الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وصيد المعنى

نعيم إيليا

2013 / 7 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


" المعنى بناء، وللبناء وصيد، وهيهات أن يتخطى طالب المعنى وصيد البناء إلى عقره".
بهذا تكلم (موسى بن كيفا) الشخصية الأولى في رواية الكاتب وفيق بشارة (وصيد المعنى). وموسى بن كيفا، بطل الرواية، شخصية لاهوتية معروفة استوحاها الكاتب من ذاكرة التاريخ المخرومة؛ ليجعل له منها لساناً يحدِّث به ذاته قبل أن يحدث به ذوات الآخرين، بعد تجريدها من ملامحها الحقيقية.
والمعنى، كما جاء في حديث موسى بن كيفا إلى أحد تلامذته، على ضربين: كبير، وصغير. فعلى الأول هو الغاية من وجود الوجود، وعلى الثاني هو غاية الإنسان من وجوده.
ولأن الضرب الأول عنده من المحال إدراكه بسبب تعلقه بالمطلق الذي، في رأيه، لا يحيط به العقل في هذه المرحلة القصيرة من تطوره؛ فقد عدّى عنه، بعد إذ لمحه بنظرة خاطفة، وانصرف إلى الثاني بهمته فأكبّ عليه وأولاه كلّ جهده.
قال ابن كيفا لتلميذه:
" المعنى الكبير مني ومنك مناط الثريا، وأما الصغير - وإن لم يكن بعيداً بعد الكبير - فإنه عسير مشتجر. وقد رأيت للناس فيه مذاهب ولكن متوازية غير متقاطعة أو ملتقية، فمن قائل: إن الله أحب الإنسان فأوجده على صورته؛ ليحيا بنعمته. وهذا، لعمري!، مذهب لا يستريح إليه العقل، ولا ينقاد إليه الفهم. فلو كان لله وجود، ما خلق الإنسان. فما عسى الله أن يفيد من خلقه!؟
ثم ما المحبة؟ وما النعمة بالإضافة إلى الله أولاً وإلى الإنسان ثانياً؟
ومن قائل: إن غاية وجوده، أن يدأب على تطهير روحه وجسده من الأدران، حتى يصير نقيّاً قابلاً، بفضل نقائه، لأن يلتحم وينصهر بالذات الكلية الخالدة. وهذا مذهب أبعد من الأول عن الفهم والتعقل: فما دام الإنسان منبثقاً في الأصل من الذات الكلية الخالدة، فما الذي لطخ ثوبه بالأقذار؟ بل كيف قدِّر له منذ البدء أن ينفصل عن الذات الكلية الخالدة؟
منذا الذي فصله عنها؟ أهي الذات عينها!؟
ثم ما الأدران؟ ما القذارة بالإضافة إلى الذات الكلية الخالدة؟
ومن قائل: إن الغاية من وجوده، هي الاختبار. بيد أن الاختبار فعل يتضمن الجهل بالمختبَر. فالمبدع آلةً، مثلاً، فإنما يختبرها ليعلم خصائصها. وحاش للمبدع الأول، في حال وجوده، أن يكون جاهلاً بما يصنع!
ولا مفرّ لنا هنا أيضاً من أن نتساءل عما أحوج المبدع الأول إلى صنع آلته؟ فإذا كان الجواب: العبادة، جاء السؤال: وما العبادة؟... لمه؟
ومن قائل: لا معنى البتة "باطل الأباطيل، كل شيء باطل".
ولكن الإنسان موجود، وما كان موجوداً، لا بد له من معنى، وإلا فكيف يظهر إلى الوجود، ما ليس له معنى؟
المطر، الشجر، السحاب، الحيوان، الضوء، الحركة... أكان يمكن أن تظهر هذه الأشياء، لو لم يكن لظهورها من معنى؟
ما معنى المطر؟ أليس له من معنى؟
فإذا كان للمطر معنى الإرواء والإنبات والإهلاك، فكيف لا يكون للإنسان معناه؟
ومن قائل: صحيح أن وجود الإنسان عبث خال من المعنى، غير أن الإنسان يملك مؤهلات وقوى تتيح له أن يضفي على وجوده معنى. إن الإنسان بحسب هذا التقدير، هو الذي يخلق معنى الخلود، ويخلق معنى السعادة، ويخلق معنى العبادة ويخلق معنى الإبداع... ؛ كي يجعل حياته محتملة قابلة للعيش.
ولكنَّ هذا القول، على غرار ما تقدمه من الأقوال، لا نجاة له من الاعتراض: فإن يكن الإنسان خالق كل هذه المعاني، فما الذي ألزمه بخلقها؟ لماذا وجب أن يخلق الإنسان معنى السعادة والاستمتاع مثلاً، ما دام يعلم أن الحياة زائلة لا طائل منها؟ "
ولم يشأ الكاتب وفيق بشارة، أن يتمادى بطله موسى بن كيفا في تساؤلاته واعتراضاته الكثيرة؛ فإنَّ من شأن هذا التمادي أن يورِّث السأم في نفس قارئه؛ فقطع عليه السبيل بأن تخيَّله وقد مسّه التعب، وظمئ حلقه إلى جرعة من الماء، وأوكل لتلميذه أن يفصح عما بقي في سريرة أستاذه من فضلة الحديث:
- الآن فهمت لماذا استعرت البناءَ للمعنى، وجعلت للبناء وصيداً. كأن العقل في اعتقادك عاجز عن اقتحام حقيقة المعنى، فما له غير أن يتلبَّث بوصيده. وآية اعتقادك، اختلاف العقول فيما بينها وعجزها عن الاقتحام. أليس هذا ما رميت إليه سيدي؟
لم ينتظر التلميذ حتى يتلقى جواباً من أستاذه، الذي فرض عليه الكاتب أن يتفرس تلميذَه في هذه اللحظة صامتاً بتدقيق وإمعان، استرسل التلميذ في قوله:
- ولكنك سيدي – واغفر لي جراءتي - سهوت، على الرغم من أنك فنَّدت بحذق جميع التصورات الشائعة وأضعفتها، عن أنّ الغاية من الوجود الإنساني، ليست المآل، وليست الآخرة، وليست المصير وما شاكله من الغايات، وإنما هي قوة قاهرة من قوى الطبيعة مغروسة في خلايانا، هي غريزة تحركنا غصباً عنا فنفهمها، نتحسسها، نعيها، ندرك مغازيها، هي دفة المركب الذي يقودنا إلى شاطئ الحياة. فإذا لم تكن الدفة أو تعطلت، فقد ضعنا وربما هلكنا في اللج غرقاً.
إن غاية الإنسان مقترنة بوجوده؛ أي غاية وجوده عين وجوده.
وليست غايته في أن يخلد، فلا حكمة في الخلود ولا خير؛ إذ هو ثبات على حالة واحدة مضجرة، بل غايته أن يحيا عمره المقدر له من الطبيعة بدءاً من الولادة إلى ساعة الممات. ولتمكين الإنسان من أن يحيا عمره، عمدت الطبيعة إلى منحه أسباب الحياة التي تكرهه على العيش إكراهاً: السعادة، الأمل، الحلم، اللذة، الطموح، النسيان، التذكر، الصداقة، الحب، الإبداع... ولولا هذه الأسباب، التي يخالها بعضهم سهواً غاياتٍ، لفقد الإنسان الرغبة في الحياة عند أول مصيبة تجتاحه.
ومن هنا أجرؤ فأجيز لنفسي أن أقول: لا معنى مفيداً للسؤال لماذا أحيا، وإنما المعنى المفيد في كيف أحيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا حكمة في الخلود؟؟؟
علقمة منتصر ( 2013 / 7 / 21 - 23:45 )
نقرأ في الأسطر الأخيرة من المقالة: (إن غاية الإنسان مقترنة بوجوده؛ أي غاية وجوده عين وجوده. وليست غايته في أن يخلد، فلا حكمة في الخلود ولا خير؛ إذ هو ثبات على حالة واحدة مضجرة، بل غايته أن يحيا عمره المقدر له من الطبيعة بدءاً من الولادة إلى ساعة الممات.)
فما أدراك يا نعيم أن (لا حكمة في الخلود ولا خير؛ إذ هو ثبات على حالة واحدة مضجرة)؟ بينما الإنسان منذ وعى وجوده رفض الموت، وخلق عالما آخر تخيل أن سوف يذهب إليه بعد الموت ليخلد فيه، وهذا كان أهم سبب في صمود الأديان رغم وهميتها. ولكن الوهم عنده أريح. بل أستطيع أن أجزم أن كل ما حققته البشرية من اكتشافات في شتى الميادين كان دافعه الأول محاربة الموت، وتتجه الأبحاث اليوم في سعي حثيث لمعرفة الجينات المبرمجة للشيخوخة، علهم يسيطرون عليها ويعطلوا عجلة السير نحو الموت. تحياتي على هذا الموضوع الممتاز


2 - فكرة الخلود
نعيم إيليا ( 2013 / 7 / 22 - 18:34 )
((فما أدراك يا نعيم أن لا حكمة في الخلود ولا خير، بينما الإنسان منذ وعى وجوده رفض الموت وخلق عالماً آخر...))
أشكرك عزيزي الأستاذ علقمة المنتصر على ملاحظتك القيمة. لا أختلف معك فيما جاء فيها قيد شعرة. كل ما ذكرته على الوجه الذي ذكرته، أبصم عليه بالعشرة.
المشكلة هنا ليست في تمني الخلود والرغبة في الانتصار على الموت، وإنما هي في هل الخلود خير وحكمة حقيقة؟
ما معنى أن تبقى إلى الأبد سعيداً، أو معذباً؟
نحن نعلم أن الأشياء تعرف بأضدادها وتكتسب قيمتها منها. فإذا خلدت، فقد قضيت على الموت. ومتى قضيت على الموت، فقد قضيت على الخلود.
الأبيض.. إذا كان وحيداً لا لون آخر سواه، فما قيمة لونه؟ وكيف يعرف أنه أبيض؟
العذاب في الجحيم إذا امتد إلى الأبد، فكيف يكون عذاباً؟ على أي شيء ستقيس العذاب لتعلم أنه عذاب، ما دام لا وجود هناك إلا للعذاب؟
يحضرني بيت من الشعر وقد يكون لابن المعتز، إن لم تخني الذاكرة:
إنّ للمكروه لذعة همّ... فإذا دام على المرء هانا
عزيزي، لو كان في خلود الإنسان الفرد خير، ما ضنّت الطبيعة عليه به.
مع تحياتي


3 - رواية فلسفيّة
سيمون جرجي ( 2013 / 7 / 30 - 01:09 )
تحيّاتي، أكتبُ كلمتي خجلًا، لأنّي لم أستطع الحفاظ على صمتي.

موضوع هذا المقال، هو عينه موضوع ((خلق العالم))، لكنّه جاءَ ههنا بأسلوبٍ أدبيّ أجمل ممّا جاءَ في المقال المذكور آنفًا، ولعلّه كذلك لأنّه أقربُ إلى روح كتب ((الذّروة)) التي يتمتّع بها كلُّ كاتب أو فيلسوف، فهو يشبه ((هكذا تكلّم زرادشت)) لنيتشه، أو ((النبيّ)) لجبران، أو ((مرداد)) لنُعيمه... وأعتقد أنّه نصٌّ مقتبس من كتابٍ ألّفته أو ما زلت تعمل عليه!

كنتَ فيلسوفًا بارعًا في ((خلق العالم))، وأظهرت ههنا بكلّ إتقان كيفَ يكون الأدبُ الفلسفيّ!

لم أنسَ بدور ولا رسالتك، لكنّ البحث عن الاستقرار أفقدني كلَّ تركيز، وصبَّ جلّ اهتمامي في الرّكض وراء العيش.

دمتَ مبدعًا يا صديقي المفكّر العزيز...


4 - غاية الحياة
نعيم إيليا ( 2013 / 7 / 30 - 08:03 )
عزيزي سيمون
لماذا تبحث عن الاستقرار؟
ألتحيا حياة طيبة معقولة؟ حسن، ولكن لماذا يتوجب أن تحيا حياة طيبة معقولة؟
أنت لن تبقى، سواء أتحقق لك أن تحيا حياة طيبة رخية طويلة، أو لم يتحقق لك أن تحيا إلا حياة بائسة شقية قصيرة؟
فلم بذل الجهد فيما لا طائل تحته؟
من هنا يبدأ البحث عن معنى الحياة؟
وقد عثر الفلاسفة على غايات للحياة، أبرزها الخلود، والسعادة
ولكن، لماذا الخلود؟
ولماذا السعادة؟
هذا هو السؤال الذي أطرحه، وهو يقود إلى نتيجة لا ترى في الخلود ولا في السعادة غايتين للحياة.
فما دام الخلود والسعادة في اعتقاد الفلاسفة غايتين، فلماذا يتقبلان السؤال بلماذا؟
أليس يجب أن تكون الغاية مكتفية بذاتها لا تكون لشيء آخر غير ذاتها؟
ولكن ما هي هذه الغاية التي لا تكون لشيء آخر غير ذاتها؟

أنت تبحث عن الاستقرار، والبحث مهما شق ممتع ومثير
وأنا أكدح من العاشرة إلى الثامنة والنصف مساء مثل حمار، يرغمني على الكدح الدولار
تباً للدولار! متى أتحرر منه؟


5 - وكيفَ؟
سيمون جرجي ( 2013 / 7 / 30 - 10:53 )
عزيزي، البحثُ عن الاستقرار قد يكونُ واجبًا في كثيرٍ من الأحيان، فما دمتُ مضطرًّا إلى استخدام تلك الأوراق النقديّة لشراء الطّعام والكساء ودفع أجرة المنزل وغير ذلك، فأنا مضطرٌّ إلى الحصول على تلك الأوراق اللعينة!
وما دمتُ حاصلًا على أرقامٍ شخصيّة في دولة المؤسّسات هذه فأنا خاضعٌ لها بإرادة أو بغير إرادة، وخاضعٌ لمتطلّباتها ومتطلّبات قوانينها.
لا أعتقد أنَّ الإنسانَ اليوم لقادرٌ على التحرّر من متطلّبات العيش حتّى يستطيع التفكير في الغاية هذا المفهوم الذي عنّى أغلب الفلاسفة والمفكّرين.
لجوء نُعيمه إلى الشخروب في القسم الأخير من حياته كان لهذا السّبب بالذّات، وأعتقد أنّه تحرّر من قيودٍ كثيرة أضنته في عيشة الغرب!
لماذا يجب أن تكون ثمّة غاية من الحياة ومن الإنسان ومن وجوده؟!
ألم تسبق إلى القول في مقالك ((خلق العالم)) إنَّ الغاية من وجود الإنسان هي وجوده عينه؟!


6 - لماذا يحيا البرغوث؟
نعيم إيليا ( 2013 / 7 / 31 - 07:53 )
إذن فالعالم تحكمه الضرورة، ولا خيار للإنسان ولا حرية
وكيف يكون الإنسان حراً، وهو لا يولد باختياره، ولا يموت باختياره، ولا يحيا باختياره؟
لو كان حراً، لاختار ألا يكون. فما فائدة أن يكون؟
فكرة قديمة ولكنها متجددة على الدوام.
المعري وشوبنهاور مثلاً كانا أوضح مثالين للعدمية، وقول أبي العلاء معروف:
غير مجد في ملتي واعتقادي... نوح باك ولا ترنم شاد
ومع ذلك ففد كانا أحرص الناس على حياتهما
لماذا؟
المهم: إن جميع أفعالنا وأشواقنا تتجه نحو غاية واحدة كلية هي نقيض الزوال.
رجل مصاب بالخبيث، ويعلم أنه سيموت بعد يومين ومع ذلك يقاوم المرض وينفق في مقاومته كل ما ادخره من جهده، لماذا؟
برغوث الأستاذ سامي لبيب: لماذا يحيا؟ لماذا يقفز ناجياً بحياته من فرك أصابعه؟
الكائنات الدقيقة التي تحيا فوق سطح جلدنا أو تحته: لماذا تحيا؟
ليس الإنسان وحده مقياس الأشياء، الكائنات حتى ذوات الخلية الواحدة هي مقياس أيضاً.
لماذا تحيا الكائنات الدقيقة؟ هل هناك غير الحياة من هدف وغاية لحياتها؟
أما سؤالك: لماذا يجب أن تكون لنا غاية، فجوابه: إن لم تكن لنا غاية الحياة، فلن نكون.
والكون وجود
ومن هنا تعلق الغاية بالوجود
مع تحياتي

اخر الافلام

.. نتنياهو يرفض الضغوط الدولية لوقف الحرب في غزة


.. أثار مخاوف داخل حكومة نتنياهو.. إدارة بايدن توقف شحنة ذخيرة




.. وصول ثالث دفعة من المعدات العسكرية الروسية للنيجر


.. قمة منظمة التعاون الإسلامي تدين في ختام أعمالها الحرب على غز




.. القوات الإسرائيلية تقتحم مدينة طولكرم وتتجه لمخيم نور شمس