرورة واحدة ، ضرورة أنه قائم في ذهننا حتى لو لم ندرك ذلك ، أي حتى لو كنا نجهله ، بل حتى لو أنكرناه ، وضرورة
أنه قائم في ذهننا وفي الواقع الفعلي ، لأنه لو كان قائماُ في ذهننا فقط ، لأمكننا ، حسب أنسلم ، التفكير في كائن آخرأكثر كمالاُ من الرب ، وهذا مردود .
أضف إلى ذلك ، إن مقولتنا ( أننا لانستطيع أن نتصور كائناُ أكبر منا ) تدلل على إن الرب كائن في الفعل وفي الذهن ، لأن الكائن الموجود في الفعل وفي الذهن معاُ اكمل من الكائن الموجود في الذهن فقط ، كما أنها ( مقولتنا ) تضمر أمراُ مستتراُ وهو إن ذلك الكائن الأعظم ، الأكبر ، الأكمل هو الرب نفسه .
وهذا البرهان الأنطولوجي الذي قدمناه للتو ، يظهر على الشكل التالي حسب تعابير القديس أنسلم نفسه ، مما لاريب فيه أن ما لانتصور أعظم منه لايمكن أن يوجد في الذهن فقط ، لأنه لو كان موجوداُ حقيقة في الذهن فقط ، لأمكننا أن نفكر أنه موجود في الواقع أيضاً ، هذا وجود الأعظم . وعلى هذا إذا كان الموجود الذي لايمكن أن نتصور أعظم هو ما نستطيع أن نتصور أعظم منه ، وهذا مستحيل ، أذاُ ، ومما لاشك فيه ، إن ما لانستطيع أن نتصور أعظم منه موجود في الذهن وفي الواقع على حد سواء .
ويستطرد أنسلم ، لايمكن أن نتصور شيئاُ لايمكن تصوره غير موجود ، وهذا أعظم من تصور شيء غير موجود ، وإذا أمكننا أن نتصور ما لانستطيع أن نتصور أعظم منه غير موجود ، لايكون ما لا نستطيع أن نتصور أعظم منه ما لانستطيع أن نتصور أعظم منه ، وهذا تناقض ، إذن ما لا نستطيع أن نتصور أعظم منه موجود بالفعل ، ولايمكن تصوره غير موجود .
دعونا ، قبل أن نبدأ النقد ، أن نقتبس من أميل برهييه نسخته في مؤلفه تاريخ الفلسفة ، ص 51 الجزء الثالث ، أننا نؤمن بأنك شيء لايمكن تصور شيء أعظم منه ، أفمثل هذه الطبيعة لاوجود لها ، لمجرد أن الأحمق ( المشار إليه في المزمور سابقاُ ) قال في نفسه : الرب غير موجود .
غير إن هذا الأحمق إذ يسمع ما قلته ( شيء لايمكن تصور شيء أعظم منه ) يفهم على أي حال ما يسمعه وما يعيه موجود في عقله ، حتى لو كان لايفهم إن هذا الشيء موجود ، وأن يكون الشيء موجود في العقل شيء ، وأن يكون موجوداُ في الواقع شيء آخر .
ويردف أميل برهييه ، ومن المؤكد إن الموجود الذي لايمكن تصور شيء أعظم منه لايمكن أن يوجد في العقل وحده ، وبالفعل ، حتى إذا كان موجوداُ في العقل وحده ، فمن الممكن أن نتصورموجوداُ مثله له وجود في الواقع ايضاً ، وهو بالتالي أعظم منه ، وعليه ، إذا كان موجوداُ في العقل وحده ، فإن الموجود الذي لايمكن تصور شيء أعظم منه سيكون من طبيعة تستلزم أن يكون بالأمكان تصور شيء أعظم منه .
هذا هو البرهان الأنطولوجي لدى القديس أنسلم ، والذي ننتقده من النواحي التالية :
الناحية الأولى : أنسلم لايميز ما بين التصور النظري والتصور الواقعي ، أنت تسطيع أن تحيط بتصورك كائناُ من كان على المستوى النظري حتى لو أعياك المستوى الواقعي ، بل أبعد من ذلك فالتصور النظري ورغم أغترافه من محدودية التصور الواقعي ، يتعداه مباشرة ليؤصل بعداً لانهائياُ في الفكر والفلسفة والعلوم والحياة الطبيعية ، ولولا التصور النظري لما تقدمت العلوم وتطورت المعارف وما توصل القديس أنسلم إلى برهانه الأنطولوجي .
الناحية الثانية : إذا كان الشيء لايستطيع أن يتصور ما هو أعظم منه ، فكيف تسنى لأنسلم أن يؤمن بداهة بوجود الرب ، أي قبل الوصول إلى هذا البرهان !! يا ترى إلى ماذا أستند حينها !! فلو زعم ، وهذا هو الأرجح ، أنه آمن لأنه موجود في شعوره ، وهذا ليس خطاُ مطلقاُ ، لكن كان ينبغي أن يدرك إن التصور الذهني شيء ، والشعور وسيما الشعور المجتمعي والتاريخي شيء آخر ومستقل .
الناحية الثالثة : ما هو محتوى ( أعظم ) ، هل يستطيع أنسلم أو غيره أن يعرفوا هذا المضمون بالدقة على مستوى البرهان الأنطولوجي ، ثم هل الأنسان يحتسب أنساناُ بجسده أم بهيكله أم بمرتبته أم بوعيه ، أليس هذا الأخير هو عنوان فكر الإنسان !! ثم ماذا لدى أنسلم سوى النبات والحيوان والإنسان والإله الإيماني ، ونعلم إن النبات والحيوان لايملكان طاقة أدراك الإدراك وبالتالي لايملكان ملكة التصور البحت ، وبالتالي هما خارج التحليل الأنسلمي لأن الإله ليس إلا تصوراُ بحتاُ بالنسبة للكائنات الأرضية ، وهكذا لايبقى سوى الإنسان و ( من ) سوى ذلك الإله الغائب والضروري في ذهن ذلك الأحمق الجاهل في المزمور ، وهكذا ينتفي مفهوم الأعظم هنا ، لإن القاعدة التاريخية تهشمت وتحطمت .
الناحية الرابعة : هو يقع في مصادرة على المطلوب ، هو يؤمن بالرب الذي يهديه إلى وضع برهان لأثبات وجود هذا الرب ، بل أبعد من ذلك ، إنه يؤكد لولا إيمانه بالرب لما تمكن أصلاُ من القيام بالتحليل المعرفي والرياضي والعلمي والفلسفي ، وما فتحت له تلك الأبواب الموصودة بأمر الرب .
الناحية الخامسة : ما الذي دفع أنسلم إلى الإيمان ، لو ذكر وجود أي دافع كان لقلنا له مباشرة أنك تقع في تناقض ، لإن الرب ، حسبه ، موجود في الذهن حتى لوأنكرناه ، ولو أنكر وجود أي دافع لقلنا له هذا تناقض أكبر وأعظم ، لأننا نلج هنا في مصيدة الإمكان الذي قد يتحقق ، وقد لا يتحقق .
الناحية السادسة : إذا كان مجرد أنني لا أستطيع أن أتصور شيئاُ أعظم مني ، يستلزم وجوده الخارجي ، فأفلا يعني ذلك أني أقيم إيماني على محتوى الممكن أو الإمكان مرة ثانية من جهة ، ومن جهة ثانية هناك ، ربما ودائما حسب منطق أنسلم ، كائنات كثيرة وعديدة لا أستطيع أن أتصورها فهل هي موجودة بالضرورة في ذهني وبالتالي هي موجودة في الذهن وفي الفعل ، وما هي هذه الكائنات التي لا أدري لاجنسها ولا نوعها ولا مرتبتها ، لكني فقط ، وحسب أنسلم ، أسميه الرب لأنه قد أخترق لمليون سبب وعي المجتمعي وشعوري التاريخي .
الناحية السابعة : يلتقي محتوى البرهان الأنطولوجي لأنسلم مع فكرة ديكارت في منحى إن ثمة معرفة أنطولوجية مسبقة عن الإله الكامل ، وهي التي تفضي إلى الإيمان ، لكن هل هذه المعرفة موجودة ، بالتأكيد أجيب بالتفي ، وهل هي التي تدفع إلى الإيمان حقيقة ، بالتأكيد أجيب بالنفي مرة ثانية ، والجواب الفعلي على هذين السؤالين ، يختزل في الأرتساق التراكمي الحاصل في التجربة البشرية والتاريخ الإنساني . ودليلنا في ذلك هو الوضع التجمعي للأنسان قبل ثلاثين ألف سنة ، حيث غياب أسم الإله ، وغياب مدلول أننا لانستطيع أن نتصور كائناُ أكبر وأعظم من الرب ، وغياب دالة أن الشيء لايستطيع أن يتصور ما هو أعظم منه .
الناحية الثامنة : دعونا نذكر النقد الذي وجهه الفيلسوف سونطاج إلى أنسلم بقوله أنه لم يفرق ما بين النسبي والمطلق ، حيث الإنسان النسبي والإله المطلق ، نحن بدورنا نحترم معنى هذا النقد ، وهو يثير فعلاُ نوع من التناقض الداخلي لدى أنسلم فيما يخص الإطار البنيوي ، لكن ما خلا ذلك ، لا أقبل هذا النقد من الأساس لأن النسبية في الإنسان شيء تعبيري والإطلاقية في الإله شيء تعبيري بنفس الدرجة ، إذ لا أحد يعي تمام الوعي صدق أحدهما في الآخر .
الناحية التاسعة : هو أنطلق من مقدمات لاعقلانية ليستنتج نتيجة عقلانية بأمتياز ، أنطلق من عبارة الجاهل ( ليس إله ) وهي عبارة نفسية شعورية شبه أدراكية صادرة من أحمق ، إلى وجود الإله في الذهن وفي الفعل من خلال ( شيء لايمكن ان يتصور شيء أعظم منه ) . وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والعشرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العقل والدين لا يلتقيان
تيم ( 2013 / 7 / 19 - 11:56 )
اعتقد ان وجود الرب بمواصفات الاديان السماوية هو اكبر دليل على نفيه فكيف يكون حاضرا وهو ما هو اي انه اكبرالاشياء في كون صغيرلايكاد يبين في خلقه


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 7 / 19 - 23:28 )
هل الكاتب ملحد؟... أي لا ديني؟ .
إن كان الكاتب ملحد , فالسؤال :
كيف نشأت الحياه؟... نريد أن يخبرنا كيف نشأت الخليّة الأولى الأساسيّه؟ .
إن كان لا يعلم , و هذا الواقع , فلماذا ينكر شيء و هو يجهل الأساس؟... و إن قال : (نعم) , فنقول له برهن على كلمة نعم تجريبياً و عملياً , و أصنع لنا خليّه حيّه دون دعماً من الخلايا الحيّه؟ .
لا أعلم , لماذا الملحد يلحد , و هو لا يعلم؟!!! .

اخر الافلام

.. لحظة إسقاط مسيرة إسرائيلية بعد استهدافها في أجواء جنوبي لبنا


.. كيف ستتعامل أمريكا مع إسرائيل حال رفضها مقترح وقف إطلاق النا




.. الشرطة تجر داعمات فلسطين من شعرهن وملابسهن باحتجاجات في ا?مر


.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا




.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا