الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض المنظومة الفلسفية لدى يوحنا سكوت

هيبت بافي حلبجة

2013 / 7 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



كلما قرأت مؤلفه ( تقسيم الطبيعة ) أنتابك شعور داخلي رج كيانك على كل الصعد وفي كل الأتجاهات ، فيوحنا سكوت ( أريجين ) الذي يضاهي ، هيجل وماركس ، توما الأكويني والقديس أوغسطين ، هيدجر وفيورباخ ، في تعمقه في وعي روح التثليث المسيحي ( الآب والأبن وروح القدس ) ، وفي أدراك البعد الفلسفي للمعتقد المسيحي ، يفلسف الحياة والطبيعة والوجود والمقولات والكينونة والمعرفة والفلسفة والدين والرب طبقا لهذا التثليث الذي وكأنه المبدأ الوحيد في هذا الكون اللامتناهي .
في مؤلفه ، تقسيم الطبيعة ، الذي يتألف من خمسة أجزاء ، والذي وسمه إتيان جيلسون بالملحمة الميتافيزيقية الكبرى ، يغوص يوحنا سكوت في بيادر الحلولية ليسأل أحد تلاميذه بعزيمة مطمئنة وبلهجة واثقة ( أفستنكر أنت أن الخالق والمخلوق هما شيء واحد ؟ ) ، وكان الأجدر به ، حسب فهمنا لجذور فلسفته ، أن يقول لذلك التلميذ : أفستنكر أنت ، وبعيداُ عن الحلولية ، إن المخلوق هو مخلوق بالوصف ، وخالق بالذاتية ، وكلاهما بالنتيجة .
ومنذ الصفحات الأولى من مؤلفه ذاك ، يؤكد يوحنا سكوت عل طبيعة هذه الفكرة ، ويجزم إن الرب الذي هو علة أولى لكل الأشياء ( الطبيعة الإنسانية ) هو نفسه الطبيعة التي تخلق وليست مخلوقة ، أو بالأحرى إن الطبيعة التي هي تخلق وليست مخلوقة هي الرب نفسه لأنه العلة الأولى للأشياء ، وهذه العلة الأولى هي بحد ذاتها ، من حيث كينونتها أي الطبيعة التي تخلق وليست مخلوقة ، الغاية الكاملة لكافة الأشياء ، الغاية القصوى للطبيعة الإنسانية ، وهكذا يربط أريجين ( يوحنا سكوت ) ما بين العلة الأولى والغاية النهائية ويجعلهما من الناحية الأنطولوجية متماثلتين متعادلتين ، وهذه الفكرة في صميمها ذات دلالة قوية جداُ لأدراك أريجين للمعتقد المسيحي وليتجاوز الإشكالية الإلهية .
لكن ، بالنسبة له ، هذه الطبيعة التي تتمثل في الحد الأول والحد الأخير ( الرابع ) ليست وحيدة بالمفهوم الفكري الإدراكي لأن ثمة الحد الثاني وكذلك الحد الثالث ، وهذه الحدود هي التي تميط اللثام دائماُ عن مرمى وتصور أريجين ، وتضيء تلك المناطق التي تشكو من الغموض أو الظلام الدامس ، وكأنها معادلة فيزيائية ترتجف إزاء حيثيات الطبيعة الإنسانية ذاتها .
فالأسباب والعلل والأفكار الأولى هي الطبيعة المخلوقة التي تخلق الأشياء الموازية لها والمصاحبة لفعلها والمتكافئة لخصوصياتها ، وهي التي تمثل الحد الثاني في عملية تقسيم الطبيعة لدى أريجين ، وأما تلك الأشياء التي تتوالد في الزمان والمكان فهي الطبيعة المخلوقة والتي لاتخلق والتي تؤلف الحد الثالث .
هذا التقسيم بحدوده الأربعة ليس إلآ مرحلة أو شكل يتوازى بنفس القوة والحدية مع إعادة التوحيد ، بمعنى أدق ، إن مفهوم التصاعد والرجعة الذي أستساغه أريجين بفعالية تامة في منظومة رائعة قلما وجدت في المنظومات الفلسفية الأخرى ، لايمثل فقط حالة الحركة الديالكتيكية ولا الحركة التماثلية ، إنما هو أنحدار وأنقسام من جهة ، وأرتقاء وصعود حلزوني من جهة أخرى .
ومن هنا ، وبالتماثل ما بين المعاني ، هو لايعقل الحركة إلا ليذهب من الواحد إلى المتعدد ، ليؤوب مرتقياُ من المتعدد إلى الواحد .
لكن هذا الميكانيزم التصاعدي والرجعي ليس صيرورة قائمة بشكل مستقل تماماُ ، أو بالأحرى ، ليست مستقلة خلا جزئياُ لإن الرب خارج الزمان والمكان يتماهى مع الفعل الوجودي وليس الفعل الحدثي ، ليخلق ( الإنسان ) حسب تعبير أريجين ، لكني أرى أنه كان من المفروض أستخدام تعبير ( الطبيعة الإنسانية ) كي يستقيم الأمر لديه .
وعندما هو يخلق الإنسان ، يخلقه في الفعل الإلهي لإن هذا الأخير هو المصدر أو العلل الأولى لكل الأشياء ، ومن الواضح أن هناك أرتباك لدى أريجين لكن لايوجد ألتباس لأنه ، حتى داخل الزمان والمكان ، يتعامل مع المقولات كما لو أنها كانت خارج الزمان والمكان كأمتداد للرب . لذا هو لايفسر قصة الأنحدار و الأغواء و السقوط ، الجنة الأرضية والحية والثمرة المحرمة ، على طريقة الأخرين وكأنها وجدت فعلاُ ، إنما هو يضفي عليها معنى خارج المكان وخارج الزمان ، بل هو يراها في العقل .
ولماذا هو يرى الأمور بهذه الصورة ؟ هو مضطر أن يتحقق منها على هذه الشاكلة لإن الفكرة الأصلية لديه لاتتعلق بالإنسان بقدر ما تنطلق من الطبيعة الإنسانية ، تلك الطبيعة التي ، ورغم خلقها من الناحية النظرية من قبل الرب ، تحتوي دالة الرب وتثابر على نفسها رغم الخطيئة الكبرى ، وتحتفظ في ذاتها مضمون التثليث الإلهي . وكيف يتسنى لها ذلك ؟ يتسنى لها ذلك لإن الرب خلق ذاته وخلق الطبيعة الإنسانية والملائكة من أجل الإنسان !! ومن هو هذا الإنسان ؟ هو ، على الأرجح ، ذلك الذي من أجله يمسح سيدنا المسيح ( عليه السلام ) الخطيئة الكبرى بدمه أفتداءاُ ، فهو المفدى ، وهو الأبن ، وهو أحد عناصر الشمس ، الأشعة ، الحرارة ، الضياء .
ويؤكد أريجين في مؤلفه ( تقسيم الطبيعة ) إن خلاص كل الأشياء قاطبة ، بما في ذلك خلاص الملائكة ، تابع حقيقي وموضوعي لخلاص ذلك الإنسان . وذلك الخلاص الذي لايمكن أن يصدق إلا من خلال عملية المعرفة التي لايمكن ، بدورها ، أن تتحقق إلا من خلال أندماج الطبيعة المخلوقة في ( الرب ) أندماجاً عضوياُ بنيوياُ ، وهذا هو منطوق العودة إلى الفردوس المفقود .
إذن ، نحن ننطلق من الفردوس ، مرحلة المعرفة التامة ، إلى مرحلة أكل ثمرة شجرة الحياة ، مرحلة الجهل ، إلى مرحلة أفتداء المسيح ، أي عودة الأشياء إلى مبادئها ، أي مرحلة أنتاج المعرفة . وليت الأمر توقف عند هذا الحد ، فأريجين ( يوحنا سكوت ) يضع شرطاُ قاسياُ ، خاصة في الجزء الثاني من مؤلفه ، وهو إن المعرفة هي معرفة الإنسان للرب ، والتي من المستحيل أن تنجز إلا من خلال معرفة الذات البشرية التي من المستحيل أن تتم بدورها إلا من خلال المعادلة التاريخية المعروفة عن أريجين : ليست الفلسفة الحقة إلا الدين الحق ، وبالمقابل فإن الدين الحق ما هو إلا الفلسفة الحقة .
وليته توقف عند هذا الحد أيضاُ ، ففي مؤلفه ( شرح على مارتيانوس كابيلا ) ، يؤكد إن لا أحد يدخل السماء ما لم يكن ذلك عن طريق الفلسفة . وهكذا تصبح الفلسفة شريكة الرب في تقرير مصير الإنسان ، مع شرط جوهري هو التماهي مابين الخالق والمخلوق ، وبتعبير أدق هو التماهي ما بين طبيعة الخالق وطبيعة المخلوق .
وهذا التماهي ، بهذا المعنى ، وبإدراك محتوى المعرفة بالصورة السابقة ، هو مدار الحديث ، لإنه يمثل الصورة الفعلية في إن هذا الإندماج مع الرب ما هو إلا الدفق الحاصل في النفس البشرية التي هي ، حسب أريجين ، ليس إلا صورة التثليث ، والتي لاتعثر على ذاتها إلا من خلال ، أولاُ : تأمل الرب لنفسه وهذا هو الفكر ( النوس ) ، ثانياُ : الوصول إلى العلل الأولى وهذا هو العقل ( اللوغوس ) ، ثالثاُ : معرفة آثار تلك العلل وهذا هو الحس الداخلي أو ساحة الشعور حيث تمارس النفس ذاتها .
وبالمقارنة ، ندرك إن التثليث في النفس البشرية ليس إلا ( تثليث الخالق ) نفسه لكن على سيرورة التماهي ، فالفكر ، حسب تعبير أريجين ، يولد ، من ذاته وفي ذاته، العقل الذي يصدر الحس الداخلي من الفكر ، وهذه هي خلاصة قوله ( إن النفس هي صورة الرب ، والجسد هو صورة النفس ) ، وإذا كان الجسد هو ضرورة النفس فإن النفس هي ضرورة الرب .
ويمكننا ، الآن ، أن نتوجه بالنقد للمنظومة الفلسفية لدى أريجين :
أولاُ : من الواضح إن منظومة أريجين ذات بنيان متراص مع المعتقد المسيحي إذا ما أغضضنا الطرف عن بعض الأرتباك هنا وهناك ، وهو ينسجم أكثر من المعتقد الإسلامي مع مفهوم الثواب والعقاب ، لكن رغم ذلك هو يبني تصوره على أساس توافقي وليس على اساس فلسفي ، هو يقتبس مخططاُ معداُ مسبقاُ وفق صيغ معينة ، طبقاُ لمسوغات محددة ، هو يفصل تفصيلا طروحاته بأتقان وبدقة بالغة وكأنه رسام بل مخترع ألوان ، أي أنه يتناقض مع ذاته ، دون أن يدري طبعاُ أو أن يدرك ، ويضحي بالفلسفة على قاعدة صريحة وهي : إن المعتقد المسيحي هو الباطني ، والفلسفي هو الظاهري ، الشكلي ، وبذلك تغدو أطروحته ( ليست الفلسفة الحقة إلا الدين الحق ، وبالمقابل فإن الدين الحق ما هو إلا الفلسفة الحقة ) على الشكل التالي ( ليست الفلسفة الحقة إلا تابعاُ للدين الحق ) .
ثانياُ : هو محق جدا في أعتقاده إن قصة خطيئة سيدنا آدم هي معنى خارج الزمان وخارج المكان ، وهي باتأكيد كذلك حتى لو أخذناها من منظور التجربة البشرية ، أي حتى لو كان أختراعاُ بشرياُ وهي كذلك ، لكن ثمة تناقض من نوع آخر ، وهو يتجلى في قوله : إن الخطيئة لم تمح تماماُ الطبيعة الإنسانية من الفكر الإلهي . أذن لو كانت الخطيئة أكبر من تلك لكان من الممكن أن تمحي الطبيعة الإنسانية من الفكر الإلهي ، ومجرد وجود هذه الإمكانية التي لايلغيها يوحنا سكوت تقلب الأساس الفلسفي المعتمد لديه ، ذلك الأساس الذي يؤكد على الفكرة التالية : لقد خلق الرب الإنسان بالفعل الإلهي لإن الطبيعة الإنسانية صافية تماماُ داخل الفكر الإلهي .
ثالثاً : هو يستند في بعض طرحه على مفهوم ( التصاعد والرجعة ) أو التقسيم والوحدة ، لكنه في الحقيقة لايعتمد عليه كمبدأ فلسفي ، كمبدأ مستقل بحد ذاته ، كمبدأ يفعل ويتفاعل في التجربة البشرية ، كمبدأ حيوي ينتمي إلى الطبيعة ، إنما هو ، لديه ، وسيلة وأجراء ، أو بتعبير أدق واقعة لشرح الحالة الواهنة ، لتبرير مسألة السقوط والأغواء ، وهاكم قوله الحاسم البات الذي يلغي ذلك المفهوم ( إنزع مني المسيح فلن يبقى لي شيء بعد ذلك ) .
رابعاُ : هو يحاكي ما بين التثليث المسيحي ، الآب الأبن وروح القدس ، وما بين مكونات النفس البشرية ، الفكر ( النوس ) ، العقل ( الكلمة ، اللوغوس ) ، الحس الداخلي ، وكم هذه المحاكاة صادقة لاسيما فيما يتعلق بالأبن وبالعقل ، أي بالأبن والعلل الأولى ، لكن رغم ذلك ثمة فجوة لاتسمح بعبورها وهي إن النفس البشرية ، بعد الخطيئة ، لم تعد هي ذاتها بأعترافه هو ، ودليلنا على ذلك هو ما يؤكده أريجين أكثر من مرة إن الطبيعة البشرية تعود ، في نهاية المطاف ، إلى أسبابها الأولية ، أي أنها الآن في حالة أغتراب وأستلاب حقيقية ، وإذا لم تكن حقيقية فإن أساسه الفاسفي ينهار من تلقاء ذاته .
وهذا النقص الموضوعي في رؤياه أحدث أشكالية خاصة في تعبيره ، ونجمت عنه تجريدية جافة عديمة القيمة أخترقت منظومته الفلسفية بالتوازي ودون قطيعة أو شرخ من البداية حتى النهاية . وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والعشرين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 7 / 22 - 21:04 )
مقاله تحتاج إلى قراءه متأنيّه , و تحقيق , و لكن , السؤال : هل المعتقد المسيحي يتفق مع المنطق العقلي و العلم التجريبي؟ .

اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد